الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع العلم والدين..الى أين؟

محمود يوسف بكير

2010 / 10 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في رائعته أولاد حارتنا ، قام نجيب محفوظ بعرض فلسفي لمسيرة البشرية من منظور ديني منذ آدم وحتى محمد وقد أطلق أسماء رمزية على أبطال حارته حتى لا يتهم بالزندقة ولكن حيلته لم تنطلي على رجال الأزهر وتم منع الرواية وقتها ، وعلى سبيل المثال فقد أطلق على آدم اسم أدهم وعلى حواء اسم أميمه (نسبة إلى الأم) وعلى موسى اسم جبل وعلى عيسى رفاعة (نظراً إلى أن الله رفعه إليه ) وعلى محمد قاسم وهكذا .

وقد شهدت حارته أحداثاً جساماً وتعرض أهلها لمظالم شديدة وصراعات عنيفة ، ورغم لجوئهم إلى الدعاء والاستنجاد بصاحب البيت الكبير في الحارة (الجبلاوي ويرمز إلى الله) إلا أنه لم يعرهم أدنى انتباه ولم يخرج لهم من بيته العالي مرة واحدة . وأخيراً أتى الحارة شخص اسمه عرفة (نسبة إلى العلم والمعرفة) واستخدم علمه للنهوض بأحوال الحارة وتحسين أحوال قاطنيها على نحو غير مسبوق بل أنه سعى إلى تخليصهم من الأوهام والشعوذات حتى أنه اقتحم البيت الكبير ذات مرة كي يرى بنفسه الجبلاوي الذي دارت حوله الكثير من الأساطير الممزوجة بالرعب والخوف بين أهل الحارة دون أن يراه أحد، وكانت المفاجأة الكبرى أنه لم يجد أثراً لهذا الجبلاوي.

هـذا عـرض مقتضب جـداً لـروايـة أولاد حـارتنـا والتي تـنـبأ فـيها نجيب مـحفـوظ بانتـصار العـلم عـلى الديـن في النهاية وهـو يرى أن في هذا سعادة البشرية.
ولكــن هــل سـيـكـون الأمـر بـهـذه السهـولة وهـل ستحسـم المعـركـة عـلى هذا النحو فعلاً ؟ وهل يحمل العلم كل هذه الآمال الطيبة للبشرية حقاً ؟

لو أنـنا بــدأنا بالســؤال الأخير لوجــدنا أن العلم مرادف للعقــلانية من الناحية النظرية على الأقــل وهــو بهذا يحمل الكثيــر من الأخبار السارة للبشرية التي لا يستطيع أحد إنكارها ولكن من الناحية العملية نرى أن العلم كثيراً ما يجنح عن العقلانية ويتحول إلى وحش مدمر وعلى سبيل المثال فإن التغيرات المناخية العنيفة التي بدأت تعصف بكوكبنا وبدأت تهدد الحياة عليه ما هي إلا نتاج الانبعاث الحراري الناشئ عن التقدم الصناعي الهائل الذي أدى إليه تقدم العلوم المختلفة ، وكمثال آخر فإن التقدم الكبير في علوم الهندسة الوراثية والاستنساخ سيؤديان حتماً إلى نشوء مخلوقات جديدة قد تتسبب في كوارث والأخطر من هذا فإن أي خلل في منظومة التحكم بالأسلحة النووية أو الكيميائية أو البيولوجية لدى الدول المتقدمة قد تؤدي إلى قيام حرب نووية أو إلى كارثة يمكن أن تقضي على الحياة فوق الأرض ، ومن المعروف أن هذه المنظومة يتم التحكم فيها بواسطة العقول والأنظمة الإلكترونية المعقدة . وهكذا فإن العلم منهج حضاري رائع ولكنه يحمل في أحشائه أجنة خطيرة ومرعبة .

وعلى الجانب الآخر فإن تبني الأصولية الدينية كمنهج للحياة كما هو مرغوب ومأمول لدى الأغلبية في عالمنا الإسلامي يحمل في طياته مخاطر جمة، فإذا كان للمنهج العلمي شطحات منافية للعقلانية والأخلاق كما أسلفنا فإن الخطاب الديني الأصولي السائد في عالمنا الإسلامي يتناقض في أغلبه مع العقلانية والبديهيات وعلى سبيل المثال فإن ما يسمى بحد الردة لا يتماشى بأي حال مع المنطق ، فلا أحد منا يختار جنسه أو لونه أو ملامحه أو لغـــته أو صحته أو دينه ... الخ فهذه كلها معطيات نكتسبها بالمولد ويصعب تغييرها

فكيف إذن نقتل إنساناً إذا ما أراد أن يغير اسمه أو دينه أو أي من هذه المعطيات التي لم يقم باختيارها أصلاً ؟
كيف نجبر إنسانا على اعتناق دين أو مبادئ هو غير مقتنع بها ؟

إن كل الخطـابات الدينية التي يـطرحها الأصولـيون تتسـم بالجـمود والانغـلاق وتـقوم عـلى مجـموعة مـن المبادئ الفـوقية التي ينبغي عـل التابع أن يسـلم بها دون نـقـاش حتى ولو كـانت منـافية تـماماً ً للمنطـق البسيـط وفي هذا فقد قال أحد فحول الإسلام قديماً " من تمنطق فقد تزندق " أي أنه لا مكان للعقل مع الإيمان ، وعليك أن تؤمن دون نقاش أي بنظام Take it or leave it



وعودة إلى الأسئلة التي طرحناها لمن ستكون الغلبة للعلم أم الدين ؟

بنظرة سريعة على خارطة العالم يمكن القول للوهلة الأولى أن هذه المعركة قد حسمت في معظم أرجاء العالم لصالح العلم ما عدا العالم الإسلامي الذي يشهد حالياً معركة شرسة بين الأصوليات الدينية وبين التيارات الليبرالية العلمانية ويبدو أن الغلبة ستكون للأولى ، ليس لأنها صاحبة رؤية مستقبلية واعدة لشعوب المنطقة بل لأنها مدعومة بجحافل من الفقراء والعاطلين والمظلومين والبائسين ممن لم يعد لهم أي أمل أو رجاء في هذه الحياة الدنيا بسبب الفساد والاستبداد و الظلم السائد في دولهم ، ولكن أملهم كبير في الحياة الآخرة التي لا يفضي العلم إليها ولكنه الدين حسب رأي معظم الفقهاء المسلمين . ومن ثـم فإنه ليست هناك مشكلة فـي تـبـني أي خطاب ديني جهادي أو انتحـــاري مــا دام سيــؤدي في النهـايـة إلى جـنـة الخـلد. والغرب يتصور بسذاجة شديدة أنه سيقضي على ما يسميه بالإرهاب دون أن يقضي على الفقر والظلم والاستبداد والفساد في العالم الإسلامي وهي منابع لا تنضب لتغذية الأصوليات الدينية المتطرفة .

وكـأحـد ردود الفـعل لتنامي الحركات الأصولية والجهادية الإسلامية بعد 11 سبتمبر رأينا بداية بزوغ تيارات دينية أصولية ونعرات عرقية عنصرية في أوروبا وأمريكا تعادي المسلمين بالأساس ، وبمعنى آخر فإن تحدي الأصولية الإسلامية وتوقع انتصارها وسيطرتها في العالم الإسلامي أدى إلى انبثاق تحالف غير معلن بين الأصولية اليهودية والمسيحية ، والإدارة الأمريكية الحالية خير مثال على هذا .

ومحصلة كل هذه التطورات وبكل أسف أن هناك حركة تراجع كبيرة للعقلانية على الجانبين وأن العالم في طريقه للخضوع لسيطرة الأصوليات الدينية المتطرفة التي لا تعرف التسامح مع الآخر ولا تقبل الحلول الوسط .

إن من يتصور إمكانية التوفيق بين المنهجية العلمية والمنهجية الدينية متفائل جداً، وحديث توافق العلم مع الإيمان هو نوع من الدجل والوهم لأنه يتصور إمكانية إذابة الزيت في الماء بشكل دائم وهذا مستحيل.

إن دعاة الأصوليات الدينية لن يقبلوا أبداً أن يكونوا تابعين لأي سيادة أو مرجعية أخرى غير ما يؤمنون به لأنهم يرون أنهم يمثلون مشيئة الله ولنا في برنامج الأخوان المسلمين السياسي في مصر عبرة حيث يقترحون إنشاء هيئة دينية عليا تكون سلطتها فوق مجلس الشعب وفوق الدستور !! وقد سبق أن كتبنا عن هذا البرنامج الخطير الذي يعود بمصر إلى العصور الوسطى .

وعودة أخيرة إلى سؤالنا الأساس لمن ستكون الغلبة ؟ أعتقد أن الأمر سينتهي إلى قطيعة تامة بين أنصار الأصوليات الدينية وبين أنصار العقلانية والعلم ولعلنا نلاحظ أن الغرب بدأ بالفعل في غلق كل أبوابه أمام الأصوليين الإسلاميين ، بل أن النزعات العرقية والدينية التي نشهدها في الغرب هذه الأيام تهدف بالأساس إما إلى دمج المسلمين هناك بالكامل في مجتمعاتهم الجديدة أو إلى طردهم ، كما أن هناك حركة استعداء شديدة من جانب الأصوليون الإسلاميون ضد كل ما هو غربي في بلادهم وهؤلاء يرون أن هناك مؤامرة كبرى تحاك في الغرب ضد المسلمين وأن العولمة والعلمانية ما هي إلا توجهات غربية للقضاء على الإسلام والمسلمين وهم ينصحون بأن علينا توخي الحذر من كل ما هو غربي وغلق أبوابنا في وجوههم .
، وبمعنى آخر فإن هناك حركة فرز وفصل بين الجانبين بحيث يستقر كل طرف على الجانب المريح بالنسبة له على أن تتم التعاملات المالية بسياسة Hit and run .

والخلاصة أن الغلبة ستكون للعلم في الغرب وللدين لدى المسلمين ، والغرب سوف يكون سعيداً بهذا ونحن أيضاً سنكون أكثر من سعداء فما أجمل أن نعود إلى سكنى الخيمة في هجير الصحراء حيث يسرح كل منا بعدد من الماعز ونستظل تحت النخيل لنستمتع بقليل من رطبه مع بعض من حليب الماعز وقد تدفعنا هذه الخلفية الرائعة إلى نظم بيتين من الشعر في مدح الخليفة المعصوم وعند الغروب نعود إلى الخيمة حيث نضاجع النساء وبعدها نستلقي على ظهورنا حتى بزوغ الفجر .
وليذهب كل من العلم و الغرب إلى الجحيم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رأي
محمد م ديوب ( 2010 / 10 / 25 - 07:47 )
العلمانية والعلم يهزمان في العالم الإسلامي ربما يكون هذا صحيحاً ولكن السؤال ما دور الغرب العلماني في هذه الهزيمة ؟؟
نحن في هذا الشرق كعادتنا لانجيد التحليل لأننا منحازون سلفاً إلى موقفٍ دون آخر وهذا ماوجدته عند الغالبية الساحقة ممن يكتبون في العلمانية وليس هذا حالهم وحدهم بل حال حتى الذين يشتغلون بالعلم والسبب أنهم جميعاً مؤدلجون والعلم لايعترف بالإيديولوجيا لأنه يبحث عن المعرفة والحقيقة كما هي لاكما يريدها المؤدلج
والأمر الأشد خطورة أنه حتى ولو أفلحنا بالتحليل فليس لدينا القدرة أو بالأحرى نحن معدوموها على الإستنتاج وبالتالي على إستنباط الحلول كل هذا لأنبه إلى البحث في كل عوامل هزيمة العلم والعلمانية في هذا الشرق التعيس


2 - الغلبة للعلم
قاسم احمد ( 2010 / 10 / 25 - 20:01 )
تحية طيبة استاذنا العزيز
قرانا الكثير عن متدينين تعلمنوا ولم نقرا عن علمانيين تدينوا .فالنزوح دائما باتجاه واحد الى العلمانية والانسانية


3 - لم تقل بعد الكلمة الاخيرة
بشارة خليل ق ( 2010 / 10 / 26 - 04:36 )
يذهل من كان في مصر ثورة الضباط الاحرار وبعدها زار مملكة مصر السعودية اليوم , فمن الواضح ان هنالك هروب الى الخلف قد حصل بفترة زمنية قصيرة نسبيا والشعور العام ان هذا التغير قد بلغ ذروته بعيد احداث 119 اخذا مداه خاصة بعد الضغوطات التي تعرض لها حكام الدول العربية من امريكا والغرب لدمقرطة الانظمة فقد اصبح اعتراض الشارع المصري على الحكم اكثر جرأة وبالتوازي ازداد نفوذ الاسلام السياسي اما الان فكأن الشعب ينتظرا حدثا ما او مجموعة احداث ليعود ادراجه وبنفس السرعة الى تبني النهج المدني من جديد, احد هذه الاحداث بلا شك هو وصول التوتر الطائفي الى حد الخطورة على الوحدة الوطنية وتراجع التاييد في الدول العربية للاسلاميين في الجزائر والكويت والاردن والعراق وحتى في قطاع غزة الذي لن يحكمه بعد اي فصيل اسلامي بعدما ذاقه الناس هنالك من تضييق على الحريات بالاضافة الى تدهور الاوضاع على جميع الصعد لو اتيحت لهم انتخابات جديدة,فقد سمعنا عن غزيين يترحمون على ايام الاحتلال الاسرائيلي
ليس لنا الا الانتظار ولنرى ما يحدث


4 - سيكون الطريق مفروشا بالدم لكن البقاء للعلم وحده
رويدة سالم ( 2013 / 4 / 3 - 00:02 )
استاذي الفاضل الغلبة الحالية لتيارات الاسلام السياسي ما هي الا آنية سرعان ما ستضمحل لما تختبر الشعوب انها استبداد القائد الهمام بسيف تكفير الفقيه المعمم كما حصل في جزائر سنوات الجمر في تسعينات القرن الماضي والذي خلف الكثير من الدمار وتجربته ترهب اكثر مما تغري باتباع الاسلام السياسي
شعوبنا تعاني من قهر مستديم استمر لماءات السنين ولما رات النور اعتقدت انه من عند الله وهو من قرر الوقوف دعما لها فانصاعت وراء دعوات كل من قال انه من اهل الدين سواء في تونس او مصر رغم ان الشعب التونسي ليس متدينا والدولة المدنية وتراثه الحضاري متمكن من العقلية بشكل كبير يجعل السلفية جماعة مقصية ولا أمل لها في اي حيز للفعل كما يحدث في مصر
هم يحاولون مد مخالبهم لتغيير الحياة الاجتماعية والسيطرة على دواليب الدولة بتغيير الولاة وآليات الانتخاب لكن انتصارهم لن يكون صاحب اغلبية ساحقة رغم كل التلاعب الذي يقومون به مسبقا
الغلبة لن تكون ابدا بالرجوع الى الوراء بل بالبحث عن العدالة الاجتماعية وفرص الحياة الكريمة والتي لن يوفرها الاسلاميون مهما تعففوا ولطخوا جباههم بعلامات التقوى والزهد
العلم هو من سينتصر دوما
مودتي

اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah