الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المطلوب -عقد اجتماعي- جديد في الأردن

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 1 / 28
المجتمع المدني


يروى أن رجلاً فقيراً عاش في عصر من العصور الغابرة ، ذهب ليقابل والي البلاد ، بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت وعانى الأمرين : حيث الظلم والفقر ، طمعاً في إنقاذه مما هو فيه ، بيد أن الوالي –حفظه الله- اعتاد على التصوف والعبادة رافضا بشكل مطلق أن يعكر صفوه أحداً ، وبعد سلسلة محاولات فاشلة من الرجل الفقير للوقوف بين يدي الوالي ، اقترح عليه الحاجب أن يكتب مظلمته وشكواه للوالي ، عسى أن ينجح في عرضها عليه في أقرب فرصة تسنح له .
انتهى الرجل الفقير من كتابة شكواه وطلب من الحاجب أن يقراها أمامه بصوت مرتفع ليتأكد انه شكا مظلمته كما يشاء ، وبينما يقرأ الحاجب مطلع الشكوى اخذ الرجل الفقير يجهش بالبكاء ، فاستغرب الحاجب ، ثم استمر بالقراءة والرجل يبكي ويبكي ، وبعد أن انتهى سأله الحاجب باستغراب !! لما تبكي يا رجل وقد كتبت شكواك للوالي ؟
فقال له الرجل الفقير وهو مطأطأ الرأس يبكي: يا الله لم أعرف أني كنت مظلوما كل هذا الظلم !!
سردت هذه القصة لأصل لأقرب نقطة في الخط المستقيم تتقاطع مع الإحساس العام للمواطن الأردني الذي يشعر بالظلم الذي ذكرت ، فقد تاه وحار المواطن الفقير الذي يزداد فقراً يومياً جراء ما يسمع ويقرأ ويرى من انسحاب مباشر وواضح للدولة عن رعايته وحمايته والحفاظ على حقوقه ومكتسباته التي باتت في مهب الريح ، فهو غير معني بما تسميه الحكومات المتعاقبة من خصخصة واستثمار وبيع وشراء ، ولا يعنيه أيضاً أن تجلب الحكومات شركاء استراتيجيين للاستثمار في المناطق الحرة أو لبيع ميناء العقبة أو حتى لاستثمار وسط العاصمة –العبدلي- أو لبيع بعض الأملاك العامة بل يعنيه ، بعد أن يحدث كل ذلك ، أن يبقى له ما يسد رمقه ويسكت جوعه اللعين ، وان يجد مسكناً يؤويه ، وشي من الانتماء للأرض التي باتت عرضة للبيع والشراء ، بعد أن رواها بعرقه وتعبه طوال السنين الماضية .
فالوصفات الطبية الجاهزة التي قدمها صندوق النقد والبنك الدوليين لدول العالم الثالث – والأردن جزء منها – للتخلص من المديونية والعجز المالي العام ، من خلال خصخصة الأملاك العامة وبيع بعضها ورفع الدعم عن السلع الأساسية وانسحاب الدولة من دور الرعاية لدور المنظّم للاقتصاد الوطني والجابي للضرائب المكلفة ، مثلت خرقاً قانونياً للعقد الاجتماعي الأصيل الذي وقعه المواطن مع الدولة منذ البداية ، فان كانت الدولة ستتنازل عن دور الحماية والرعاية للمواطن وستبيع أملاكه العامة لسد جزء من المديونية وإنفاق جزء آخر على قائمة المصروفات الطويلة ، فان كلف هذه السياسة ستنعكس سلباً على عدم ثقة المواطن بالعقد الاجتماعي وبالتالي رفضه للانصياع لتطبيق شروط العقد ، خاصة في الجانب الأمني والسياسي .
ففي ظل الارتفاع المذهل لأسعار الطاقة والغذاء عالمياً ، وما ينسحب على ذلك من ارتفاع متوالي لكل السلع والحاجيات الضرورية للمواطن ، لا يمكن للدولة أن تترك المواطن عرضة للاستغلال والنهب من التجار والقطاع الخاص بحجة اقتصاد السوق وقانون العرض والطلب ، ولا يمكنها أيضا أن ترفع يدها عن دعم المواطن وتبيع الأملاك العامة الحساسة التي تخدمه وتمثل قيمة معنوية ووطنية له ، فتداعيات ما يجري من نهج اقتصادي لا تقف عند حد الآثار الاجتماعية ، بل تحمل في طياتها أبعاد سياسية وأمنية ستدفع الدولة آجلاً أم عاجلاً للتدخل من جديد والعودة للمربع الأول ، فكلفة الآثار الأمنية والسياسية والاجتماعية المترتبة على شعور المواطن بالظلم وازدياد الفقر ، ستعيد ترتيب أولويات الدولة بشان الخطط الاقتصادية الرامية "لرأسملة" وخصخصة البلد على حساب حقوق المواطن الفقير ، الذي كان قبل سنوات مضت هو "رأس المال" الحقيقي لاقتصاد بدائي . فالدولة ستضطر حينما تستشعر خطر الوضع الاقتصادي الراهن العودة لمربع دعم المواطن حتى تتفادى دفع ثمن سياسي وأمني كبيرين.
ولا يختلف اثنان على أن رفع الدعم عن المواطن أَضر أكثر ما أضر الطبقتين الفقيرة والمتوسطة ، فسلسلة الإجراءات اليومية التي تتخذها الدولة تحت ضغط المديونية والتخفيف على الموازنة السنوية ونهج الخصخصة ، لن تحل معضلة الاقتصاد الأردني الذي لا يملك أصلاً مقومات الاقتصاد الصناعي أو الموارد الأولية ، لاسيما وان انسحاب الدولة عن دعم المواطن ، خاصة دعم المحروقات والغذاء ، وخصخصة الأملاك العامة ، لن تحقق نموا اقتصادياً مستقراً أو تقدم حلولاً سحرية للأزمة الاقتصادية الأردنية التي تتلخص في غياب إستراتيجية البحث عن الطاقة البديلة للنفط الخام الذي ارتفعت كلفة فاتورته على الدولة والمواطن سوية ، وضعف قاعدة الإنتاج الزراعي التي من المفروض أن تشكل صمام الأمان للأمن الغذائي الوطني .
ولعل أن أبرز جوانب الخلل في النهج الاقتصادي الحالي ، هو ممارسة الحكومات المتعاقبة لسياسة "حرق المراحل" في الإصلاح الاقتصادي ، أي تطبيق وصفات رأسمالية –ليبرالية متسارعة وقاسية بحق الشريحة العظمى من الطبقتين الوسطى والفقيرة ، فالمواطن الأردني لم يعد يملك القدرة على التكيّف أو لاستيعاب التغيرات الاقتصادية العظيمة التي تصيب حركة السوق الأردني وقانون العرض والطلب ، والاهم الانسحاب المباشر للدولة عن رفع الدعم الكلي عن المواطن ، ما أدى إلى حدوث "تشوهات اجتماعية" خطيرة في مسيرة التصحيح أو الإصلاح الاقتصادي المحلي ، خاصة وان الفئة المستفيدة من هذه السياسة الاقتصادية فئة محدودة وصغيرة جداً ، هي بالأصل فئة نادي الأغنياء .
في السابق كانت الدولة ومؤسساتها الحاضنة الرئيسية للمواطن ومختلف شرائح المجتمع ، وكانت أيضا الضامن الوحيد ضد الفقر والبطالة ، واليوم مع تطبيق الخصخصة ورفع الدعم ، لم تعد الدولة قادرة على حماية المواطن اقتصادياً ، بل تركته لوحده يواجه أعباء الأزمة العالمية لارتفاع الطاقة والغذاء ، والأخطر أنّ الطبقة الوسطى التاريخية التي تحفظ معادلة التوازن الاجتماعي وأسست القطاع العام ، هي الآن برسم التفكك والانهيار ، إن لم تتدخل الدولة لدعمها من جديد لتعيد صياغة مفهوم مغاير للعقد الاجتماعي المبرم بينهما .
ولا يمكن النظر إلى جملة الظواهر الاجتماعية التي بدأت تستشري في المجتمع الأردني المحافظ ، إلا من زاوية المشهد الاقتصادي الضاغط على فكر وحركة المواطن ، فانتشار ظاهرة السرقة والقتل المتزايدة ، وظاهرة "الأطفال اللقطاء" "وأطفال الحاويات" وغيرها الكثير ، هي بمثابة حركات "تمرد اجتماعي" لا شعوري بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن ، والتي تدخل في خانة البعد الأمني الذي تحدثنا عنه سابقاً ، كما أن انتقاد المواطن لسياسة الدولة في السر أو العلن ، واستباحة المنتديات الالكترونية للتعبير عن هذا الانتقاد ، هي أيضا "حركات احتجاج اجتماعي" تتقاطع مع البعد السياسي للازمة الاقتصادية المحلية .
ولا شك أن الدولة نجحت في الخروج من مأزق رفع الدعم عن المواطن والانسحاب من دور الرعاية المباشرة بحجة كلفة هذا الدعم على الموازنة والاقتصاد الوطني وما ينسحب على ذلك من تفاقم أزمة المديونية والعجز العام ، لكنها الآن بصدد أزمة إقناع المواطن بمبررات بيع وخصخصة ما تبقى من القطاع العام وأملاك الدولة ، فالحكومة تنفي أنها تمضي في سياسة ثابتة لبيع الأملاك العامة ، والمواطن فقد ثقته بما يطرحه المسئولون بهذا الخصوص ، خاصة وأنه أصبح لدى المواطن قناعة بان كل شيء بات قابل للخصخصة والبيع دون قدسية أو محرمات !!
على أية حال ، يطول الحديث في قصة المواطن الفقير الذي أدرك مؤخراً حجم ظلمه ، لكن الأمل معقود على أن ترفع الدولة هذا الظلم من خلال صياغة جديدة لمفردات العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين المواطن ، وأول شروط هذا العقد أن تعيد الدولة النظر في قرارها بالانسحاب من دور الدولة الراعية ، وان تدعم المواطن بقدر المستطاع ، وثاني الشروط أن تعالج مسألة بيع الممتلكات العامة بالحفاظ على ما تبقى منها من باب قدسية الرموز الوطنية التي تشكل جزء من سيادة الدولة وهيبتها ، وأيضا –ثالثاً- أن تعيد الدولة حضورها المباشر في حياة المواطن الفقير من خلال الاستمرار في تشكيل الحاضنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأولى للطبقتين الفقيرة والمتوسطة ، وان تمارس هذا الدور بشكل منظم ومدروس وفقاً للمفاهيم السياسية والاقتصادية الراهنة ، وليس كدور إجرائي آني مرتبط بالضغوط الاقتصادية العالمية .
ودور الدولة ضروري في هذا المجال ، لان القضية ليست اقتصادية فحسب بل سياسية وأمنية بالدرجة الأولى ، كما أن أزمة الاقتصاد العالمي مستمرة في التفاقم وأي تراجع عن معالجة خلل انعكاس ظلال هذه الأزمة على المستوى المحلي دون صوغ مفاهيم ورؤية جديدة لها ، سيتبع بالضرورة انعكاسات أمنية وسياسية تغيّر معادلة العقد الاجتماعي السابقة ، والمطلوب حاليا تدارك الأمور في الوقت المناسب في ضوء هذه الحقائق وصياغة عقد اجتماعي جديد وفق الشروط المذكورة آنفاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قلة حياء العرب
جمال السالم ( 2011 / 1 / 28 - 18:09 )
ولا فيه اقل من حيا العرب بخلفوا مثل ارانب وبعدين بصيروا يشكوا من الحكومات وبدهم معيشة مثل الغرب تخيل لو متوسط عدد افراد العائلة الاردنية مثله مثل اسبانيا لكان متوسط دخل الفرد السنوي الاردني واللي هو حاليا حوالي 3000 دولار مثله مثل اسبانيا
ومش رح تحل مشاكل الدول العربية سوى سياسة سكانية صارمة لان الدول العربية في اغلبها صحاري ذات سعة حاملة قليلة لا تتستطيع اعالة اعداد كبيرة من السكان و الحضارات اساسا تقوم على طبقة الارض العليا( التوب سويل) الخصبة التي تتوافر بشكل محدود في الدول العربية ولا يمكن قياس تجربة سنغافورة كمثال للعالم العربي بل يمكن اخذ تجربة الصين وقانون الولد الواحد او تجربة الهند وهما بلدان غنيان بالماء والتربة الزراعية

اخر الافلام

.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي


.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل




.. طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيش حالة رعب ا?ثناء قصف الاحتل


.. النمسا تقرر الإفراج عن أموال -الأونروا- التي تم تعليقها سابق




.. -غوغل مابس- قد يكون خطرا عليك.. الأمم المتحدة تحذر: عطل إعدا