الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متحف اللوفر والولع الفرنسي بآثار الرافدين

علي شفيق الصالح

2010 / 11 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


متحف اللوفر والولع الفرنسي بآثار الرافدين
نموذجاً لتقارب الثقافات
تجذب الآثار القيمة لحضارة الرافدين والمعروضة في متحف اللوﭭر بباريس أجمل متاحف العالم, معظم زواره الذين يقرب عددهم من عشرة ملايين شخص سنوياً. وهنا يمكن أن تتساءل ترى ما هي اسرار هذا الولع ؟ وما هو دور العلماء والباحثين الفرنسيين في إكتشاف هذه الكنوز ؟
لو التقيت بأي فرنسي لاسترعى انتباهك مدى اهتمام هذا الشعب بآثار حضارة الرافدين العريقة أولى الحضارات في التاريخ, وقد تكتشف بأن هذا الاهتمام, أو ما يسمّى بـ"الشغف الفرنسي", ليس فقط بسبب المخيلة الأوربية لسحر الشرق, وإنما لولع الفرنسيين بالثقافة والعلوم, كما أنه اهتمام قديم يعود للقرن الثامن عشر.
وكان قد تم في سنة 1847 تدشين "القاعة الاشورية" في متحف اللوفر, التي إفتتحها لويس فيليب وضمت أهم الكنوز الآشورية التي إكتشفها ونقلها رواد الآثار الفرنسيين, ومنها المجسمات الضخمة والعناصر المزينة للقصور الواسعة المرتفعة مثل قصور نمرود وسرجون الثاني, خاصة التماثيل العملاقة للثيران المجنحة ذات الرؤس البشرية الحارسة لمدخل غرفة العرش إلى جانب الأسود المروضة العملاقة.
ويأتي في مقدمة خبراء الآثار الذين وصلوا الى الموصل منذ نهاية النصف الاول من القرن التاسع عشر للكشف عن خفايا حضارة بلاد الرافدين في شمال العراق, الباحث المعروف "باول أميل بووتا" Botta Paul , الذي كان قد شغل منصب قنصل فرنسا في الموصل, وهو الذي اشتهر بعثوره على مجموعة قيمة من الكنوز الأثرية لمدينة نينوى القديمة عاصمة الاشوريين عامي 1843 و 1844, ومنها الثوران المجنحان الموجودان في المتحف البريطاني واللذان تمكن الباحث الإنجليزي الشهير لايارد Layard من استخراجهما بمشقة من باطن الأرض وايصالهما الى لندن.
ومن أهم الخبراء كذلك الباحث الفرنسي "فيكتور باليس" الذي عمل في موقع خرسباد وأشرف على نقل بعض الاثار التي كانت من حصة فرنسا حسب اتفاقيات مع السلطة, ومنها نماذج من الثور المجنح بواسطة العربات ثم بواسطة نهر دجلة الى البصرة ومن هناك تم نقلها الى باريس .
ويكشف تاريخ التنقيب عن هذه المجسمات الآشورية الضخمة ونقلها, مدى الجهود المضنية التي بذلها هؤلاء الرواد والمخاطر التي تعرضوا لها, ويكفي أن نشير الى أن واحدة منها والتي تزن عدة أطنان كانت قد وقعت في نهر دجلة لثقلها ورست في قاعه, وأن حياة الخبراء قد تعرضت لخطر الموت أكثر من مرة.
ومنذ قديم الزمان جذبت الآثار البابلية عشق الأوربيون, وذلك بسحر الخيال عنها ولذكر بعضها في العهد القديم, وأدى هذا إلى سعي رواد الآثار لاكتشاف أسرارها ونقلها إلى بلادهم. وتعتبر الحدائق المعلقة, وبوابة عشتار, وشارع الموكب, ومسلة حمورابي, وأسد بابل, من أشهر هذه الآثار وذاع صداها في كل مكان.
ولذلك لا غرابة أن يحتضن متحف اللوفر مقتنيات أثرية قيمة من بابل, وخاصة "مسلة حمورابي" التي هي نصب رائع من حجر الديورايت الملمع بإرتفاع 8 أقدام نقش بإتقان بالغ ودونت عليه نصوص شريعة الملك البابلي الشهير "حمورابي", التي صدرت قبل أربعة آلاف سنة, وهي أول قانون في العالم.
ويستغرب كثير من الناس حينما يعرف بأن هذه المدونة, التي تعتبر من أهم كنوز اللوفر، لم يعَثر عليها الفرنسيون في موقعها الأصلي بمدينة بابل, بل في حفائر مدينة "سوسة"، عاصمة عيلام التي تبعد عن الموقع الأصلي بحوالي 300 كم, حيث كان قد نهبها ملك عيلامي (شوتروك ناخونته), ونقلها من بابل الى عاصمته سوسة عام 1150 قبل الميلاد.
ومن حسن حظ أبناء الرافدين أن يرأس البعثة الفرنسية, التي نجحت في أكتشاف هذا الأثر القيم عام 1902, مهندس المناجم والجيولوجيا وعالم الأثار المعروف "جاك دي مورغان" Jacques De Morgan, الذي أتيحت له سابقاً ظروف جعلته قادراً على استثمار تأهيله وموهبته الخارقة في هذه المهمة. وقد تولى سابقاً إدارة الآثار في مصر, كما يرجع الفضل اليه في إنشاء القسم المعني بالتاريخ المبكر لبلاد الرافدين (سومر وأكاد) في اللوفر.
ولا نستغرب إذا ما علمنا بأن للفرنسيين دور مهم في فك رموز الكتابة المسمارية الذي هو ينسب, كما هو معلوم, للعالم الإنجليزي "هنري رولنسن" Rawlinson . فأن البحث في ما تركه هذا العالم من أوراق وكتابات وآثار، كشف عن إسهام عدة علماء فرنسيين بارزين في تمهيد هذا الإنجاز. ونشير خاصة الى الباحثين الفرنسيين "فلاندين" و"كوست" اللذين درسا صخرة بيستون Behistoun في جبال زاركروز في شمال غرب إيران ونسخا بعض الكتابات المسمارية التي نقشت عليها حوالي سنة 522 ق.م, عن انتصار داريوس الأول, والمدونة بثلاث لغات قديمة. ولكن تعذر عليهما نقل البقية لشبه إستحالة اجتياز الشق الموجود فيها الصخرة, حتى استطاع رولنسن, وبمساعدة صبي كردي جريء تطوع ودخل الشق, من أن يستنسخ البقية وينجح في فك الرموز.
وفيما يتعلق بإكتشافات آثار السومريين في جنوب العراق, فإنها تعود الى علماء آثار بريطانيين وفرنسيين. وقد نالت المواقع الرئيسية لهذه الآثار القدر اللائق من إهتمام بعثات التنقيب الفرنسية, ومنها مدينة " لجش" أقدم المدن السومرية, واسمها الحديث " الهباء أو الهبة ", بقيادة "أرنست دو سارزيك " Ernest de Sarzec منذ بداية 1877, الذي كان نائب القنصل الفرنسي في ولاية البصرة ثم قنصلاً في بغداد.
إن القليل منا يعرف بأن دو سارزيك كان قد حصل في عام 1877م على الموافقة باجراء التنقيب من الوالى ناصر باشا زعيم عرب المنتفق, الذي كان يحكم المنطقة مستقلاً عن الدولة العثمانية مثل أكثر قبائل الجنوب آنذاك.
وسرعان ما توجه إلى تلال تلو الكبيرة حيث كانت قد اكتشفت ألواح وتماثيل متميزة لحكام لجش من صخر الديوريت ، ومنها مجسم للأمير "جوديا"، وقام بشحنها إلى باريس. وقد عثر في معبد مدينة لجش على آلاف الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري, وهي تدل على اهمية المعابد لدى السومريين كمركز ديني و اقتصادي و اجتماعي.
وكانت الحماسة التي أثارها دو سارزيك شديدة بحيث أُنتخب عضواً في معهد فرنسا، وأقتنى المجموعة متحف اللوﭭر إذ افتتح قسم شرقي جديد بإدارة ليون هوزي، واستطاع مواصلة التنقيب إلى ان توفي في عام 1901 . وما تزال إكتشافاته إلى اليوم المصدر الرئيس لمعلوماتنا عن حضارة سومر القديمة, وقد أكمل المهمة من بعده الفرنسي كاستون كروس.
ومن المدن الأخرى نذكر مدينة " كيش " التي تسمى أيضا بتل الأحيمر, وهي أول مدينة يتربع عليها ملك بعد الطوفان الكبير. وقام فريق فرنسي مختص في علم الآثار بقيادة هنري ديجينويلاك Henri de Genouillac بالتنقيب لأول مرة عن مدينة كيش بين عامي 1912 و 1914 .
ولم تقتصر مظاهر الولع الفرنسي بحضارة الرافدين على بعثات التنقيب, بل تتجلى أيضاً بما ينشره متحف اللوفر والجامعات والمعاهد المتخصصة ودور النشر الكبيرة من وثائق وبحوث ودوريات تلقى رواجاً كبيراً, وما يتعله الطلاب في المدارس, إضافة الى ما تنظمه المؤسسات المعنية من عشرات المعارض والندوات. ولا يمكن أن ننسى دور منظمة اليونسكو ومعهد العالم العربي في باريس بهذا الصدد.
ومن جانب "الشرعية", فأن القليل يعلم بأن أغلب البعثات الأثرية كانت في الماضي تسعى الى إضفاء هذه الصفة على تنقيباتها ونقلها للأثار الى بلدانها, بالحصول على "فرمانات" (مراسيم أو أذونات) من السلطة العثمانية أو السلطة الإيرانية بوسائل دبلوماسية أو بتبادل في المصالح, ولذلك كان العديد من الباحثين عن الآثار قناصل أو مدراء شركات.
ومما ساعد أيضاً على إضفاء الشرعية, أن قوانين الآثار السابقة للحرب العالمية الثانية والأنتداب كانت تسمح بتقاسم الآثار التى تكتشف, وبعد ذلك أصبحت الآثار تبقى لدى بلدانها الأصلية. ولهذا توجه اللوفر وبقية المتاحف الأوربية الكبرى كمتحف برلين والمتحف البريطاني نحو أنواع أخرى من التعاون, وبالأخص المشاركة في التنقيب, وصيانة المواقع الأثرية, وإجراء الدراسات ونشر الآثار المكتشفة.
وحسب علمنا أن متحف اللوفر حريص على أن تكون الآثارالمعروضة لديه قد تم خروجها من بلدها بصورة مشروعة , وإلا فانه يقوم بإعادتها إلى بلدها وفقا للقوانين والمعاهدات الدولية. وسعت الجهات المختصة هنا لإستعادة العراق الآثار المسروقة منه بعد دخول قوات التحالف.
ونأمل الأستفادة من المعاهدات الدولية الحديثة الي تسمح اللبلدان أن تطلب من المتاحف إستعارة بعض القطع من آثارها لعرضها على مواطنيها, حتى تتواصل الروابط الحضارية عبر الأجيال. كما نأمل أن تتوفر الظروف المناسبة لاتفاقات جديدة تسمح للبلدان الأصلية التي تستطيع توفير الأمان اللازم لهذه القطع الأثرية بإسترجاعها.
ومما يدعو للإرتياح ما نسمع به عن وجود بوادر حديثة مشجعة للتعاون المشترك, وحديثاً أخبرني صديق فرنسي وهو استاذ وباحث في السومريات عن حصول خطوات لإعادة البعثات للمنطقة للاسهام في اعمال التنقيب والصيانة والتدريب بعد انقطاعها لعشرات الاعوام.
والمهم علينا الآن دعم مثل هذه الجهود, وإستمرار التعاون مع العلماء والكتاب والفنانين الذين لديهم ولع بحضارتنا لكشف عظمتها وخفاياها وتبادل المعرفة معهم.
(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - معلومة جديدة
محمد ( 2011 / 11 / 11 - 05:25 )
تبين لي من مقلة الاستاذ علي شفيق ان الاوربين قاموا بالتنقيب على الاثار العراقية فترة العهد العثماني وكنت اتوقع ان التنقيبات في العهد الملكي بالعراق فترة الاستعمار البريطاني واقدم لكم الشكر الجزيل مع التقدير

اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا