الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقية في السيرة النبوية

ناصر بن رجب

2010 / 12 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


صدرت مؤخّرا الترجمة الفرنسية لكتاب بارت إهرمان (Jesus, Interrupted) تحت عنوان : "بناء شخصية المسيح، في مصادر الدين المسيحي"([1]).
في الفصل الأول من كتابه تحت عنوان : "هجوم التاريخ على العقيدة"، يقول بارت إهرمان : "أن نقرأ كتابا من البداية إلى النهاية، فهذا شيء طبيعي جدّا. وهذا ما نسمّيه القراءة "العموديّة". نبدأ من رأس الصفحة ونقرأ إلى أسفلها؛ ننطلق من بداية الكتاب ونمضي في القراءة إلى النهاية. وهذا لا عيبَ فيه، فالأناجيل ولا شكّ كُتبت لكي نقرأها هكذا. ولكن يمكن قراءتها على نحو آخر؛ أي "أفُقيّا". ففي القراءة الأفقية نقرأ قصّة في واحد من الأناجيل، ثم نقرأ نفس القصة في إنجيل آخر، وكأنّما نضعهما جنبًا إلى جنب، على عمودين. وبعدها نقارن القصّتين بالتّفصيل.
 
قراءة الكتاب المقدس أفقيّا تسمح بإظهار كل أنواع الإختلافات والتناقضات، أحيانا الإختلافات هي مجرّد تغييرات بسيطة في القصّة، وقد تكون مُهمّة لِفهم ما كان مُؤلِّف الإنجيل يريد إبرازه، ولكنّها غير متناقضة. مثلا، إذا قرأنا أفقيّا قصّة ميلاد المسيح في إنجيل متّى ولوقا، فإنّنا سنرى أنّ متّى يحكي قصّة المجوس الذين يجيئون لكي يسجدوا للمسيح، في حين يروي لوقا قصّة الرُّعاة الذين يجيئون لنفس الغرض. وهذا ليس متناقضا : متّى يبتغي (لأسباب مهمّة في الواقع) أن يروي قصّة المجوس، ولوقا (لأسباب أخرى) يبتغي أن يقصّ حكاية الرُّعاة.
(...) لنكتفي بالقول الآن أنّ مُعظم القرّاء لا يرون هذه الإختلافات لأنّهم تعلَّموا قراءة الكتاب المقدّس عموديّا – أو على الأقل هم مياّلون لذلك – في حين أنّ المقاربة التاريخيّة تقترح أنّه من المفيد أيضا قراءته قراءة أفقيّة" (ص 38-39) [الترجمة من عندنا].
 
وكامتداد لهذه القراءة التاريخيّة المقارنة فإنّنا سوف نحاول القيام بقراءات أفقية للّسيرة النبويّة من خلال ما ألَّفه ابن إسحاق أكثر من مائة عام بعد وفاة نبيّ الإسلام. يمكننا أن نقوم بقراءة أفقية على مستويات ثلاثة؛ قراءة أفقية في النصوص الإسلامية؛ ثم قراءة أفقية في النصوص المسيحية (بين الأناجيل)؛ ثم قراءة أفقية بين النصوص الإسلامية والنصوص المسيحية.
 
فعكسا للأسطورة الرائجة عن أنّنا نعرف كل التفاصيل عن سيرة نبيّ الإسلام، عن طريق سيرة ابن إسحاق التي اختصرها ابن هشام فأصبحت بذلك المصدر الوحيد لهذه السيرة، فالحقيقة أنّنا لا نعرف عنه إلاّ شيئا قليلا، والكثير الذي نعرفه هو من إنشاء محمّد ابن إسحاق الذي سمّاه فقيه المدينة مالك بن أنس "دجّالاً من الدَّجاجِلة" لأنّه كان يتتبّع : " غزوات النبيّ (ص) من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصّة خيبر وغيرها وأن ابن إسحاق يتتبّع هذا منهم من غير أن يحتجّ بهم"([2]).
 
معروف أن ابن إسحاق ينحدر بأبيه من مجموعة الرهبان الذين أسرهم خالد بن الوليد وأرسلهم إلى المدينة ليصبحوا موالي لأعيان الصحابة، فهو يعرف بالتفصيل أساطير أنبياء العهدين القديم والجديد فأسقطها حرفيّا على السيرة التي تخيَّلَها لنبيّ الإسلام.
مثلا رواية نزول جبريل في غار حراء هي إسقاط حرفي لنزول جبريل نفسه على النّبي إشعيا. تقول السيرة أن جبريل جاء إلى نبيّ الإسلام وقال له ثلاثا : "إقرأ!"، فكان في كلّ مرّة يجيبه "ماذا أقرأ؟". وكذلك فعل جبريل مع نبيّ بني إسرائيل إشعيا (40، 6) : "صوت قال : إقرأ، فقلتُ : ماذا أقرأ؟"."Une voix dit : "Proclame!", et je dis : "Que proclamerai-je?".([3])
 
إسقاط آخر للقصّة التي ذكرها بارت إيهرمان في كتابه واستلهمها ابن إسحاق في سيرته النبوية، نجده في إنجيل لوقا عن الرّعاة الذين بشّرهم ملاكٌ [جبريل؟] بميلاد يسوع المسيح : "وكان في تلك المنطقة رُعاة يبيتون في العراء، يتناوبون على حراسة قطيعهم في الليل وإذا ملاك من عند الرّب قد ظهر لهم، ومَجْدُ الرّب أضاء حولهم، فخافوا أشدّ الخوف، فقال لهم الملاك : "لا تخافوا! فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يَعُمّ الشعب كلّه ...".
 
هذه الرواية الأسطورية عن الرعاة والملاك لفّقها ابن إسحاق في السيرة التي غدت الآن مع الاسف مصدرا لا يكاك يرقى إليه الهمس رغم أنّها من بابها إلى محرابها دَجَل في دجل عندما يُورد نفس قصّة إنجيل لوقا كما يلي : "... وحدّثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلاّ عن خالد بن معدان الكلاعي، أنّ نفرا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا له : أخبرنا عن نفسك؟ قال : نعم، أنا دَعْوَة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى، ورأت أمّي حين حملت بي أنّه خرج منها نور أضاء لها قصور الشّام. واستُرضِعتُ في بني سعد بن بكر. فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْما لنا، إذا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطَسْت من ذهب مملوءة ثلجا. ثم أخذاني فشقّا بطني، واستخرجا قلبي، فشقّاه فاستخرجا منه عَلَقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتّى أنقياه ..." (السيرة، ج 1، ص 152). ونفس هذه القصّة نجدها عند عدد كبير من المحدِّثين والمؤرخين المسلمين الذين جاؤوا بعده من الطبري في تاريخه إلى البخاري في صحيحه، إلى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوّة وذلك مع تنويعات التي بالرغم من أنّها طفيفة لكنّها تفضح الظرف التاريخي المختلف الذي كتب فيه كلّ واحد منهم. وسوف نعود لاحقا لدراسة هذه القصّة، وقصص أخرى استعارها ابن إسحاق من التوراة والأناجيل، دراسة تفصيلية أفقيّة مقارنة تضع بالتوازي مختلف الصيغ التي وردت فيها سواء في التراث اليهودي، أو المسيحي، أو الإسلامي مع إبراز مواقع تقاطعها ومكامن اختلافاتها وتطابقاتها.
 
ما نستطيع قوله هنا الآن أنّه يتّضح لنا من إسقاط أسطورة تلقّي نبيّ بني إسرائيل أشعيا الوحي لأوّل مرّة على تلقّي نبيّ الإسلام الوحي لأوّل مرّة ومن إسقاط "دجّال الدّجاجلة" لِبِشارة الملاك للرّعاة بميلاد عيسى في مجيء الملاكين لنبيّ الإسلام من بين الأطفال الرعاة لشقّ قلبه وانتزاع العلقة السوداء وتنظيف أمعائه بماء الثلج و "ماء الورد" كما يضيف الأصبهاني، أنّ سيرة ابن إسحاق، المصدر الوحيد لتاريخ نبيّ الإسلام، هي مجرّد خيالات وأكاذيب. فما أحوجنا اليوم لكتابة سيرة جديدة أقرب إلى تاريخ نبيّ الإسلام كما حدث أو كما كان يمكن أن يحدث فعلا، والمصدر الأول لذلك هو القرآن الكريم الذي بإمكاننا – عكسا لما رأى دو بريمار – إنطلاقا منه أن نعرف حقائق أكيدة وثمينة عن تاريخ نبيّنا عليه السلام.
 
لكن لا يمكن لأي سيرة جديدة تاريخية فعلا أن تحلّ محلّ سيرة ابن إسحاق الأسطورية إلاّ إذا فكّكناها تاريخيّا بقراءة تاريخية أفقية تقارب بين أساطير العهدين القديم والجديد عن أنبيائهما وبين سيرة ابن إسحاق، وكلّما وجدنا تطابقا بين سيرة أولئك الأنبياء وسيرة نبيّنا أسقطناها كمرجع تاريخي للسّيرة.
 
[email protected]
 


[1] Bart EHRMAN, La construction de Jésus, Aux sources de la religion chrétienne, éd. H&O, Paris, 2010
[2] المغازي الأولى ومُؤلِّفوها، يوسف هوروفيتس، ترجمة حسين نصّار، راجعه وقدّم له مصطفى السقا، القاهرة 1949، ص 79. أُعيد طبعه بدار بيبليون، باريس 2005.
[3] أنظر المقال الذي ترجمناه أخيرا للمستشرق الراحل ألفريد لويس دو بريمار : "المقاربة التاريخية للشخصيات الدينية : محمّد"، وهو منشور في موقع الأوان وأُعيد نشره من قبل عدّة مواقع على الأنترنيت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مجرد رأي
أبو أسعد السوري ( 2010 / 12 / 13 - 12:57 )
الكاتب العزيز: القارئ للكتب الدينية والمهتم بمقارنة الأديان يستطيع الاستنتاج بسهولة أن السيرة النبوية بل والقرآن نفسه هما اختصار وترجمة شبه حرفية للعهد القديم. الأمثلة التي ذكرتها صحيحة تماما وهناك عشرات الأمثلة غيرها. فرق الإسلام الوحيد عن غيره وجود كتب التفسير التي تحاول تجميل الإسلام منذ قرون ورفع كتب السيرة إلى درجة القدسية.


2 - بين الوثيقة العلمية و الوثيقة السياسية
أحمد التاوتي ( 2010 / 12 / 13 - 15:59 )
الكاتب المحترم:
أبو اسحاق كتب السيرة انطلاقا من شفاهيات الاخباريين ، و اذا صح اقتصاره على الاخباريين اليهود فهذا امر لم يسلم منه الطبري أيضا.. و لكن مع ذلك يبقى هذا العمل توثيقي - و على علاته- لا يخرج عن اطار مهمة التدوين لذلك العصر و بامكانياته.

و لجنة عثمان الأموية جمعت القرآن الذي -رأته- قرآنا مخالفة لكثير من الصحابة و أولهم عبد الله بن مسعود، كما تم -تنقيحه- مع الحجاج و أعيدت صياغته عهد عبد الملك بن مروان... مما يخرج هذا العمل من المهمة العلمية التي هي التدوين الى المهمة السياسية

هل تستبدل كتاب دعاية سياسي بكتاب علمي على علاته؟


3 - مقال في السليم لكن
سرسبيندار السندي ( 2010 / 12 / 13 - 16:39 )
بداية تحياتي لك يا عزيزي ناصر بن رجب وبكل محبة أسمحي أن أقول أنك خجول في قول حقيقة وهى ( مهما جمل القبيح لن يتجمل ) وأن الشمس يستحيل أن تحجبها ذات يوم غيوم أو زخات مطر ... فالعلة ليست في أن تعبد شجر أو حجر بل كما تقول د . وفاء سلطان أعبد ما تشاء ولكن لاتضربني بذاك الحجر ... وهذا هو مفتاح السلام والرقي عند البشر ... فهل تريد أن تقول بالمفيد أن سيرة الرسول كانت كلها دجل في دجل وأن القرأن من عند ألله عز وجل ...!؟
لا ياصاحبي صدقني كلاهما من نفس الغار ومن نفس المصدر ... وها هى ألأيام تكشف المستور وما كان ذات يوم يفتخر به من تاريخ وقدر ... تصديقا لقول السيد المسيح ليس خفى إلا ويظهر ... سلام


4 - الاحتمال الاكبر
محمد حياني ( 2010 / 12 / 13 - 21:29 )
شكراً للكاتب على هذا المقال لقد كتبت
رواية نزول جبريل في غار حراء هي إسقاط حرفي لنزول جبريل نفسه على النّبي إشعيا
تتهم ابن اسحاق بنقل هذه القصة لماذا لاتتهم محمد بتشبه قصته بقصص انبياء بني اسرائيل
اعتقد ان قصة محمد وجبريل كانت موجودة عند المسلمين قبل ان يولد ابن اسحاق ولا يمكن لابن اسحاق ان يأتي بها من لا شيء
www.mohamedtheliar.com
.


5 - القتل ده سنه نبويه
حكيم العارف ( 2010 / 12 / 14 - 03:12 )
قراءه طوليه او قراءه افقيه القتل موجود وكمان ده سنه نبويه ..

لاتنسى ان بحيره الراهب كان يقص عليه قصص الانبياء فى غار حراء ...

فشبهة اقتباس بعض القصص من اليهوديه وارده وبشده


6 - افقية في اصلها رأسية حسب ما وصلتنا
محمد البدري ( 2012 / 4 / 20 - 07:19 )
الدراسة المقارنة بين العهد القديم بشقيه وبين النص القرآني أمر اصبح قديما ولا نفع من جراءه. فكلاهما كانا من شروط الثقافة القبلية بغض النظر عن اي قبيلة نتحدث ومن اي زمن ننقل. لكن الدراسة الافقية لكلا من التوراة والقرآن ستجعلنا نكتشف انهما كتاب واحد الي حد كبير، وكل ما ينقصنا هو ملئ الفجوات التاريخية والتي اسقطها من نسجوا التاسيس الرأسي للشخصيات الدينية كموسي ومحمد. القراءة الفقية السليمة لاحداث ما جري قديما ستكون مقتل القراءة الراسية. لانها ستكشف مدي الانتقائية والتلفيق والاسقاط والتحبيذ المفتعل بدءا من ابن هشام وكتاب السير. للاسف لا احد من كهنة الزمن الحالي يريدنا ان نقرأ الكتابين بعيون افقية- والا فلماذا اخفوا سيرة ابن اسحق؟ لكنهم يجبرونا علي سماع الصياغة الراسية لما اتفقوا هم عليه واصبح في خدمة السلطة وضد الفرد والانسان في آن واحد. شكرا للجهد وتحية واحترام للسيد ناصر بن رجب.


7 - تعقيب على تعليق
shadde ( 2012 / 4 / 27 - 00:54 )
شكرا للكاتب ناصر على هذا المقال
الفت نظر المعلق اللحترم س السنديي ان الكاتب قد وضح فكرته ووصلت رسالته
في ما يتعلق بالمنظومه الدينيه وذالك واضح من خلال مقالاته السابقه
شكرا لك اخي وللكاتب وللجميع


8 - أكاديمية الطريقة والاختلاف في النتائج
ابراهيم القبطي ( 2012 / 5 / 27 - 04:48 )
الاستاذ ناصر ، تحية :
أنا من أشد المعجبين بـ بارت ايرمان ، وإن كنت أختلف معه في الكثير من النتائج التي توصل إليها في كتبه ، وليس أنا بل الكثير من زملائه في البحث الأكاديمي

وبالمثل أختلف مع بارت في استبعاده لكل ما هو ميتافزيقي بناء على قناعة مسبقة بغياب كل ما هو ميتافيزيقي ... قد يكون المينافيزيقي خارج الفحص التاريخي وكلنه أحيانا يكون ملتحما بالواقع التاريخي ، ولابد من رصده ، وهذا عكس ما يؤمن به بارت تماما

وبالمثل انا أتفق معك في صحة المثيدولوجي ولكني أختلف معك في النتائج
قصة جبريل مع محمد تختلف اختلافا كليا عن رؤيا أشعيا في التركيب والمعنى ، مما يرجح أن مصدر القصة محمد نفسه ، سواء كان صادقا او كاذبا هذا يتطلب المزيد من البحث والنقد

وأخيرا أنا اتفق ايضا مع الاستاذ س. السندي في أنك لا يمكن أن تستبعد القرآن من نفس النقد التاريخي ، بل أن تحليل السنة بالقرآن وتحليل القرآن بالسنة هو أقرب ما يكون لتطبيق الطريقة التي استعملها بارت في القراءة الأفقية

شكرا


اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة ترصد توافد الفلسطينيين المسيحيين إلى كنيسة ال


.. القوى السياسية الشيعية تماطل في تحديد جلسة اختيار رئيس للبرل




.. 106-Al-Baqarah


.. 107-Al-Baqarah




.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان