الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وماذا بعد تقديس التاريخ؟!

شيماء الشريف

2010 / 10 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هاجيوجرافي Hagiographie/ Hagiography مصطلح غربي من أصل لاتيني يترجم في العربية إلى تاريخ أو سِيَر القديسين، فرقت به الأدبيات الغربية بين التاريخ Histoire/ History كعلم يدرس الوقائع والأحداث ويدعمها بالوثائق والمستندات، وبين ما يروجه الخطاب الديني المسيحي من قصص لبطولات وسِيَر فردية في أغلبها تمدح بشكل دائم أفرادًا بعينهم وتصور مساندة السماء لهم في صورة معجزات كثمرة طبيعية لعمق إيمانهم، وفي بعض الحالات تصور جهادهم ضد الكفر والظلم، أو تصور استشهادهم في سبيل تمسكهم بعقيدتهم. وتتبنى كل من الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأورثوذوكسية هذا المنهج، وكل منهما لديها سجل عامر يحتوي على أعداد قد تصل إلى الآلاف من القديسين عبر العصور الذين عانى معظمهم من الاضطهاد والتعذيب بسبب العقيدة وقدم أغلبهم حياته عن رضا في مقابل التمسك بها. ويتبنى المذهبان السني والشيعي الإسلاميين جوهر الفكر ذاته رغم أن الأدبيات الإسلامية لا تستخدم كلمة قديس، لكنها تستخدم مصطلحات أخرى مثل الصحابي والولي والإمام وغيرها لتصف شخصيات تاريخية عديدة يبدأ الحديث عنها عادة بلقب سيدنا وينتهي بعبارة رضي الله عنه وأرضاه. ولا تؤمن الكنيسة البروتستانتية بهذا الفكر بتاتا بحكم طبيعة مذهبها الداعي إلى العلاقة المباشرة بين العبد وربه دون أي وسيط وإلى اعتبار الكتاب المقدس هو المصدر الأوحد للعقيدة دون أية مصادر أخرى شفاهية كانت أو مكتوبة، كذلك لا تؤمن اتجاهات إسلامية متنوعة مثل المعتزلة وغيرهم بتمجيد الصحابة والأولياء والأئمة لأنهم في النهاية بشر يخطئون ويصيبون.

ورغم الاختلاف النوعي في التناول المسيحي عن التناول الإسلامي لهذا الفكر، بل ورغم اختلاف التناول بين المذاهب المختلفة في كل من الدينَيْن على حدة لهذا الفكر، إلا أن الركيزة الأساسية له تقوم على تقديس أشخاص بعينهم لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم لأنهم منصورون بعون السماء لهم، وبالتالي فهم أرفع مقاما من البشر العاديين، ولا يحق لمخلوق أن يوجه حتى مجرد سؤال عن مدى صحة البطولات المنسوبة إليهم، فالسؤال أول درجات الشك، وهُم فوق الشكوك.

وقبل الخوض في التفاصيل، لابد من الإشارة إلى أن هذا المقال لا يتناول بأية صورة من قريب أو من بعيد شخصيات الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما ينصب موضوعه فقط على الأفراد العاديين الذين أحاطت بهم هالات تمجيد وتعظيم وتقديس من صنع أهل الأرض وليست من دعم رب السماء.

وإذا كان الفصل في الأدبيات الغربية بين الواقعي والمقدس قد أراح جميع الأطراف؛ فعلماء التاريخ لهم حقلهم الذي لا يتداخل قطعا مع المتخصصين من رجال الدين في سِيَر القديسين والعكس صحيح، فإن الأمر جد مختلف في ثقافتنا العربية.

فالميل إلى تقديس التاريخ أمر طبيعي في ثقافتنا العربية، نمارسه وكأنه فرض ديني، بل لقد أعطى بعض رجال الدين المسيحي وبعض علماء الدين الإسلامي لأنفسهم الحق بإضافة دروس التاريخ إلى خطبهم الوعظية، فخرج مزيج عجيب ومدهش لبعض الوقائع التاريخية بعد أن تمت إعادة إنتاجها بشكل أسطوري، فنـزلت الملائكة لتحارب جنبا إلى جنب مع البشر في بعض المعارك، وغسَّلت الملائكة بعض الشهداء، ومُنح أحد المحاربين الأتقياء أجنحة ليطير بها بعيدا عن أعدائه، كما مُنح الآخر سيفا من أحد الملائكة لكي يصبح محاربا لا يُقهر، ووقفت بعض الشخصيات النسائية ليخطبن ويعظن بل ويغنين بأعلى صوت وبجرأة مستحيلة الحدوث في حضرة قُوادٍ وحكامٍ وأمراءٍ في أزمنة كانت قيمة المرأة فيها أقل من قيمة البعير والمنقولات التي يملكها أبوها أو زوجها، كما أحاطت النيران ببعض الشخصيات دون أن تحرقها، ونقلت الملائكة رفات بعض الشخصيات من مكان إلى آخر، وغير ذلك مما يستحيل حصره من الصور الأسطورية للبرهنة على الدعم السماوي والمدد الإلهي للمؤمنين الأتقياء، ولابد أن يختتم صاحب هذا الخطاب حديثه بالتأكيد على أن هذه هي المكافأة السماوية للتمسك حتى الموت بأهداب العقيدة التي يمثلها.

وتُضاف إلى كل هذه الأساطير هالات من المثالية في القول والفعل تحيط بتصرفات الكثير من الشخصيات خاصة تلك التي كانت تحتل مواقع القيادة، فتصبح كل أقوالهم مأثورة وكل أفعالهم محمودة، رغم أنه لا يمكن أن تستقيم أية طبيعة بشرية فطرية ليصبح كل ما يصدر عنها من أفعال وأقوال طوال حياتها صائب وصحيح ولا جدال على نقائه وصلاحه وتقواه؛ فتصرفاتنا الحياتية اليومية محكومة ليس فقط بطبائعنا ومآثرنا ونقائصنا وخلفياتنا الثقافية ومحصولنا المعرفي، بل أيضا بطبيعة العصر الذي نعيشه والأيديولوجيات التي تحكمه والأهم بطبيعة المجتمع الذي نوجه إليه خطابنا. وبالتالي، فإن ما فعله قائدٌ بالأمس واعتُبر من أعمال البطولة، قد يحاكَم عليه اليوم كمجرم حرب. وعليه، يجب أن تُدرَس المواقف دائما داخل سياقها التاريخي من أجل تفهُّم دوافعها ومبرراتها وردود الفعل الناتجة عنها، وهو ببساطة شديدة ما يفعله أساتذة التاريخ والمتخصصون فيه، فلا وجود للمقدس في التاريخ كعلم له أصوله وقواعده البحثية، ولا يوجد من لا نستطيع أن نعدد مثالبه بجانب مناقبه، ولا يوجد من لا نستطيع أن نشرح دوافعه لهذا الفعل أو ذاك سواءً كان هذا الفعل مما يُعد من أعمال الشرف والبطولة أو مما يُعد من أعمال الخسة والنذالة، فلكل فعل سبب ودافع تاريخي نشأ في سياقه، وما على دارس التاريخ إلا التنقيب الجيد عن الإطار الذي وقع فيه هذا الفعل في محاولة للكشف عن دوافعه وأسبابه ونتائجه وأصدائه.

ورغم أنه يمكن اعتبار أن أساطير التمجيد والتقديس والمعجزات قد تعزي المؤمنين الصابرين الطامحين إلى جوائز السماء بعد أن ضنت الأرض، إلا أن هذا النوع من الخطاب يمثل مدخلا خطيرا لغرس الخرافة في نفوس البسطاء باسم الدين، وذلك لأن آليات هذا الخطاب بالكامل تعتمد على الغيب والخيال وليس على الوقائع والوثائق، وتعتمد على اليقين دون دليل وليس على البحث القائم على الشك، كما تُحدث خلطا هائلا بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والرمز في نفوس المؤمنين السذج، وتمنح أصحاب هذا الخطاب السيطرة التامة والمطلقة عليهم وتسييرهم وتوجيههم حسب الرغبة، وهو أمر تبرهن أحداث كثيرة في التاريخ على مدى خطورته، فهو يساعد على حشد أعداد ضخمة من البشر ويغسل أدمغتهم ثم يضعهم تحت تصرف صاحب الخطاب، إن شاء قَلَب بهم نظام حكم أو استعان بهم في تأديب خصوم له أو في إبادتهم أو في أبسط الأحوال وأخطرها في الوقت ذاته يكتفي صاحب هذا الخطاب بولاء التابعين الذين يتحولون إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه كل من يجرؤ على نقده أو مخالفته، هكذا ببساطة ودون أن يكلف صاحب الخطاب نفسه إلا ببعض الحواديت ! وبالطبع سيتم كل ذلك باسم الدين وفي سبيل رفعته وحمايته وحماية من يحميه. هذا كله بالإضافة إلى أن غرس الخرافة في النفوس يثبط الهمم ويرخي العزائم ويخلط الحق بالباطل ويفصل الإنسان عن الواقع وعن الأخذ بأسبابه وعن التسلح بالعلم وعن السعي وراء العمل الجاد، إذ سيجلس الإنسان دوما في انتظار عون السماء وفي انتظار حدوث المعجزات والظهورات والإشارات ليحقق أمانيه الدنيوية والأخروية.

إننا اليوم نعيش في عالم مغاير لأي عالم عرفته الإنسانية منذ فجر التاريخ، فنحن نعيش في الأبراج الحديثة ذات المصاعد والتسهيلات، ونسيِّر أعمالنا بأجهزة الحاسب الآلي التي بلغت من التطور ما لم يكن في الإمكان تصوره، ونتصل ببعضنا البعض عبر أجهزة الهاتف والمحمول، ونتواصل كذلك عبر شبكة الإنترنت من خلال البريد الإلكتروني ومواقع الفيس بوك والتويتر وغيرها، ونعرف كل أخبار الدنيا لحظة حدوثها، ونتنقل عبر الفضائيات بين جميع أنحاء الكرة الأرضية من خلال الضغط على بعض الأزرار، ونستخدم أسرع وسائل النقل في تحركاتنا، ونعيش في عالم تحكمه العولمة وموازين القوى والمصالح المشتركة ورؤوس الأموال الضخمة والشركات عابرة القارات، وتحقق فيه الأبحاث العلمية قفزات مذهلة بين عشية وضحاها.

لقد أضحى العالم وكأنه بلا مسافات تقريبا، وتغيرت النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفلسفية الراصدة لحركة المجتمعات ولسياسات الدول ولاقتصاديات السوق، وتركزت معاني القوة في المساهمة الحقيقية في التطور العلمي والتكنولوجي وليس في مجرد تعلُّم العلم أو في تبني تطبيقاته التكنولوجية. فإذا كانت الأمور تجري في الدنيا بأسرها في اتجاه المستقبل بهذه السرعة الفائقة، فكيف سنلحق بهذا المستقبل ونحن لازلنا في ثقافتنا العربية نهفو إلى الماضي المقدس، وإلى إحياء الشخصيات التي نظنها مثالية أو مقدسة والتي يفصلنا عن بعضها عقود ويفصلنا عن أغلبها قرون؟

إننا نكاد نجزم أن نظرة السابقين لأنفسهم وللعالم من حولهم لا علاقة لها تقريبا بنظرتنا نحن الآن لأنفسنا وللعالم من حولنا، فكيف نظل وقوفا في أماكننا بأبصار شاخصة إلى ماضٍ انتهى غير مدركين للوقت المهدور من أعمارنا ومن مستقبل أوطاننا؟

إن التاريخ صنعه البشر وكتبه البشر، وهو معين لا ينضب من الدروس والعِبَر، وكل ما حدث ويحدث وسيحدث في الدنيا أصبح ويصبح وسيصبح جزءًا من التاريخ، فإذا كنا نرى أنفسنا ومن حولنا الآن متسربلين بالقداسة ولا يأتينا الباطل أبدا وتحوطنا المثالية من كل جانب، فهذا يعطينا كامل الحق قطعا في إسباغ الصفات ذاتها على من سبقونا إلى الحياة على ظهر هذه الأرض، كما يعطي كل الأجيال عبر مئات السنوات القادمة كامل الحق أيضا في تمجيدنا وتقديسنا بل وتأليهنا إذا لزم الأمر، ووقتها يمكننا أن نقول بأعلى صوت إننا قد خرجنا تماما من سياق التاريخ الذي تعرفه الإنسانية جمعاء لنصنع لأنفسنا علبة سردين اعتقدنا أنها مسار التاريخ بأكمله لنتجمد ونتقدد داخلها نحن والسابقين علينا واللاحقين بنا على نفس دربنا، ولا يكون لأحد منا الحق أبدا في أن يسأل بعد ذلك: وماذا بعد تقديس التاريخ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طرح موضوعي
سرحان الركابي ( 2010 / 10 / 21 - 10:41 )
الاخت شيماء . طرحك موضوعي وهاديْ وشامل لكل ما يمت للقداسة بصلة ويضع النقاط على الحروف كما يقولون . لكن لماذا هذا الاستثناء . استثناء الانبياء والمرسلين . اليسوا بشرا ايضا . ام انهم مخلوقات ملائكية او فوق البشر .
تحياتي عزيزتي


2 - تطور الطرح واللعب على الحبال
عمر فكري ( 2010 / 10 / 21 - 12:40 )
أعرف الدكتورة شيماء الشريف جيدا وأنا متابع لمقالاتها وأراءها من قبل حصولها على درجة الدكتوراه وبعدها.
في هذا المقال الغني أراها وقد تفوقت على نفسها وبلغت مستوى متميز في طرح الموضوع وتناول عناصره وتقسيم الافكار الواردة فيه الى مراحل تتصاعد فى مضمونها حتى تتم توصيل رسالتها - في النهاية- بشكل واضح دون لبس فيه. هذا عن اسلوب الطرح أما عن المضمون فهي تتناوله بحذر في أوقات وبجرأة في أوقات أخري وكأنها تلعب على الحبل حتي لا تقع من فوقه اجمالا
الموضوع حساس وشائك لأنه يعتبر من المسلمات أو البديهيات عند بعض المتشددين وعدم الاقتراب أو التصوير للمقدسات حتى لو كانت سير العابدين ونوادر الصالحين
مبروك يا دكتورة على المقال


3 - موضوع ممتاز
أشرف عبد القادر ( 2010 / 10 / 31 - 18:01 )
بارك الله فيكى دكتورة على الموضوع المتميز والشيق ونتمنى ان نرى موضوعات اخرى على نفس المستوى

اخر الافلام

.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف


.. ناشطون يستبدلون أسماء شوارع فرنسية بأخرى تخص مقاومين فلسطيني




.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل