الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هستيريا الفتوى

حسن الفجح

2010 / 11 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هستيريا الفتوى ليس مرضا نفسانيا يستلزم منا تحليله و اكتشاف علاجه، لأننا أولا لسنا أخصائيين في المجال، و ثانيا لأنه فعلا ليس مرضا، بقدر ما هو وصف لظاهرة قديمة حديثة انتشرت في الأونة الأخيرة على نطاق واسع و بشكل غريب في وطننا العربي. حتى باتت محط استغراب الكثيرين، من بينهم نحن بالطبع.
فما الداعي الى الاستغراب في هذه النقطة بالذات؟
لا شيء على الاطلاق، فالطلب المتزايد على الفتاوي هو سر نجاح الفتوى كحرفة تكسب رزقها من عرق الجبين كالرزق الحلال. أنا هتا لا أنوي محاسبة الميزانية الخاصة للمفتي، لكنني أود أن ألفت انتباهكم الى أن طلب الفتوى بشكل مبالغ فيه يمثل أزمة حقيقية تثير الاستغراب فعلا، و هي أزمة عقل بالدرجة الأولى. فالعقل الاسلامي _ ان جاز هذا التعبير _ هو مزيج متداخل من مجموعة كبيرة جدا من الثقافات منذ عصر مصر الفرعونية و الى اليوم. فهو يجمع ما بين امكانية صعود الانسان الى القمر، و بين "حقيقة" أن الأرض مسطحة و أنها مركز الكون.ان مواطننا المسكين يذرع برأسه العجيب جميع العصور و يعبئه بما طاب له من "الحقائق" المفزعة دون أن يحس بفجاعة التناقض. ان عقله مزيج من الدين و الأسطورة و الخرافة، يعيشون جنبا الى جنب في جو من التسامح المثالي دون أن يحدث ذلك شيئا يثير القلق.
هذا يحدث في وطننا العربي و تحدث معه أشياء أخرى أكثر غرابة و طرافة. فمواطننا العربي ذاك لا بد من أن يشم رائحة الدين في كل شيء يقدم عليه، و المفتي لا بد أن ينوه بعمله و يشجعه على ذلك. لأن المفتي نفسه لا بد و أن يقحم الاسلام في كل شيء. أعني في كل شيء يخطر ببالك.
أنا هنا لست ضد الافتاء _ ما دام مجرد رأي خاص بشخص معين قد يصيب أو يخطئ، كما يمكن أن يكون ذا سند شرعي أو بدونه _ لكنني لا أوافق لا اقحام الاسلام في كل شيء بشكل تعسفي. فالاسلام لم يأتي ليحشر أنفه في الحسابات الضيقة لحياة الناس. لكن المفتي جاء بالضبط ليؤدي هذه المهمة المضنية. فهو ينام معك في السرير، و يتناول معك افطار الصباح و يرافقك الى الحمام، و الى أي مكان آخر تود الذهاب اليه. انه يشاركك تفاصيل حياتك كلها.
أنا لا أهاجم "رجال الدين" و لا أنوي فعل ذلك، لكن الاسلام كما ترى ليس حرفة، و لأن الله لم يوص "رجال الدين" بالوصاية على الدين و لم يأمرهم بترك باقي الحرف و اتخاذ دين الله كحرفة، كما كان يفعل رجال الدين في اليهودية و المسيحية. لا..لا.... لم يأمرهم قط، لكنهم في الواقع لم يكونوا ينقلوا عن الاسلام بل كانوا أوفياء لتعاليم التوراة. ففكرة "رجال الدين" ذاتها لم يأتي بها الاسلام بل جاء ليحرر الدين منها بالذات لأنها من مخلفات ثقافة اليهود المزورة في التوراة.
فالاسلام قد ترك للناس مساحة واسعة للتحرك بحرية وفق مستجدات و متغيرات التقدم البشري، لكي يستوفي شرط صلاحيته لكل زمان و مكان. فالقاعدة الأساسية في الاسلام هي دائرة المباح التي تنطوي على الحرية الانسانية التي تعد، في نظرنا، أصلا ثابتا من أصول الدين. لكن "رجال الدين" لابد من أن يناصبوننا العداء. فالمفتي، رغم ضيقه الخفي مما قلناه، لن يكثرت كثيرا لكلامنا و سيواصل لعبته المضحكة، و سيطل عليك بزيه "الشرعي" _ الذي لا نعرف مصدرا لشرعية زيه ما عدا كتب الاصحاح في التوراة _ ليطاردك بفتاويه في كل مكان يجوبه خيالك.
فمشكلة الفتوى مثيرة الى هذا الحد. لكن أصل المشكلة، بلا شك، هو مواطننا المسكين الذي يريد أن يتنفس التقوى و الورع في جزئيات حياته اليومية كلها. مانحا بذلك لمفتينا بابا واسعا لاقحام الاسلام في مساحات ضيقة لا يطيقها. كان ذلك خطأ مواطننا المميت الذي أسقطه على لباسه لينال نوعا من الشرعية الدينية و يصبح فريضة بمقتضى الشرع و جزءا من العقيدة. و هذه المشكلة تخص الرجال و النساء على السواء، و ذلك بمعونة الفقهاء بالطبع الذين تفننوا، كعادتهم، بفتاويهم حول اللباس، مبتكرين ترسانة ضخمة من الكلمات التي تملك وقع القنابل في الآذان، من قبيل "اللباس الشرعي" الخاص بالرجل و "الحجاب" الخاص بالمرأة. فالرجل الذي يخضع لمقاييس "اللباس الشرعي" ينال رضى الفقهاء و يعد مؤمنا تقيا، و المرأة المحجبة تحصل مباشرة على رتبة "سيدة مصون" بحذف التاء من باب اظهار الفصاحة. لكن يبدو أن فقهاءنا قد أخطأوا الطريق في نقطتين مميتتين:
الأولى: هي أن العفة لا تحصل بموجب شكل اللباس، بل بالايمان بكرامة الانسان و حريته و قداسته.
الثانية: أن مسألة "اللباس الشرعي" أو "الحجاب" لا تستمد شرعيتها من الدين بل من التاريخ، لكن الفقيه بلا شك سيجد لها شرعية دينية ليرضي غروره على الأقل.
فالافتاء في اللباس من باب الحفاظ على السنة، ليس منهاج الرسول عليه السلام، رغم ما يقوله الفقهاء تحت يافطة "لباس الرسول". فالرسول نفسه لم يكن حرا في اختيار لباسه، بل فرضته عليه ظروفه الجغرافية و التاريخية.
فهستيريا الفتوى ليست ظاهرة قائمة الذات. بل هي نتيجة منطقية لظاهرة أخرى أكثر استفحالا، هي الطلب الهستيري للفتوى الذي يريد منه أصحابه تنفس الدين في كل جزئيات حياتهم الدقيقة.
فمواطننا المسكين مريض بداء التقوى الى هذا الحد. فلا تتركوه يذهب بعيدا....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا