الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الإيمان والمؤمنين

جمال علي الحلاق

2010 / 12 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



قرأت مقالاً باللغة الإنجليزية تحت عنوان " شكرا لله على الملاحدة الجُدد" ، وكان كاتب المقال ( ميشيل دود ) ، وهو واعظ مسيحي بدأ ينظر للملاحدة الجدد باعتبارهم أنبياء الله ، ويرى أنّ الدين - أيّ دين - لا ينجو إلا إذا بدأ وعّاظه يؤمنون بأنّ الله لا يزال يتكلّم ، وأنّ العلماء الآن يردّدون كلماته الجديدة ، ويرى ميشيل دود على سبيل المثال أنّ داروين صاحب نظرية النشوء والإرتقاء ، لم يقتل الله بنظريته ، بقدر ما عقلنه ، أيّ جعل الله أكثر عقلانية .

هذا المقال ، كما أرى ، هو أعلى محاولة في ردم الفجوة ما بين العلم والدين ، غير أنّ الإيمان به يحتاج الى معرفة تجريبية عاليّة لكي يتحوّل من تنظير الى ممارسة وحياة .

الناس في قضيّة ( خلق العالم ) نوعان ، نوع يرى البداية الأولى ماديّةً صرفة ( إختلف فلاسفة اليونان الماديين في العنصر الأوّل لنشوء الكون ، فقالوا الماء أو النار أو العناصر الأربعة ) ، ونوع يرى أنّ البدايّة من خلق إله ( تختلف صورة هذا الإله من دين لآخر ) ، وما أريد التركيز عليه هنا ، أنّ الإيمان بقي على ما هو عليه منذ بدايته الأولى ، أمّا الإلحاد فقد تغيّر ونمى وأصبح أكثر ثقلاً وحضوراً أيضا .

الفرق واضحٌ جداً ، يكمن في أنّ الناس في حقل الإيمان يرون أنّ العالم بأكوانه ومجرّاته محشورٌ في كتابٍ واحدٍ ثابتٍ محدّدٍ وتام ( يختلف هذا الكتاب من دين لآخر ) ، كتاب قال كلّ شيء ، ليس العالم فقط ، بل قال الحياة من بدايتها الى أقصى منتهاها ، بل قال ما وراء الحياة أيضا ، أي أنّ المؤمن يعيش برفقة كتاب يبدو فيه الوجود طريقاً واضحاً لا لبس فيه ، ولا يحتاج الى بحث ، بل يصل في بعض الأحيان الى عدم إحتياج الكتاب الى أيّ تأويل أيضا ، الكتاب غير معني بتوالي القرون ، ولا باختلاف الوعي البشري ، ولا حتى بنمو الحسّ الإنساني ، فما حدث وما يحدث الآن وغداً ليس إلا ترجمةً لكلماته ، وعليه فالمؤمن يقرأ كتابه ليفهم العالم ويفهم حياته ، لا ينظر الى علاقاته اليوميّة التي تؤسّس حسّه الإجتماعي ، بل ينظر في الوصايا التي تحجّم شكل ومضمون حياته ، يتبع الوصايا حتى وإن جاءت بخلاف ما يريد أو يشتهي ، المؤمن يدافع عن قيده باعتباره الحريّة القصوى .

لا ينظر الى المجرّات ، بل ينظر الى الكلمات المقدّسة كي يفهم السماء والفضاء ، فإذا ما نزل الإنسان على سطح القمر تهافت الوعّاظ الى التكذيب ، يحاولون أن يصرفوا عيون الناس عن التلفاز ، مثلما صرف القساوسة عيون التلاميذ عن منظار غاليلو كي لا يروا أقمار المشتري .

المؤمن مسيّج بخطوط حمراء ، لا يمكنه الفكاك منها إلا بالإحتيال ، وهو الدور الذي يقوم به الفقهاء وأصحاب السلطة بالنيابة ، الإحتيال على المؤمن أو على النصّ ، مستثمرين في ذلك تضارب النصوص داخل الكتاب المقدّس .

كان ( ابن هرمة ) شاعراً مدمناً على الخمر في المدينة ، وكان هناك دائماً من يشهد على سكره ، فيقام عليه حدّ السكر ، وهو الجلد ثمانين جلدة . ذهب الشاعر الى بغداد حيث قصر الخلافة ومدح الخليفة المنصور فلمّا أراد الأخير أن يكافئه ، قال الشاعر : لا أريد إلا إزالة حدّ السكر عني ، فاحتجّ الخليفة : هذا حدّ من حدود الله ولا يجوز تعطيله ، فقال الشاعر : يمكنك أن تحتال عليه . قال : كيف ؟ قال : بأن تجعل حدّ الشاهد على سكري مائة جلدة . ففعل المنصور ، ومنذها والشاعر يمشي سكراناً في شوارع المدينة وهو يصيح : من يشتري مائة بثمانين ؟

أمّا الناس في حقل الإلحاد يرون الكتاب ذاته ذرّة من ذرات العالم المتّسع ، أناس يعيشون داخل رؤيتهم للعالم ، فيتطابقون من حيث التجربة مع واضعي الكتب الأولى ، لكنّهم لم ولن يكتفوا بها ، بل حاولوا قدر ما استطاعوا في الماضي ، وقدر ما يستطيعون الآن وغداً ، أن يعيشوا تجاربهم الذاتية في العالم ، وأن يتوصّلوا عن طريق البحث والتنقيب الى قراءاتٍ أخرى للبدايّة الأولى ، دون وضع عقبات مقدّسة . الملحد ينطلق حرّاً في فهمه للعالم ، يشعر بضرورة وجوده ، ويحاول قدر ما يستطيع أن ينفخ الجدوى كروح في جسد زمنه الخاص .

إنّها زوايا نظر مختلفة ، لكنّها باختلافها تنتج لنا نماذج بشرية مختلفة أيضا ، وقد يكون من الصعب ظاهريّاً التمييز بين مؤمن وملحد يمشيان معاً في شارع واحد ، غير أنّ صراعات نفسية وذهنية تختلج المؤمن بين لحظة وأخرى ، الملحد في منجىً منها ، المؤمن متوتّر دائماً إزاء الوقت ، المأكل الغريب ، الملبس والملامسة ، متوتّر إزاء أيّ انفتاحٍ في لغة الحوار ، المؤمن يعاني صراعات تولد نتاجاً لثبات الدين واتّساع العلم كمعرفة ، مع كلّ إبتكار سيكون هناك شياطين وأرواح ينبغي قمعها ، ومع نمو المعرفة ودخولها ضمن اشتراطات الحياة اليومية يلجأ الفقهاء ( داخل كلّ الأديان ) الى المساكتة ، لأنّ الحياة الجديدة تتطلّب أن يسكتوا عن هذا النص أو ذاك داخل الكتاب الواحد التام ( لم يعد التصوير حراما مثلاً ) ، لأنّ شروط حياة المؤمن في النهاية لن تكتفي تقنيّاً بمفردات كتابه اليتيم ، بل تتجاوزها لاستخدام آخر صيحات التكنولوجيا لإدارة شؤون حياته ، كإن يسكن في أحدث الطرز المعمارية ، أو يستخدم أحدث وسائل النقل ، يستثمر ويواكب آخر الإبتكارات العلمية التي تساهم في تسهيل العيش داخل عالم يزداد تعقيدا ، لكنّه مع كلّ هذا يواصل تشبّثه بكتابه الواحد التام كما لو أنّه خيط نجاته من ضياع لا مفرّ منه ، المؤمن هنا يلتصق بكتابه باعتباره الطمأنينة القصوى التي لا يمكن الإقامة والإستقرار من غيرها ، هو لا يرفض المعرفة الجديدة التي يمكن إدراجها ضمن التأويل ، فتكون حياته ضرباً من التأويل المهادن ، سيكون هناك نفاق مستمر في تأويل النصّ المقدّس ، نفاق مع الله وحوله ، وسيتم التغاضي عن صيرورة الحاجة ، وعن اشتراطات الحياة اليومية الجديدة ، ( خروج المرأة الى العمل ، وصعودها الى أعلى المراتب الوظيفية ) ، هكذا يتجرّد الكتاب الواحد التام من واحديته ، بل أنّ عقلانية الكتاب تنهار بشكل مستمر ، تجعل المؤمن في النهاية لا يتقاطع مع أيّ إبتكار علمي ، وتخفّف من حدّة رفضه لأيّ تطوّر إجتماعي ، لكنّها تدفعه الى التقاطع مع أيّ فكرة أو نتيجة علمية تلامس البدايات الأولى ، فالأمر محسوم جدلا ، هكذا ، البداية شأن الخالق فقط ( طلب البابا من علماء الكونيات منتصف ثمانينيات القرن الماضي أن يبحثوا في ما بعد الإنفجار الكبير للكون ، وأن يتركوا البحث في الإنفجار نفسه لأنّه أمر الله وإرادته ).

الملحد ، ينطلق من وجوده في العالم ، هكذا ، كائن بشري موجود في لحظة زمنية تاريخية لها حدودها ونوافذها نحو المستقبل ، لحظة لها خصوصيتها وأسئلتها التي هي في النهاية خصوصية الكائن الذي يقيم فيها ويعبرها ، الملحد ينظر الى حياته باعتبارها جملة مفتوحة ومستمرة ولا نهاية لها غير الموت ، الموت هو النقطة التي تلي نهاية الجملة ، النقطة في نهاية الجملة هي إشارة لإكتمال المعنى ، وعليه فالمعنى غير منتهٍ ما دام الفرد حيّاً ، والأسرار قائمة ، لكنّها آيلة تحت ضربات البحث العملي الى الإنكشاف . وهذا ما لا نراه في حالة المؤمن لأنّ النقطة موضوعة حتى قبل بداية الجملة ، المعنى تمّ واكتمل منذ البداية الأولى قبل أن يولد الإنسان ، وهذا يجعل حياة المؤمن ضرباً من التضاد ، تجعله مركّباً قلقاً ، لكنّه يدفن قلقه هذا في تراب طقوس بعينها تجعله كائناً أكثر ميكانيكية ، تكراريّة الطقوس في حالة المؤمن ، إضافة الى الدخول في الحشد ، يمنحانه الطمأنينة .

لا تزال عملية مواجهة المصير وجهاً لوجه ، دون سند أو دعامة ، أمراً مهولاً بالنسبة للمؤمن ، ولا يزال الركون الى إله – ولو كان فزّاعةً من صنع الإنسان ذاته – أكثر طمأنينة للمؤمن من الركون الى قوانين الكون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بتضارب النصوص داخل القران ظهرت الفتاوى
حكيم العارف ( 2010 / 12 / 13 - 01:39 )
فعلا المؤمن مسيّج بخطوط حمراء ، لا يمكنه الفكاك منها إلا بالإحتيال ، وهو الدور الذي يقوم به الفقهاء وأصحاب السلطة بالنيابة ، الإحتيال على المؤمن أو على النصّ ، مستثمرين في ذلك تضارب النصوص داخل القران ولذلك ظهرت الفتاوى اللاذعه مثل رضاع الكبير وزواج المسيار ونكاح الاطفال




يبدو ان كاتب المقال لم يفرق بين الكتاب المقدس والكتب الاخرى..


2 - الدين كفكرة لا تقبل التفكير
حميد كركوكي ( 2010 / 12 / 13 - 02:59 )
الفكرة والخلق الديني تجعلني بأن أقبل (بعدم الفهم ) ، والرضاء على أنها الفهم السديد الكامل( اليوم أكملت لكم دينكم ...وو) ، وهذه العملية مرفوضة في الديالكتيك الفكري ، الرفض والتعمق والأختبار هي الملزومة الصحية النافعة للفكرالمتطور الديناميكي المتواصل ، والمتشكك دائما يتعامل مع المحيط بصورة مرهفة و تقدمية و المواظبة للخلاقية والمعرفة الجديدة ، وبالعكس العقل الراضي بعدم الفهم أوعدم الشك وقبول كمالية الأنجاز الديني ، هو قطيعي يلازم السكون العقلي و الرضاء بما أنجزه الآخرون و الرضوخ والطاعة لفكرهم البائيد والماضي وليس من واجبه أن يبدع ( الأبداع أنتهت من قبل شلة الدين و خاصة رسول الدين أو المذهب ، مثل العشاء الجاهز فقط تحتاج إحمائها ثانية في (المايكرو ويڤ ) وإلتهامها و عدم المعرفة كيف طبخت ،، أنه جبان فكريا لايمكنه أعطاء أنتاج جديد للفكر و تقدم الفكر الأنساني المعاصر ، وبالتالي يكون حجرة عثرة للتقدم كما هو الحال في العالم الأسلامي ، هذا وشكرا لكاتب المقال 


3 - كلام ايدلوجي
عبد العزيز ( 2010 / 12 / 13 - 03:13 )
لتفسير كلمة كلام ايدلوجي عزيزي الكاتب يجب عليك نبذ اسبقية التفكير لديك والانطلاق من النظرة الاسبقية الى نظرة المعرفة المتوافرة لديك وقل علي اصبت الحقيقة في مقالتي اما الادعاء بفسطاطين من التفكير المؤمن الغبي المتبلد الاحساد المخدر والذي لايجد داع للتفكير والملحد الذي ينطلق من العدمية ويعارض كل ما اتى به الفكر والوجدان العقلي من صور تأكد منها بنفسه اذا تعارضت مع الحاده فتلك هي العدمية التي لاتنطلق من قوقعتها فحتى كبار المفكرين الذين اعلنوا الحادهم لم يتوصلوا الى نظريتك


4 - جمال على
شاهر الشرقاوى ( 2010 / 12 / 13 - 10:12 )
وهذا ما لا نراه في حالة المؤمن لأنّ النقطة موضوعة حتى قبل بداية الجملة ، المعنى تمّ واكتمل منذ البداية الأولى قبل أن يولد الإنسان
***********
احييك سيدى الكاتب على الموضوع الجميل
لكن اسمح لى ان اختلف معك فى كون ما ذكرته عن المؤمن ووصفك لاحواله وقلقه من معطيات الحاضر هو من مقتضيات الايمان الحق كما يريده المولى عز وجل
فالمؤمن الحق .لا يخاف ولا يحزن (ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
(يا ايتها النفس المطمئنة ارجعى الى ربك راضية مرضية ..فأدخلى فى عبادى وادخلى جنتى )
(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا )
هذه بعض الايات التى تصف حال المؤمن الصادق فى ايمانه .الواعى بحضوره
والمتفهم لدوره ومهمته فى الحياة

ما اقتبسته عاليه من كلامك يختص بعلم الله ومشيئته فقط .اما نحن كبشر وكعباد لله ..فالامر مختلف تماما لاننا لا نعرف ما يخبئه لنا القدر .واية قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا .ليس معناها ان نستسلم للقضاء والقدر ..ولكن معناها ان نسلم ونثق ونوقن برب القضاء والقدر .فلا نخشى سواه ولا نطمع فى غيره وننطلق فى الحياة بعد الاخذ بالاسباب بلا خوف ولا حزن

تحية































اخر الافلام

.. الطوائف المسيحية الشرقية تحتفل بأحد القيامة


.. احتفال نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل من الإخوة المسيحيين بقدا




.. صلوات ودعوات .. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسي


.. زفة الأيقونة بالزغاريد.. أقباط مصر يحتفلون بقداس عيد القيامة




.. عظة الأحد - القس باسيليوس جرجس: شفاعة المسيح شفاعة كفارية