الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين و الفردوس الأرضي

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2011 / 1 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



من خلال نقد عبد الوهاب المسيري للعلمانية يضعنا المسيري بين خيارين فقط، لا ثالث لهما، تقديس المادة أو تقديس المعنى، و المعنى هنا يبدو لي شيئا أفلاطونيا خياليا مختلف تماما عن المادة، فالشخص الذي يحب امرأة ما يحبها لأنها موجودة هناك في حيز مادي ما، و لكنه قد يستمر في حبها رغم انتهائها كمادة، و هنا نجد أن المعنى يبقى باستمرار رد فعل حر و غير حر في آن واحد، فهناك من يحب شخصا ثم يكرهه ـ لأسباب ـ و آخر يرغب بذلك لكنه لا يستطيع التخلي عن هذا الشعور ـ لأسباب أيضا ـ و من هنا نجد أن المعنى هو الشعرة الصغيرة الخفية بين الحرية و الجبرية، و المقدس نفسه كمعنى يمتلك مطاطية و قابلية على التمدد أو التقلص، مثال ذلك أن البدوي الذي يقضي حياته في الغزو و الحرب يعرف أن "الغزو و القتل" هو من المحرمات، و لكنه يمارس هذه الأفعال كل يوم و هو يدرك ـ يقينا ـ أن الله سيدخله الجنة، و هكذا نجد أن أبسط العقول و أبعدها عن العلم و الحضارة و أكثرها جهلا بالـعلمانية و مشتقاتها، يجد المقدس مطاطا و قابلا للتجزئة بما يناسب حاجته و حاجات قبيلته و عشيرته.
إن المعنى إنما يتشكل بفعل وجود الحيز الإنساني "المفكر" و لكل شيء منعكس على نفس الإنسان معناه المحدود أو المطلق، فنحن نفكر في شخص ما، و هو بهذه الصيغة يعكس لدينا معنى، و حينما نفكر في هل هو فان أم قابل للتحول إلى الخلود ـ الحياة الأخرى ـ و نوعية هذا الخلود هل هو جسماني أم روحاني؟ هنا يصبح للمعنى امتداد إلى اللا محدود.
يقول المسيري:
"و بالفعل يُلاحظ أن بعض أتباع هيجل حرروا فلسفته تماما من ثنائية الروح و المادة اللفظية، و من أي ميتافيزيقا (حتى يقف الجدل الهيجلي على قدميه الماديتين الصلبتين المحسوستين لا على رأسه الروحي غير المحسوس أو الملموس، مما يذكرنا بفعل "Demetaphsycalize") و من ثم أصبح الإيمان بالدّين و الله و الروح شكلا من أشكال اغتراب الإنسان عن جوهره الإنساني، و أصبح التطور التاريخي الحق هو التطور الذي يعيد للإنسان إدراكه لجوهره حتى يتسنى التعبير عن هذا الجوهر تعبيرا كاملا في داخل هذا الزمان، في عالم الحواس الخمس (في المجتمع اللا طبقي على سبيل المثال)، أي أن الفردوس هو فردوس أرضي مادّي سيتحقق تماما بوسائل مادية داخل الزمن و في نهاية التاريخ، و هو ما يمكن أن يطلق عليه ((الميتافيزيقا الطبيعية أو التاريخية)) إذ يتجلى المطلق من خلال الطبيعة و قوانينها، و من خلال التاريخ و حركته (فثمة تطابق بين الطبيعة و التاريخ، في نهاية الأمر، و في التحليل الأخير!)، و نهاية التاريخ هي في واقع الأمر الفردوس الأرضي حين تصبح الروح المطلقة مادة، و يتلاقى الزمان و الآخرة، و الطبيعة و التاريخ، و بهذا المعنى يصبح كل التاريخ تاريخا علمانيا، و تصبح كل القضايا، بما في ذلك القضايا الدينية، قضايا زمنية لا قداسة لها" ـ المصدر نفسه ص 90 ـ 91
قديما وقف الفقهاء الظاهريون كالحنابلة مثل ابن تيمية و أمثاله في وجه التصوف و الفلسفة، و هما الركيزتان الأساسيتان للعقل النسبي في الوسطين السني و الشيعي، و اليوم يريد مجموعة من المثقفين و الكتاب ـ و من ضمنهم المرحوم المسيري و فهمي هويدي و مصطفى محمود و غيرهم ـ أن يفصلوا بين الروح و المادة بالطلاق الذي لا رجعة فيه، و بالتالي يوقعون العالم الإسلامي في ذلك الإشكال الخطير و الذي يرى في هذه الحياة مجرد معبر، و هذا سيعني أن هدف كل إنسان سيكون هو البحث عن أقرب طريق للوصول إلى الجانب الآخر، و هنا لن يكون هناك اختلاف كبير بين الفلسفة الشيوعية التي أجابت على الأسئلة الكبيرة بشكل قطعي حينما أنكرت وجود الإله و حق الدين في التعبير كفكرة و النتيجة هي أن على الفرد أن يموت و يذهب إلى العدم في سبيل التجلي المطلق "الدولة البروليتارية"، و كذلك هي النظرية الدينية حسب المسيري ستكون دفع الأفراد إلى الموت في سبيل "القضية"!! و الموت ذاته سيكون خير تعويض للإنسان الذي سيقدم نفسه "شهيدا".
إن كون العالم متجها نحو حكم عادل و نهاية للتاريخ باتجاه بقاء الأصلح هو نظرية "قرآنية" بحتة قبل أن تكون "علمانية غربية" كالآيات: {الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد ـ 17 {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء 105 و غيرها من الآيات التي يمكن استنتاج و استخلاص هذا الرأي منها بسلاسة، فالبشرية تنتقل و باستمرار عبر مديات و درجات متصاعدة من الوعي و الإدراك و كل مرحلة من هذه المراحل تبدو للإنسان و كأنها خاتمة المطاف و النهاية حيث لا بعد حينها، لكن و بعد أن يكتشف الإنسان سرا من أسرار الوجود، تبدأ مرحلة أخرى من الشكّ و الأسئلة و يخرج إلى الوجود ما يشبه اليقين النهائي الجديد، و يبدو لي أن مسيرة التطور هي بالفعل لا نهائية طالما هناك شيء اسمه الإنسان، و إذ يشكك المسيري في ذلك فهو يستند على التبرير المادي الصلب الذي كان سائدا ما قبل نسبية أينشتاين و الذي ينظر إلى المادة كحقيقة جامدة لها وجه واحد لا يقبل التأويل، كما أنه قيد الدين بالفعل في تفسير واحد لا يقبل التأويل أو الأسئلة أو الشك، فالمسيري، كأبي حامد الغزالي، يبرر التشكيك في حرية العقل الإنساني و في تجاهل واضح لكل البراهين المنطقية الرشدية و الديكارتية التي نقضت المنطق العبثي للغزالي، بل إن مفكرا كبيرا كعلي الوردي أخطأ حينما حسب أن الغزالي مؤمن بالعقل النسبي و الحقيقة النسبية المتعددة الأوجه، غير أنه قد فاته أن التصوف الغزالي يختلف كلّيّا عن تصوف ابن عربي صاحب وحدة الوجود، فالغزالي في نهاية حياته و حين تأليفه (تهافت الفلسفة) كان ينظر بمقياس الحنابلة إلى الفلسفة أكثر من استناده على المقاييس الروحية الإشراقية، و لهذا لقيت كتب الغزالي هوىً في نفوس الحكومات و الأشاعرة الذين وجدوا ترحيبا و دعما من دول المماليك في المنطقة بسبب عقيدتهم الجبرية.
إن الإنسان هو كائن محدود و لا يملك أي مطلقية، لا روحا و لا جسدا، فالنظريات الدينية ـ السماوية ـ تؤكد على محدودية الإنسان، و بالتالي فإن دخوله في أي مستوى من مستويات العلاقة مع المطلق ـ الله الخالق ـ لا يخرجه من كونه محدودا و ناقصا، فهناك وجهان للعلاقة، فهناك المطلق الإلهي الذي يعجز الإنسان كليا عن بلوغه و فهم كنهه، و هناك الجانب الإنساني الذي يشكل بحد ذاته عالما مجهولا و يكفي أنه إلى الآن يخفي الكثير الكثير من الأسرار رغم كل التطور العلمي، و العلمانية تقف هنا موقفا هو لصالح الإنسان و موقفه في إطلاق الأحكام، فمن الإجرام حقا أن يتحول المطلق إلى لعبة يستغلها الإنسان ـ و هو سيصبح منحطّا بفعله هذا ـ في سبيبل الوصول إلى أهداف و غايات دنيوية عن طريق إضفاء القداسة على نفسه و تحويل المقدس الإلهي إلى لحاف يخفي عيوبه كإنسان ذو غرائز و شهوات و حب المال و كل العرض الدنيوي إذا جاز لنا أن نستخدم هذه التعابير الدينية.
إن المطلق يملك قابلية "التأويل" الذي يبدو لي أنه يمتلك هذه الخاصية ذاتيا كونه يحمل سمة "اللا نهائي" الذي لا حدود له، و كان النقاش القديم بين اللاهوتيين المسلمين من شيعة و سنة و معتزلة و ظاهرية حنبلية يتمحور أكثره حول هذه الموضوعات و غيرها، و كانت تهم "التعطيل" للصفات الإلهية تطال المعتزلة و الشيعة، بينما نالت من الحنابلة تهم "التجسيد" و "التجسيم بحق الذات الإلهية"، من هنا تم نزع الاحتكار عن اللاهوت و الدين و عن سائر العمليات الفكرية، فالدين لم يُهمش كما يتصور أو بالأحرى يصوره لنا المسيري و أنصاره، بل تم جعله ملكا لكل الناس يفكرون و يؤمنون و ينكرون حسبما يشاؤون، فاحتكار الفكرة الدينية و المطلق أخطر من احتكار الخبز أو أي حاجات ضرورية للإنسان، فاحتكار المطلق يعني تحويله إلى أداة غير مطلقة محدودة بأيدي أناس لهم مصالح معينة.
و هكذا فإن عجز الإنسان عن تعريف ذاته هو الذي يجعل المسائل أكثر نسبية مما نتوقع، إذ لا يستطيع المسيري نفسه أن يخبرنا ما هو هذا الإنسان "اللا نمطي" و الذي يحوي بحارا من الأسرار و يفقد إنسانيته بمجرد تعامله مع المادة، إن المسيري هنا يبدو لي أشبه بالراهب الكاثوليكي أكثر من أي شيء آخر، فالمادة تبدو في نظره شرا كليا لمجرد أن الإنسان يسعى إلى حل مشاكل المعيشة و الفقر و أزمة السكن و انتشار الأمراض و المجاعة و مجابهة كوارث الطبيعة، فهذه الأشياء المحيطة بنا هي أحد خيارين، فإما أن تكون قدرا إلهيا حتميا لازما، و الحتمية الدينية و غير الدينية هما سيان، هذا إن لم تكن الأولى أسوأ من الثانية، أو أنها طبيعة مادية تسير على نسق و قوانين يمكن للإنسان احتواءها و مواجهتها، و لا ثالث لتعامل الإنسان مع هذا المحيط، و بيئة الإنسان لا تتكون من البيئة الجامدة فحسب، فالإنسان الذي يعيش ضمن مجتمع يتعامل مع بيئة "إنسانية" متنوعة، و هكذا يستحيل أن يتحول الإنسان إلى نمط "محض" رغم أن النوع الإنساني يحمل ذاتيا خصائص تجعله "نمطا" يحمل صفات مشتركة و إن اختلفت الألوان و الأحجام.
إن مصطلحات "التسلّع" و "التشيء" و تحول الإنسان إلى شيء من الأشياء ـ كما يصف المسيري الفكر الغربي ـ هو نتيجة نظرية أكثر من كونها واقعية ذات حقيقة، فلا يخفى على أحد أن الغرب، مهما شكّك المُشكّكون في الدوافع، هو الذي حرر الإنسان و أنهى عصورا و دهورا من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، صحيح أن هذه الصورة ليست مثالية متكاملة بمعنى أن الإنسان يعيش حالة من فقدان الحرية إما بضغط من الأعراف و التقاليد الاجتماعية أو بفعل خصائص شخصية، كأن يسيطر فرد على آخر بفعل افتقار أحد الطرفين إلى الشخصية أو الكفاءة أو القدرات العقلية، فهذه الميزات تكاد تلازم الإنسان في كل عصر، غير أن الغرب العلماني ـ لا الدين ـ هو الذي دفع المجتمعات إلى تبني حرية الفرد و حرية الأمم و قضى على أي سند قانوني للعبودية، بينما الأديان، بما فيها الإسلام، دفعت فقط باتجاه تحسين أوضاع العبيد و الرقيق دون أي منهج واضح في محاولة إلغاءه، بل إن العنصرية في العالم الغربي (أنظر:Encyclopedia of Sociology Vol1 P 54) كانت تنظر إلى العبودية من خلال وجهة نظر دينية قائمة على أن الله و الطبيعة معا أقرّا هذا التباين الطبقي بين الملاك و العبيد و بالتالي إضفاء نوع من "القدسية" على الأوضاع و منع أي محاولة للتغيير، و هكذا نخرج من النقاش بالقول أن الحضارة الغربية كأي حضارة و نتاج إنساني يمتلك جوانب سلبية، و لكن العملية النقدية المسيرية تتمحور حول تعطيل المنجز العلماني "و الذي تمت نسبته و حصره بالغرب" و تحطيم الحرية و العقلانية كفكرة لا محدودة و تحويلها إلى العدمية، و بالتالي يكون البديل هو إقامة نظام ديني "ثيوقراطي" يمنع كل ما يناقض تفسير "الطبقة الكهنوتية" للنص الديني و لتفسير الواقع و حتى الحياة الفردية.



www.sohel-writer.i8.com
www.sohelahmedbahjat.blogspot.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س