الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا نتأمل ...؟ - دراسة في التأمل وتقنياته - الفصل الرابع

كامل السعدون

2004 / 9 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


__________________
تأليف
دايفيد هارب

العيش في اللحظة الراهنة :
________________
الأغلبية منّا وللأسف يعيش أغلب الوقت أما في الماضي أو المستقبل ، إذ إن أفكارنا تدور غالباً في أزمنة غير الزمن الوحيد الحقيقي الذي نحن فيه وهو اللحظة الراهنة ، إننا نفكر دوماً أما في هذا الذي فعلناه أو قلناه أو ذاك الذي يجب أن نفعله أو نقوله ، أما هذا الذي نحن فيه الآن ، هذا الذي نملكه ، نعيشه ، نستمتع به ، ننعم به فإننا للأسف لا نمنحه أي قدرٍ من الاهتمام ، ولهذا فإن قدراً كبيراً من السعادة والمتعة والتطور يفوتنا للأسف ونخسره بحكم انشغالنا بالماضي أو المستقبل ، علماً بأن هذا الانشغال لن يغير شيء على الإطلاق فلا الماضي يمكن أن يعود ولا المستقبل يمكن أن نضمن كيف يكون إذا ما أتشغلنا فيه الآن ، طيب ما المتعة في العيش في تلك الأزمنة الغير واقعية ؟
الحقيقة أن هناك متعة خاصة في تكثيف الوعي وتركيزه على اللحظة الراهنة ، متعة خاصة مثيرة للغاية ، فلحظة العيش مع الحبيب أو الاستمتاع بصحبة الأصدقاء أو تناول وجبة لذيذة ، هي لحظات يمكن أن تغدو غاية الجمال إذا كان وعينا منصباً عليها ولا تزاحم ذهننا أو حواسنا أفكار تعود للماضي أو المستقبل لأن مثل تلك الأفكار يمكن أن تعكر صفو اللحظة وتقلل حجم متعتنا إلى حد كبير ، مضافاً إلى أن العيش بكامل الوعي والإحساس في اللحظة الراهنة يمكن أن يصل إلى مستوى الشغف بتلك اللحظة بحيث أن أفكار إبداعية جديدة يمكن أن ينتجها عقلك أو ربما تجد حلولاً متميزة لإشكاليات اللحظة الراهنة إذا ما منحتها وعياً هادئاً مكثفاً ( بلا قلق أو خوف أو توتر ، لا بل …استمتاع وانتباه وتركيز حسي شديد وتلقائي فقط ) .
اغلب أنواع التأمل التي مرت بنا في الفصول السابقة هي في واقع الحال تمارين لتعويد الذهن على التركيز على اللحظة الراهنة ولو إن الواحد منّا عود نفسه على التأمل بشكل يومي لتخلص بالكامل بعد شهر أو شهرين من جحيم الأفكار المتعلقة بالماضي أو المستقبل ولغدا أكثر عيشاً واستمتاعا وانتفاعا بجماليات اللحظة ، لكن قد يسألني سائل :
وهل تريدني أن لا أفكر بالمستقبل أو أخطط له أو أحلم به …؟
أجيبك : بل أريدك أن تخطط للمستقبل وتحلم به وتسعى لجعله أجمل وأفضل لكن ليس من خلال أن تهدر كل الأوقات الجميلة في الاستغراق في أحلام يقظة أو في العيش على تذكارات الماضي .
خطط لمستقبلك ، أرسم البرامج المناسبة ، دونها على الورق ، ضع لها الجداول الزمنية المناسبة ، أحلم بها في وقتٍ تخصصه أنت للحلم ومن خلال حالة التأمل العميق حيث يكون ذهنك على موجة إلكترونية مرهفةٍ وواطئة التردد ( أمواج ألفا ) ، بهذه الحالة تستنبت أحلامك وبرامجك في أعمق أعماق العقل الباطن وتتركها تنضج في الداخل على نارٍ هادئةٍ ، ثم تعود لتعيش لحظتك الحالية التي أنت فيها الآن بمنتهى الكفاءة والقوة الحسية والصفاء الذهني ، فإذا كان حاضرك جميلاً هادئاً سعيداً غنياً بالمعطيات والمكاسب ، فإن المستقبل قطعاً سيكون أجمل لأن بذرة المستقبل تكمن في رحم الحاضر …!
أدناه بضع تمارين بسيطة في تأمل اللحظة الراهنة وتركيز الوعي على هذه اللحظة :
__________________________________________

1- تمارين ال ( ZEN ) اليابانية : أعتاد كهنة اليابان على اعتماد الفعاليات الحياتية اليومية كسقاية النباتات في المعابد أو التنظيف أو حفلات شرب الشاي البسيطة على أن يجعلوا منها مواد للتأمل ، فبينما يقوم الكاهن بسقاية الزهر ، تجده يركز ذهنه وحواسه بالكامل على عملية السقاية وتحسس الأزهار والتركيز على ألوانها وتركيز حاسة الشم على عطرها وغير ذلك من تفاصيل صغيرة ، تجده عندما ينجز هذه العملية بغاية البطيء وغاية التركيز ، تجده بعد هنيهة من المباشرة يغدو في حالة شفافية روحية سامية وتغيب كل الأفكار المتعلقة بالماضي أو المستقبل من ذهنه ويصل إلى الصفاء الشديد .
وكذلك حين يجتمع الكهنة وتلاميذ الكهنوت على مائدة الشاي ، يغدو كل التركيز على تذوق الشاي وشربه وتحسس دفئه ولونه وحركة اليد وهي ترفع القدح إلى الفم وهكذا ، كذلك في تمارين رماية السهم من قوسه ، تجد أن هذا التمرين شائع للغاية لدى ممارسي ( الزن ) ، وتجدهم يأخذون الوقت الطويل في التركيز على الهدف أو على السهم وحركة اليد ، بحيث تغيب كل الأفكار ويروق الذهن بالكامل وبالتالي يصلون إلى الرماية الموفقة .
أو خذ عملية تناول الطعام مثلاً ، نحن للأسف نأكل بغير وعيٍ منّا لما نأكل وبغير اهتمام لهذه اللقمة التي تدخل الفم ، ربما نعنى كثيراً في اختيار الأطعمة ولكننا لا نعنى في القيمة الغذائية أو الصحية لما نأكل ، لا نعنى بجوهر ما نأكل ولا نعنى بطريقة الأكل ولا أجواء تناول الطعام ، ولا عملية هضمه والاستمتاع بهذا الهضم ، فنحن غالباً ما نتحدث مع الآخرين أو نتشاغل بهمومنا الداخلية أو أحياناً نقرأ أو نشاهد التلفاز بينما نحن نأكل وهذا كله خطأ .
يمكن أن تجعل من تناولك للغداء أو الإفطار ولو بين الفينة والأخرى طقساً تأملياً جميلا ، يضفي على الغذاء نكهة خاصة ويمنحك عافية أفضل ويعودك على عادةٍ جديدةٍ صحية ومفيدة ومهدئة للذهن قد تستمر معك العمر كله .
وبمقدورك عزيزي القارئ أن تجعل من أي مهمة صغيرة في البيت أو في الشارع أو في العمل مادة للتأمل تنال من خلالها الصفاء الذهني والطاقة النفسية المكثفة .

عملية التخيل أو التصور Visualisering :
______________________
هناك حقيقة علمية أكيدة أثبتتها البحوث السيكولوجية وهي أن المخ والجسد يتأثران بقوة بالصور التي يشكلها الذهن ويعكسها في عيننا الداخلية وبالتالي فإن القدرة على التصور والتخيل مهمٌ للغاية ومفيدٌ في نواحٍ كثيرة وعلى كامل الشخصية وأدائنا الحياتي وسلوكنا وحجم النجاح الذي نناله في هذه الحياة .
لقد تأكد أيضاً وفي مجالات مهنية ورياضية وفنية عديدة على إن التصور السالف لأداء وظيفةٍ ما أو عمل معين قبل أدائه فعلياً على خشبة مسرح الواقع ، يمكن أن يسهل أداء العمل ويوصله إلى قدر كبير من الإتقان ، ولهذا تجد الكثير من الفنانين والرياضيين ورجال الأعمال يتمرنون غالباً في الداخل على أداء العمل الذي يرومون أدائه في الواقع .
إنهم يفعلون هذا قبل لحظات أو ساعات من الأداء الفعلي وذلك من خلال إغماض العينين وتصور أداء العمل في داخل الذهن .
كلما اشتركت الحواس في الامتزاج في الصورة الذهنية المنتجة في الداخل ، كلما كانت الصورة أكثر تأثيراً في كامل الوضع النفسي والجسدي وبالتالي يكون النجاح أكثر ضمانة وأكبر مما لو إننا تصورنا ما نريد فعله دون أن نشرك حواسنا كالسمع والبصر واللمس والتذوق والشم .
الغريب أن بمقدور الإنسان أن يحقق منجزات فيزيقية وفكرية تتجاوز حدود كفاءاته الحقيقية وعمره وقدراته العضلية إذا ما قام بتصور هذا الذي يريد فعله وإذا ما أشرك أكبر قدرٍ من الحواس في عملية التصور ، فمثلاً لو إنك أردت أن تنجح في مقابلة على وظيفة وقمت بتصور تلك المقابلة بالكامل في ذهنك ورأيت مكتب اللقاء ورأيت وجه الشخص الذي سيقابلك ورأيت الأجواء من حولك وتحسست ألوان الجدران والأشياء في هذا الجو وحاولت أن تستنشق أو تشتمم أجواء المكان وتحسست حرارة الغرفة أو القاعة فإن حميمية وألفة ستحصل بينك وبين هذا الشخص وهذا المكان مما يجعلك تتصرف بشكل تلقائي وبسيط وبلا توتر وبالتالي تكسب ثقة المقابل وتزداد ثقتك بنفسك ، وطبعاً مثل هذا التصور لا يمكن لأي كان أن يفعله متى ما شاء بل ينبغي أن تضع ذهنك في حالة استرخاء قبل أن تقوم بالتصور ومثل هذه الحالة يمكن أن تنالها عبر تمارين التأمل .
أدناه تمارين على التأمل الذي ينشط القدرة على التخيل :

تأمل ثمرة الليمون :
__________
ضع في ذهنك صورة ثمرة ليمون ، حاول أن تراها بوضوح ، لونها الأصفر المشرق اللامع كلون الشمس ، تأمل قشرتها السميكة ، حاول أن تتخيل نفسك وأنت تتحسس هذه القشرة ، تمر بيديك على التجعدات الصغيرة ، أغرز أظافرك في القشرة ، تخيل كيف ينبثق زيت الليمون ليغمرك أطراف أصابعك ، أزح قليلاً من القشرة بحيث تبرز الأنسجة البيضاء التي تغطي الثمرة الأصلية ، حاول أن تدخل حاسة الشم في العملية التأملية ، تشمم نكهة حموضة الليمون بينما أنت تغرس أسنانك في الثمرة ، تذوق هذه الحموضة .
إذا نجحت في أن تتصور كامل هذه العملية بغاية الدقة فإن اللعاب سيتدفق في جوف الفم .
طيب … إذا أمكن لك أن تمرن غدد اللعاب على أن تنفعل لتصوراتك ، فإن بمقدورك أن تمرن غدداً وأعضاء أخرى على أن تتأثر بمجرد الخيال ، وبالتالي فتخيل كم من عناصر القوة يمكن أن تفجر في داخلك لو إنك غذيت إمكانيات التصور وطورتها لديك …!

التأمل في اللحظات العصيبة :
_______________
غالباً ما يتعذر علينا أن نتأمل حين نكون في موقفٍ عصيب حلّ بنا فجأةٍ فأفقدنا الرشد ، وما أكثر ما نسيء لأنفسنا ولغيرنا في لحظات الغضب وفقدان الرشد أو في لحظات الشدة وكم من الناس من قتلته لحظة مرارةٍ أو حزنٍ أو ألم .
طيب ماذا لو إننا تمرنا سلفاً على أن نضع أنفسنا في حالة تأمل قبل أن يحصل الموقف الذي نعجز فيه عن التأمل .
لو إننا فعلنا هذا وتمرنا عليه سلفاً فأننا سنملك إمكانية النجاح في التأمل في لحظة الحدث وبالتالي نعبر لحظة الخطر أو الخوف أو الغضب ونحن في كامل قوانا العقلية وهدوءنا فننال الفوز والنجاح .
قد يقول قائل ، ولكني لا أعرف ما سيصيبني بالضبط ولا أريد أن أنشغل بغدي منذ اللحظة ، ونقول قطعاً لا نعرف كل ما سيحصل لنا ولكننا لو تمرنا مثلاً على مواقف بسيطة من قبيل أن تتخيل مقطعاً من حياتك في اليوم التالي مثلاً لحظة دخولك على مديرك في العمل لمحاسبتك على خطأ بدر منك أو لنفترض أن لديك في الغد امتحان في الجامعة وتريد أن تضع نفسك في حالة تأملية لذيذة قبل أن تواجه أوراق الامتحان ، هذا الغد ليس بالبعيد فلم لا تتهيأ له الآن فتنجح فيه غداً .
طيب … تخيل اللحظة التي تدنو فيها من المدرسة أو المعمل في الصباح ، أشرع بتخيل نفسك وأنت تتقدم ماشياً ، تخيل نفسك وأنت تشرع بالاسترخاء وتبدأ بالاستغراق بحساب خطواتك أو متابعة تنفسك ، تخيل خطو إقدامك على بلاط الشارع ، تخيل أجواء المكان الذي سبق لك أن مشيته مرات ومرات عديدة ، تحسس رائحة المكان ونكهة الشارع التي ألفتها مرات ومرات ، أصغ السمع لما تتوقع أن تسمعه في هذا المكان من أصوات سيارات أو حركة سابلة أو مكائن حفر أو غيرها .
في الغد وفي نفس المكان الذي اقترحته في خيالك في اليوم السابق ، ستجد نفسك تشرع بالاسترخاء والتأمل وستدخل مكتب المدير أو قاعة الامتحان وأنت بمنتهى الهدوء والثقة وستنجح بالتأكيد في أن تتعامل مع الوضع بغاية المرونة والانسيابية والشفافية .
وهكذا مع كل المواقف وحتى الخطرة منها أو المهلكة .
_____________________________________________________________________
وإلى فصلٍ آخر من هذا الكتاب في لقاءاتٍ قادمة .
ترجمة
كامل السعدون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيناريوهات خروج بايدن من السباق الانتخابي لعام 2024


.. ولادة مبكرة تؤدي إلى عواقب مدمرة.. كيف انتهت رحلة هذه الأم ب




.. الضفة الغربية.. إسرائيل تصادر مزيدا من الأراضي | #رادار


.. دولة الإمارات تستمر في إيصال المساعدات لقطاع غزة بالرغم من ا




.. بعد -قسوة- بايدن على نتنياهو حول الصفقة المنتظرة.. هل انتهت