الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اربعة مقالات في الإيمان: (2)

سعدون محسن ضمد

2010 / 10 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المقال الثاني*: فوتوغرافية الوعي

الدين الذي أسس له محمد كان يتغير باستمرار وبحسب الزمان والمكان؛ فالدين في مكة غيره في المدينة، وحتى في مكة كان يتغير باستمرار كلما ازدادت عمليات احتكاك هذا الدين بالمحيط وازدادت بالنتيجة حاجته للانسجام مع هذه العمليات. عندما كان محمد يتعبد في غار حراء كان يتدين، لكن دينه ذاك لم يكن مضطراً لبحث موضوع الزكاة (مثلاً) ولا موضوع الربا، أو موضوع الجهاد، لأنه دين رجل واحد، وسواء قلنا بأن هذه المواضيع كانت موجودة في ذهن النبي لكنه لم يطرحها لعدم وجود الداعي لطرحها، أو لم نقل بذلك، فالموضوع سيبقى واحداً، فأهل مكة ممن كانوا يراقبون محمداً أو يهتمون بشأن دعوته كانوا يتعاملون مع مفهوم الدين بوصفه إطاراً فكرياً وسلوكياً لا يتضمن أبعاداً اقتصادية تتعلق بالزكاة أو الخمس أو توسعية تتعلق بالجهاد. وعندما أخذت دائرة المؤمنين بهذا الدين تتسع أخذ المفهوم يتطور بحسب طبيعة الحراك الفكري والسلوكي الذي تولد بسبب هذا الاتساع، أما عندما انتقل الإسلام من مكة إلى المدينة، فقد تحققت انعطافة كبيرة في مفهومه، إذ تحول من كونه ديناً يسعى إلى بناء ذات الإنسان، على وفق شروط واستحقاقات محددة، إلى كونه ديناً يسعى فضلاً عن ذلك إلى بناء محيط اجتماعي بمواصفات محددة وضمن أهداف وآيديولوجيا واضحة تنسجم مع حاجات قيام دولة فتية.
لهذا السبب عندما تؤمن بمفهوم محدد عن الدين لا تجد له الكثير من المصاديق. مفهوم الدين المرتبط حرفياً بتجربة محمد وزمنه لا ينطبق على مفهوم الدين أيام الخلافة الأموية، ولا العباسية، ولا العثمانية، ولا ينطبق على مفهوم الدين أيامنا هذه. يتغير الدين ـ شأنه شأن جميع الأشياء ـ على أرض الواقع ولا يثبت إلا في أذهان الناس.
من هنا جاء اختلاف المسلمين، فالذين يفهمون الدين بوصفه طريقة الحياة التي كان يعيشها محمد وطبيعة ارتباطه بالسماء، تعاملوا مع الدين بوصفه حالة خاصة ومن ثم جنحوا للتقشف والعزلة عن الناس. أما الذين تعاملوا معه بوصفه قوانين وضوابط شرعت بهدف ضبط الحياة الدنيا فقد جنحوا لعلوم الفقه وتعاملوا مع الدين بوصفه آيديولوجيا يجب أن يعم الإيمان بها المجتمعات جميعها عن طريق نشره ولو بالسيف. وكلا الجانبين يستطيع أن يستدل على رأيه من سيرة النبي محمد، فسيرته في مكة تختلف عنها في المدينة، والدين المرتبط بهذه السيرة أخذ يتعقد شيئاً فشيئاً, وهو ما يعني أن مفهوم الدين كان يتطور حتى في زمن محمد ولا يثبت على حال محددة.
العلاقة بين وعي الإنسان والواقع الذي يعيه كالعلاقة بين جهاز الكاميرا والواقع الذي تصوره؛ فالكاميرا تأخذ صورة واحدة فقط من مجموعة هائلة ومتسلسلة من الصور التي تمثل أحداث الواقع. وإذا أراد المصور أن يبحث عن الواقعة التي سجلتها الكاميرا الخاصة به في لحظة ما، فإنه سيتعب من دون جدوى، فهذه الواقعة لم يعد لها وجود إلا في مكانين؛ في الصورة التي خرجت من الكاميرا وفي الصورة التي احتفظت بها ذاكرته هو..
الفكرة التي تقول: إن الحقيقة الثابتة غير موجودة إلا داخل أوهام الوعي البشري فكرة مُرَّة، ولذلك يرفض وعي البشر التصديق بها. وهذه الفكرة تختصر تجربة التحول التي عَبَرت بي من ثقافة دينية إلى ثقافة لادينية وربما.
إذن ثبات المفاهيم التي ترتبط بواقع متحرك يولد معرفة مشوهة عن هذا الواقع. وهذا ما يحدث بالنسبة للوعي الذي يؤمن بوجود الحقيقة الثابتة، لأن الثابت داخل هذا الوعي هو فقط المعرفة التي يعتقد بأنها تكشف الواقع الذي تحكي عنه كشفاً تاماً، لكن ما تكشفه هذه المعرفة هو صورة قديمة من هذا الواقع، وليس الواقع نفسه الآن أو في المستقبل.
الفكرة التي تقول بأن: الإسلام (المتشدد) هو الصورة الحقيقية للإسلام وأن ليست هناك صورة أخرى أكثر تعبيراً عن هذا الدين غيرها. هذه الفكرة وهمية، والذين يعتنقون هذه الفكرة من المتشددين ويعدونها حقيقة ثابتة لا تقبل التغيير واهمون بالتأكيد. لكن السؤال الجدير بالملاحظة هو: كيف ثبتت هذه الحقيقة؟ والجواب أنها ثبتت لأن المعتنقين لها أخذوا عن الإسلام صورة ملتقطة له في زمن محدد، وتغافلوا عن, أو أغفلوا, صوره الأخرى التي هي صور لا تعد ولا تحصى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه المقالات الأربعة غير مستقلة عن بعضها، بمعنى أنها في الأصل دراسة واحدة قمت بتقسيمها لأربعة أجزاء، لذا يجب قراءة السابق قبل اللاحق، ليتضح المضمون.
وهذا رابط المقال السابق على موقع الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=232014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصورة الحقيقية للإسلام
كامل علي ( 2010 / 10 / 17 - 08:05 )
تحية وتقدير للتسلسل المنطقي لهذه السلسة من المقالات وبانتظار التكملة
في شبابي كنت اتبنى المفهوم الاسلامي للاخوان المسلمون بان الاسلام دين ودولة ويجب تطبيق القالب الذي كان موجودا في زمن محمد في زمننا هذا ولكني اصدمت بالواقع المتغير وادركت استحالة الامر
بعد ازدياد الوعي ادركت وجود عدة صور للاسلام وان الاديان بنت زمانها ومكانها وصورها تتغير بتغير المكان والزمان واخيرا قادني العقل الى الاعتقاد ببشرية الاديان ولكن الخلاص من الوهم لم يكن سهلا البتة


2 - كامل علي
سعدون محسن ضمد ( 2010 / 10 / 17 - 09:27 )
الأخ كامل
كم اعجبتني وأثرت فيّ جملتك الأخيرة، (الخلاص من الوهم لم يكن سهلاً البتة) فعلا يا صديقي ليس سهلا أنك تنزع جلدك وتبدأ من جديد بغزل جلد بديل وبين نزع الأول وانتظار انتظام الثاني يكون عليك أن تبقى عاريا خائفا مرتبكا وبالتاكيد موضوعا للتكفير والقمع وربما القتل.. ذكرتني بأيام الضياع والغربة والمأساة، أيام اكتشفت فيها ان عمرا كاملا قد تم هدره وصار هباء، مجرد هباء..
شكرا للمرور ودمت بعافية


3 - الحقيقة الخالدة
علاء حسين ( 2010 / 10 / 17 - 19:06 )
نختلف كثيرا في تسميته فتارة هو الله وتارة هو المطلق وربما هو المجهول الابدي وهذا الاختلاف بالتاكيد هو اختلاف فهم للحقيقة المدركة عنه فهذه الحقيقة تختلف باختلاف المكتسبات المعرفية المتاحة وحتى المنتقلة حضارياً صديقي(حسب تعبير كارل غوستاف يونغ-الموتيف الحضاري) .اذن للحقيقة المدركة او المستنبطة وجوه عدةمتى ما امنا بذلك نكون قد قطعنا شوطاً كبيرا في التصالح مع هذا المفهوم الله او المطلق سمه ما شئت اعتقد ان هذه مسألة مهمة عند التامل والبحث والاستنباط ولكن اعتقد ان السؤال الاكبر ايهما اكثر نبضاُ بالحياة الحقيقة المراد البحث عنهاولااقصد ابدا عدد معتنقيها بقدر ما اقصد قدرتها على التوالد والتجدد المستمر ولكن برؤى ومفاهيم متعددة تختلف من ادراك الى اخر او من تامل او استنباط او ظرف او حالة...هذه الحقيقة اكثر نبضاُ ام البحث عنها والذي تفنن وتشعب واخذ مسارات ومناهج ورؤى متعددة من ايام السومريين العظام الى يومناهذاان استطعت سيدي العزيزان تجيب على ذلك ستكتشف انها حقيقة خالدة ممتعة تمثل جوهر الانسان....الله تحياتي


4 - علاء حسين
سعدون محسن ضمد ( 2010 / 10 / 18 - 19:43 )
سؤال محير بالنسبة لي، ولا اعتقد بأن الاجابة عنه متيسرة لهذه الدرجة يا صديقي، لكن يبقى البحث أكثر متعة لأنه ينطوي على جوهرة الانقلاب التي هو داينمو الوعي، بالتاكيد ليست كل عملية بحث هي عربة تسير على سكة انقلاب.. سواء كان انقلاب على ثابت غير حقيقي أو مسلمة غير موضوعية، لكن يبق البحث أكثر متعة بل وأكثر جدوى، على الأقل لأن المفاهيم مهما توالدة فانها تموت بمجرد تحدد حدودها، أما البحث فهو حي بحد ذاته.
شكرا لك المرور والتعليق ودمت بمحبة.

اخر الافلام

.. الشقيران: الإخوان منبع العنف في العالم.. والتنظيم اخترع جماع


.. البابا فرانسيس يلقي التحية على قادة مجموعة السبع ودول أخرى خ




.. عضو مجلس الشعب الأعلى المحامي مختار نوح يروي تجربته في تنظيم


.. كل الزوايا - كيف نتعامل مع الأضحية وفكرة حقوق الحيوان؟.. الش




.. كل الزوايا - الشيخ بلال خضر عضو مركز الأزهر للفتوى يشرح بطري