الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقلية التقليدية الكردستانية تخشى الوعي الاجتماعي

خالد يونس خالد

2004 / 9 / 24
القضية الكردية


العقلية التقليدية الكلاسيكية تخشى القلم الواعي والوعي الاجتماعي أكثر مما تخشى الصاروخ ، لأن ما يخطه القلم الواعي يبقى في التاريخ، ويؤثر في الأجيال، أما الصاروخ فينفجر وينتهي مفعوله بانتهاء مهمته. لذلك فظاهرة الأنا المريضة وقوى الظلام والإرهاب في كردستان والعراق والعالم أجمع تعمل جاهدة لقتل الفكر، وإعدام الكلمة وملاحقة الكاتب والباحث والمفكر والشاعر والأديب.
لقد لعب الأدب والفكر والعلم دورا كبيرا في حياة الشعوب وثوراتها وحركاتها الإستقلالية والإجتماعية. فالبؤس المادي ذاته لايحرك الشعوب، لأن المثلث: المال، التجسس على الشعب، والعسكرة يمكن إضعاف البؤس بإشباع كثير من الأفواه والبطون، لذلك فإن ما يحرك الشعوب هو الوعي بالبؤس السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي والسيكولوجي. وقد نقل إلينا الناقد المصري محمد مندور بأن وظيفة الأدب الإجتماعية تصدر عن حقيقتين ثابتتين:
"" 1- إدراك العلاقة بين معنويات الحياة ومادياتها.
2- وعي الفرد بما فيه من بؤس.
عن هاتين الحقيقتين تصدر وظيفة الأدب الإجتماعية من حيث أن الأدب محرك لإرادة الشعوب. والذي لاشك فيه أن الحركات الكبيرة التي قامت في التاريخ الحديث كالثورة الفرنسية ووحدة إيطاليا وثورة روسيا البلشفية قد مهد لها الكتاب بعملهم في النفس البشرية، تمهيدا بدونه لم يكن من الممكن أن تقوم هذه الحركات. ولنأخذ لذلك مثلا مسرحية "بومارشيه" للكاتب الفرنسي المسماه "زواج فيجارو" ثم روايته الأخرى السابقة على هذه، وهي "حلاق أشبيلية". فقد هاجم الكاتب فيهما نظام الأشراف الذي كان سائدا قبل الثورة الفرنسية أعنف الهجوم، واتخذ من "فيجارو" حلاق أشبيلية الذي أصبح فيما بعد خادما للكونت "المافيفا" رمزا للشعب الثائر على عبودية الأشراف. وكانت لهاتين الروايتين أثر بالغ في التمهيد للثورة الفرنسية، حتى ألقى بمؤلفهما في "الباستيل". ولا زال إلى اليوم "مونولوج فيجارو" في رواية "زواج فيجارو" نشيدا ضد الإستبداد.
الكُتاب يختلفون في طريقة أدائهم لهذه الخدمة الإجتماعية، فمنهم مَن يعتقد أن في مجرد التصوير والوصف ما يكفي لأداء هذه الرسالة دون حاجة إلى الإفصاح عن مشاعر الكاتب الخاصة أو الدعوة إلى علاج بعينه ... ويرى فريق أخر أنه لابد من الدعوة الصريحة في القصة أو المسرحية إلى المبادئ التي يريد أن يروج لها الكاتب، وهم يستشهدون لذلك بما يلجأ إله كتاب كبار من أمثال موليير وشكسبير" (في الأدب والنقد ، ص 36-37).
لنَكن على أقل تقدير كذلك الرجل العجوز الذي وصفه لنا الكاتب "همنغواي" في رائعته الخالدة "الشيخ والبحر" كيف أنه صارع الأمواج والحيتان والليل الطويل إلى أن حقق النصر. إنه بالإرادة الإنسانية يتحقق الإيمان، وتتحقق الأهداف في الحرية والسعادة ، لنصنع التاريخ والجغرافيا بأيدينا، فغيرنا لم يصنعهما لنا إلا بإرادتنا وحريتنا.
لقد عبر المفكر الكردي مسعود محمد عن مشاعر الشعراء الكرد الذين يغنون بمآثر أجدادهم، مما يؤكد مدى الإحباط الذي يعيشه الكرد اليوم. فلا تتعجب ولا تستغرب "أن تجد الشاعر الكردي في أواخر العشرينات يلوذ في مفخره بالمزايا الحربية لأجداده من الميديين قبل ألفين وستمائة سنة. فهو كالفقير المعدم الذي يفاخر الشبعانين بأكلة دسمة إلتهمها في عيد الفطر على عهد أبيه ... فنحن معشر الكرد في أقرب صورنا إلى الحقيقة كالمفلس بين الأغنياء، والمقعد بين أبطال الأولمبياد ، والأخرس بين الخطباء، والمصفد بالأغلال بين المدججين بالسلاح، يدفعنا طلب الحياة إلى التمسك بكل ما يعنينا على الحياة ". (إعادة التوازن إلى ميزان مختل، ص 58).
بهذا الوضوح ، وهذه الجسارة يُظهر لنا الواقع الكردي مأساة الشعب الكردي في يومنا الراهن. فقد حُرم الكردي من كل ما يمكن أن يتباهى أو يزهو به أمام الشعوب الأخرى، لذلك يلوذ بتاريخه ، ويتفاخر بما حققه الأجداد في سالف الأزمان. والعامل الرئيسي الذي أوصل الوضع الكردي إلى ما هو عليه راهنا يتمثل في عدم وجود كيان سياسي، يجمع شمل الكرد ويوحد جهودهم. وفقدان الكرد رجل دولة يوحدهم تحت زعامته، بل ظهرت عبادة الشخصية والولاء الأعمى وعسكرة الحزب. إنها المشكلة الكبيرة للشعب الكردي، في بعض القيادات الحزبية التي لاتفكر بالكيان السياسي، بل تتمسك بالحكم الذاتي المبتور، وبالفدرالية اليتيمة التي تفتقد للضمانات الأقليمية والدولية، أمام موائد العلمانيين المستبدين من القابضين على السلطة التي تحتل كردستان وتحكم شعبها بالعلاقات الإستعمارية في إستعمار الجار للجار. أو وقوف بعض هذه القيادات على أبواب أصحاب العمامات الدينية السوداء والبيضاء على السواء، الذين يستبدون الأقوام والشعوب بأسم الدين، ويظلمون الناس بتحريف النصوص في معانيها، ويضطهدون الناس ويهضمون حقوق الإنسان، ولاسيما المرأة باسم الديمقراطية المزيفة التي لايفهمون محتواها سوى بالإنتخابات. ومتى ما وضع الناخب ورقة التصويت في الصندوق يرجع عبدا.
التاريخ الكردي لم يشهد منذ 25 قرنا بروز كيان قومي يضم شتات الشعب الكردي و "يجمع أحاده وحشوده على سنن في المعيشة والسلوك والإجتماع، يبلور فيهم قومية عامة". (إعادة التوازن، ص 53).
لا تقل لي بأن الكرد أسسوا كيانا قوميا في مهاباد عام 1946 فقد كان ذلك أقليما كأقليم كردستان الجنوبية اليوم منذ عام 1992. هناك فرق بين أن تحقق ذاتك ، وتشعر بأن اللغة الكردية وعاء ثقافتك بدلا من أن تُهمش لغتك من قبل القابضين على السلطة ، حيث يحكمون كردستان بالعلاقات الاستعمارية ، ويتآمرون كل يوم للقضاء على منجزاتك .
ومن هنا يقول مسعود محمد: "لقد أدى هذا الوضع فيما أدى إليه إلى ضعف شعور الكرد بالمصلحة العامة المادية الدنيوية التي من شأنها أن تحركهم وتدفع بهم نحو الذود عنها ، وتوحيد الكلمة بشانها. ومن هنا أيضا: "ضاعت على الكردي عبر عشرات القرون فرصة ميلاد القيم القومية الرادعة الدافعة التي تتولد بالضرورة من رحم الكيان السياسي واختفت لديه المقاييس التي يمتحن بها السلوك العام، لإختفاء البوتقة القومية التي تفرغ فيها تلك المقاييس. ولم يتيسر له قط في الزمان الماضي أن يتعرض للوم في تقاعسه عن القيام بواجباته القومية التي لم تكن ولدت، أو أن يكتسب الشهرة بوقوفه مواقف مشهودة في صيانة المصالح والحدود العامة التي لم توجد قط ... فنحن مرعى بلا سياج وحَي بلا ديدبان وضيعة خلت من فزاعة الطيور". (إعادة التوازن، ص54).
الحقيقة المرة والأزمة المزمنة في واقعنا المؤلم تتجسد في كوننا "ولدنا عصر الثروات والثورات بفقر مادي هو تحت حد الإفلاس، وفقر معنوي كان أكبر خواء فيه هو ضياع البعد القومي من موحيات فخرنا ... وقد يزيد من بواعث ألمنا علمنا بأن المرتقى الوحيد الذي إستطاع أن يتسلق عليه بعض أمراء الكرد إلى مطارح السلطان المرموقة كان بتبعيته لذوي السلطان من غير الكرد. فهو في عز قوته مقتدر بغيره. وعلى أوان الشبع منتقم من سماط لايملكه". (إعادة التوازن، ص57) . فنحن نعلم أن ملايين الدولارات تأتي من الكمارك مثلا ، ولاتزال تأتي منها ولو بدرجة أقل بعد سقوط صنم ساحة الفردوس ، كما تأتي من التجارة التي ينظمها أمراء السياسة وتدخر في خزائن الأمراء دون أن يملكها الشعب والبرلمان. ونظل نصرخ عاش السلطان، وصراخنا يعود إلينا ويرن في آذاننا، والسلاطين في قصورهم لا يسمعوننا. انهم يسمعوننا اذا انتقدنا السلطان فيجرونا الى زنزانات مظلمة، أو يتهمونا بالخيانة ويحرموا علينا أرزاقنا، أو يجعلونا نهرب الى الغربة. انها الديمقراطية التي لا نفهمها نحن الذين نعيش في الغرب الديمقراطي، حيث ينقد المواطن ويقول كلمته بحرية ليشعر بأنه ينتج ويكون عضوا كامل النمو في المجتمع، بدلا من أن يصفق للسلطان وحراسه وحماة عرشه .
أه كم تألمت حين جاءني طفلي الصغير في الثامنة ربيعا ، في يوم ممطر بارد، ويسألني : بابا أنت تقول نحن شعب ولكن هل لنا دولة ؟ قلتُ نعم لنا دولة جميلة جمال الطبيعة المتعطشة للحب. فيسألني سؤالا أقوى من الأول : ما اسم دولتنا؟ قلت كردستان. فقال: مَن هو رئيسها؟ قلت لا رئيس لها. فنظر اليَ صامتاً بحزن وألم، والدمعة تنحدر من مقلتيه. فقلت يابني: ما أكثر الرؤساء وما أكثر التعساء، وما أكثر الأحزاب. الثأر العشائري يبقى فينا ولا نهدأ إلاّ أن نثأر حتى لو مضت عشرات السنين. نثأر من أجل العشيرة ونتعاون مع الشيطان لنغسل العار العشائري . ونظل نصفق للسلطان، وننحني للسلطان، ونهتف للسلطان ونخضع للعبودية بكل حماقة وسذاجة. ولا نسأل هل من شرف أعظم من شرف الأمة ؟ وهل من كرامة أعظم من كرامة الوطن؟
يقول مسعود محمد في وصفه لمأساة الشعب الكردي قائلا : "لقد ندر بين الشعوب أن يوجد كالكرد شعب قذف به التاريخ إلى المعمعان الحديث المسلح بالعلم والقوة والمتعة مجردا من قوة ذاتية موروثة ومفتقرا إلى عون يأتيه من خارج وجوده ومحاطا من حوله بموهنات للعزم تهبط بهمم الأقوياء". (إعادة التوازن، 57-58).
اني أتذكر قصة عميد الأدب العربي الراحل طه حسين في كتابه "المعذبون في الأرض" ، والقصة تلتقي في بعض فصولها بقصة فولتير "حال الدنيا" حيث يتفق كلاهما (طه حسين وفولتير) في حال الدنيا وعذابات الناس من إنعدام العدالة والمساواة . فطه حسين يصف حاله في الدنيا من خلال تصوير الحياة المصرية والمعذبين في مصر. بينما يصف فولتير هذه الحالة عند الذين يفنون أعمارهم في العمل الشاق كمرؤوسين دون أن يصلوا إلى مبتغاهم، فالقضاء بالعدل تُشترى بالمال. (المعذبون في الأرض ، ص أماكن مختلفة . أيضا فولتير (Varlden som den ar, p.2
ولكن على الرغم من كل ذلك لابد من ضرورة العمل الكردي المشترك، لأننا "لو إجتمعنا كلنا قلبا واحدا ويدا واحدة وهدفا واحدا لم نقدر على حمل الكلفة الموضوعة على عاتق الشعب الكردي فكيف نكون إذا انشغل بعضنا بمعاداة بعض". (إعادة التوازن، ص100) ومن هنا ينبغي، لابل يجب على الكرد أن ينبذوا نبذا مطلقا الإقتتال الأخوي، لأنه مهما كانت حجج تبريره، ليست له صلة بالمصلحة الحقيقية للشعب الكردي، بل أنه يهدد المصلحة الوطنية في الصميم. "فالمصلحة الكردية لاتحتمل في حالها الراهن أن يتقاتل أبناؤها المكافحون ويتذابحوا بسلاح الأجنبي ... الذين يريدون بحجج التحليلات الفلسفية حمل الناس على الإقتناع بوجوب شرعية التذابح الداخلي للمناضلين هم أناس يسكبون السموم من أنياب الأفاعي الكامن في نفوسهم". (الإنسان وما حوله، ص 114). فليتوحدوا في إدارة واحدة وقيادة واحدة بعيدا عن التهافت والمصالح الذاتية وبناء القصور وعبادة الشخصية والوقوف على أبواب الظالمين . ولنقول كلمتنا نحن المعدَمون والفقراء والكادحون، ونتجرأ أن ننقد ما ينبغي أن ننقد ، ونقول بأعلى أصواتنا ، سحقا للعبودية والولاءات العشائرية والقبلية . ولنسير صفا واحدا ، وقلبا واحدا ضد الظلم والعدوان والإحتلال والإرهاب والإضطهاد والإستغلال، وليسقط قصر الباستيل دون رجعة.
* د. خالد يونس خالد ، باحث وكاتب صحافي مستقل مقيم في السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى خشية تل أبيب من إصدار المحكمة قرار باعتقال نتنياهو وغ


.. الجزء الثاني - أخبار الصباح | الأمم المتحدة تعلق مساعداتها إ




.. أطفال فلسطينيون يطلقون صرخات جوع في ظل اشتداد المجاعة شمال ق


.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا




.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ