الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطغيان الشرقي بين الكواكبي وبلفور وأرسطو (المقال الثاني من تراث العبيد)

نبيل هلال هلال

2011 / 1 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قال بلفـور الوزير البريطانى -صاحب وعـد بلفـور المشئوم : إن الأمم الغربيـة فور ظهورها فى التـاريخ تظهرالقـدرة على حكم الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة بهـا، ويمكنك أن تنظر إلى تـاريخ الشـرقيين بأكمله فيمـا يسمى بشـكل عـام، المشرق، دون أن تجـد أثـرا لحكم الذات على الإطلاق. وكل القرون العظيمة التى مرت على الشرقيين- ولقـد كانت عظيمة جـدا، انقضـت فى ظل الحكم المطلق. وكـل إسـهاماتهم العظيمة فى الحضارة الإنسانية- ولقـد كانت عظيمة -أنجـزت فى ظل هـذا النمط من الحكم. فقـد خلف فـاتح فـاتحا، وتلت سـيطرة سـيطرة، غير أنك فى دورات القـدر والمصير كلها لاترى أمة واحـدة من هـذه الأمم تؤسـس بدافع من حركتها الذاتية ما نسميه نحن من وجهـة نظـر غربيـة، حكم الذات .انتهى كلام بلفور.
ويقول الكواكبى: "إذا لم تحسن الأمة سياسة نفسها أذلهـا اللـه لأمة أخرى تحكمها كما تفعل الشرائع بإقامة القيِّم على القاصر أو السـفيه وهـذه حكمة، ومتى بلغت أمة رشدها استرجعت عزها وهذا عدل، وهكذا "إن اللـه لا يظلم الناس شـيئا ولكن النـاس أنفسـهم يظلمون" .
ووصف أرسـطو الطغيان الشـرقى بأنـه النموذج الحقيقى للطغيـان، وهـو أيضـا وصف ظل يتكرر منذ عصر أرسـطو حتى يومنا الراهن! حتى إن الأوروبيين عنـدما "يسـبُّون" ملكا أو حاكما لاستبداده يصفونه بأنـه أقرب إلى الطاغيـة الشرقى؛ فالطاغية الشرقى "الشهير" يعامل المواطنين معاملة السـيد للعبيـد، وهاهنـا نجـد أصل الفكـرة الهيجيليـة التى تقـول إن الشرقيين كانوا جميعا عبيـدا للحاكم الذى ظل هـو وحده "الرجل الحر" فى الدولـة! والغريب أن أرسـطو أرسـل إلى تلميـذه الإسـكندر الأكبر رسـالة ينصحه فيها بمعاملة اليونانيين كقائـد، وأن يعامل الشرقيين معاملة السيد لأنهم بطبيعتهم عبيـد ، كما يقـول: "إن الرجل الحر لا يسـتطيع أن يتحمل حكم الطاغية، ولهـذا فإن الرجل اليونانى لا يطيق الطغيان، بل ينفر منه، أما الرجل الشرقى فإنه يجده أمرا طبيعيا، فهو نفسـه طاغية فى بيته، يعامل زوجته معاملة العبيـد، ولهـذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هـو نفسـه معاملة العبيـد . وكان أرسطو يقصد بالطغيان الشرقى، ذلك الطغيان المستشرى فى الهنـد والصين وفارس ومصر وبابـل وآشـور ,وكانت العادات فى فارس والصين تقضى بالسجود تحت قدمى الملك، وكان اليمنيـون يفعـلون ذلـك مع "الإمـام"حتى السـتينيات من القـرن الماضى وإلى أن قـامت الثـورة ضـده، إذ كان يتعين تقبيـل ركبـة الإمـام بزعم أن ذلك واجب دينى يفرض على الرعية أداؤه لبنى هاشم!!!
وتخـاذل المشايخ وأهمـلوا أداء واجب تبصرة الناس بحقوقهم، واكتفوا بتعليمهم فقـه الحيض والنفاس، فهم سكوت عندما يجب عليهم الكلام , أما المساندون منهم للسـلطان الجائر فهم خونة، يخونون دينهم والنـاس. ووظفوا الدين فى ترويض المسلمين وامتـلاك أعنة أمورهم، وإحكـام القبضة على رقـابهم وأفواههم، فأفهمـوا النـاس أن طاعـة ولى الأمـر واجبـة على إطلاقهـا وإنْ سلَب مالك وجلد ظهرك ، وأن الخروج على المسـتبد غير شـرعى فالخليفـة هـو ظل اللـه فى الأرض، وعلى الناس طاعته، وأن البـؤس الذى يغرقهم فيـه اسـتبداد مولانا وولى النعم هـو قـدَر اللـه ومن لـه أن يغير الأقدار؟ وأنـه لا يجوز تقييـم الخليفـة بأعمـاله بل يكفى نيته، فأنشـأ الأمويـون حزب المرجئـة الذى يقول "بإرجاء" الحكم على الخلفـاء الأمويين إلى أن يحاسـبهم اللـه! فلا يجـوز تقييمهم من واقـع أعمالهم، بل الفيصل هـو إيمـان الفـرد لا عمله!! ومثـل ذلك من الأضـاليل المفضوحة. وطاعة أولى الأمر ليست مطلقة وإنما هى مشروطة بطاعـة الحاكم للـه، ورهن بإقامـة العـدل.
وخلال المـدة التى اسـتغرقتها خلافة الشـيخين( أبي بكر وعمر) والتى بلغت 12 عاما، لم تكن هنـاك حاجـة عمليـة إلى ممارسـة المساءلة للشـيخين، ومرت هـذه المـدة دون ممارسـة حقيقيـة لها ، ودون محاولـة جـادة لإرسـاء أسـس أى شـكل "مؤسسى" لممارسة المساءلة من قبـل الأمـة لحكامهـا، كذلـك فـإن هـذه المسـاءلة لم تكن أبـدا محل دراسـة أو تمحيص أو تقنين من قبـل النـاس، إذ لم يُظن أن ذلـك أمـر يتطلب النظـر فيـه بتحـديد شـكل تنفيـذى ما لتطبيقه، فكان المتصـور والمسـلَّم بـه أن الخليفـة إذا تجـاوز يكفى أن توجهـه الأمـة أو تلفت نظـره إلى موطن الخلاف، فيبـادر الخليفـة من فـوره، بوازع من دينـه وخشـيته للــه، إلى الرجوع إلى الحق دون ممـاراة أو مجـادلة، هكـذا ببسـاطة.
وسـارت الأمور بهـذه البسـاطة، فلم تنشـأ الحاجـة إلى مؤسسة رقابيـة تتولى الأمـة من خلالهـا مساءلة الحكام، حتى درجت الأمة على عـدم ممارسـة سـلطتها الرقابيـة فى ظل هـذه الظروف ولم تستشعر حاجتها إلى مثـل هـذه "المؤسسة" أو "المجلس"، وبالتالى لم تتبين السبيل لممارسة مساءلة الحاكم ومراقبتـه، وما إن دعت الحاجة، بعـد عهد الشـيخين وتطور الأحداث وتعقـدها، إلى مساءلة الحاكم وإخضاعه لرقابـة الأمـة وانصـياعه إلى أمرها، وامتثـاله لتوجيهاتها، حينئـذ لم تعـرف الأمـة كيف تنهض بإنفـاذ هـذه المساءلة، ولم يعرف الحاكم كيف يخضع لمطالب الأمـة على نحـو لا يرى فيـه نزولا منـه عن حقـوقه واختصاصاته . وكان ذلـك أول صدام بين الرعية والحاكم فى زمن خلافة عثمـان بن عفـان ، عنـدما أنكـر النـاس عليـه محاباتـه لأهله وإيثـارهم بالإمـارة والعطايا، وغير ذلـك من الأمـور التى رأى النـاس أنهـا تتطلب مسـاءلة الحاكم. ولكن نظـرا لعـدم وجـود أصول متفق عليها لآليات ممارسة هـذه المساءلة ، فإن إنكـار المسلمين لمـا رأوه مآخـذ على عثمـان وامتنـاعه عن النـزول على رأى المسلمين، لم يتعـد حـدود الإنكـار من جانب النـاس، والرفض من جانب الخليفـة، فانتهى الأمـر بهم جميعـا إلى طريق مسـدود، فوثبـوا عليـه وقتـلوه، فلم تكن هنـاك وسـيلة سلمية للتفـاوض يعرض فيهـا الطرفان الرأى والرأى الآخر، ولم يكن هنـاك جهة ملزمة تقـوم بالتحكيم وإنفـاذ الرأي بعـد تبين جليـة الأمـر، فتلكم وظيفة-الجهة التنفيـذية-أو المجلس التنفيـذى، وتتطور الأحداث بعـد ذلـك، أو قـل تفاقمت وآل الأمـر إلى معاويـة الذى كان وراء الأحداث يحركها كيف يريـد، واستولى الأمويـون على مقـاليد الحكم، وحرصوا على مزاولته فى غيـاب هـذه المؤسسات الرقـابية التى كان ظهورها يعنى تقويض ملـك الأمويين من القواعـد، ولم تنشـأ مثـل هـذه المؤسسة الرقابية فى بلاد المسلمين منـذ ذلـك الحين . ولا يكفى أن يكون الحاكم ورعا حتى يمكن القـول بعـدم الحاجـة إلى الآليـة الرقابيـة التى يمكن بهـا مساءلته، فقـد يكون الحاكم ورعـا تقيـا، ولكن الورع فى حد ذاته لا يكفى لعصمة الحاكم والحيلولة دون وقوعه فى تجاوزات قد لا يرى فيهـا أي خروج على المسموح به، بل يراهـا اجتهـادات يصيب فيهـا أو يخطئ، وقد لا يرى الحاكم الحـد الفاصل بين سلطاته وبين حقـوق المواطنين. ومهمـة الجهة الرقابية هى تحـديد هـذه الحـد الفاصل، وعـدم السـماح للحاكم بتجاوزه بأى حال من الأحـوال، سـواء بالقهـر، أو سـن القوانين الاسـتثنائية، أو باسـتثارة عواطف الجماهير فيدفعهـا دفعـا فى اتجـاه مضاد لمصالحها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الطاغية
محمد دياب ( 2011 / 1 / 25 - 21:45 )
استاذنا الفاضل نبيل هلال......تحية اجلال وتقدير لشخصكم الكريم ولجهودكم التنويريه الراقيه التى قد تسهم فى فتح نافذه للمعرفة لشباب امتنا....اللذين هم امل الامه...ولازما على مثقفينا ان يتبنوا فتح المجال للمسكوت عنه فى تاريخنا بحلوه ومره....وارجو ان تستفيد فى بحثكم هذا بكتاب الفيلسوف المصري امام عبد الفتاح امام فى كتابه الرائع -الطاغيه وهو احد اصدارات-عالم المعرفه_ ولكم وافر تحياتى


2 - إلى أخي الكريم الأستاذ محمد دياب
نبيل هلال هلال ( 2011 / 1 / 27 - 18:07 )
شكرا أخي الكريم على ثقتك , كتاب الطاغية للأستاذ الكبير إمام عبد الفتاح إمام كتاب أكثر من رائع ,وقد قرأته من حوالي عشر سنوات وأمتعني كثيرا كما أثار شهيتي -في حينها - لكتابة البحث الذي تقترحه علي ,وقد كتبت عن الاستبداد كتاب (الاستبداد ودوره في انحطاط المسلمين ) ,مع مجموعة أخرى من كتبي تجدها في مكتبة موقع الحوار المتمدن,شكرا مرة أخرى ,
نبيل هلال
[email protected]

اخر الافلام

.. التركمان والمسيحيون يقررون خوض الانتخابات المرتقبة في إقليم


.. د. حامد عبد الصمد: الإلحاد جزء من منظومة التنوير والشكّ محرك




.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة