الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل من يبحث عن عوائل مه راني

كريم كطافة

2011 / 2 / 14
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


سأتلو هنا شهادة على فاجعة من ماضينا القريب.. فاجعة معروفة في أوساط الأنصار الشيوعيين بعنوان (عوائل مه راني) أو (عوائل الفوج الأول). وهي عينة مقتطعة من مشهد كبير أطلق عليه سدنة النظام السابق مسمى (عمليات الأنفال). بالطبع لن اتوقف كثيراً عند سر اختيار سدنة النظام لسوّر من القرآن ولصقها على جرائمهم. من المعروف أن تلك السورة (الأنفال) نزلت خصيصاً لحل مشكلة اختلاف المسلمين في أوائل أيامهم على أسلاب الكفار وضمنها بالطبع السبايا والأسرى. حلت المشلكة بجعل خمس الأسلاب للنبي والباقي توزع بآلية (وما ملكت أيمانكم). لكن الجن الأصفر نفسه لا يعرف ما هي علاقتنا نحن.. ما علاقة الشعب العراقي بجنوبه وشماله بالأنفلة. على العموم، لقد طهروا في الحلقة الأولى من السورة ريف البلد الجنوبي، حرفوا أنهاره وجففوا أهواره وأبادوا كائناته من بشر ونبات وحيوان بما تيسر من سلاح كيمياوي وغير كيمياوي. وطهروا في الحلقة الثانية والثالثة من الآية شمال البلد (كوردستانه) من فلاحيها وأحرقوا خضرة جبالها بالسلاح الكيمياوي وغير الكيمياوي كذلك.
في تلك العمليات الواسعة التي استخدم فيها النظام كل ما متوفر في ترسانته العسكرية، وكما هو واضح كنا والفلاحون ومن ساكننا من حيوان ونبات، تلك الأسلاب التي لم تختلف قبائل المخابرات والأمن على خمسنا أو سدسنا.. تقاسمت رفاتنا خارطة الدفن الجماعي التي افترشت البلد من جنوبه إلى شماله والتهمت المنافي القريبة والبعيدة من فاض على حفلات الدفن. ربما كنا كفاراً لأننا كفرنا بطاعة النظام وتمردنا عليه، لكننا وفي كل الأحوال لم نكن مرتزقة هبوا للقتال طمعاً في مال.. مثلما لم نكن جنوداً غُلبوا على أمرهم وتم سوقهم عنوة.. رغم أننا كذلك لم نكن مقاتلين مثاليين.. منا من كان يؤمن حتى وهو في لجة التجربة؛ أن الكتب قادرة على تغيير العالم.. واللوحة قادرة على هزيمة القبح.. والموسيقى على اجتراح المعجزات.. وكان منا كذلك جنود هربوا من حروب ليست حروبهم وفلاحون امتزج إخلاصهم للرفقة بشرف العشيرة وقيمها..
حصل في تلك الأيام أن حوصرنا مع بيشمركة الحزب الديمقارطي الكوردستاني حصاراً عنكبوتياً، لم نتعرف طيلة حربنا على شبيه له من أنواع الحصارات، كان على شكل دوائر تشبه دوائر غزل العنكبوت وكانت تخترق تلك الدوائر من الخارج إلى الداخل أرتالاً من القوات الخاصة والمغاوير بحثاً عن المتسربين من دوائر الحصار. حصل هذا في نهاية شهر آب 1988 بعد نهاية الحرب العراقية-الإيرانية باسبوعين.
وحوصر معنا كل فلاحي منطقة عملنا من عشائر (البرواري) و(المزوري) و(القشورية) و(الكوجر) إضافة إلى ما تبقى من فلاحي القرى المسيحية. إضافة إلى عوائلنا؛ عوائل الأنصار التي تم تهجيرها بأمر مخابراتي من مناطق دشت الموصل.. كانوا كلهم تقريباً من الكورد الأيزيديين، مع عائلتين آثوريتين وعائلة من عرب منطقة الجزيرة.. كان عدد أفراد تلك العوائل 198 فرد، رجال كهول ونساء وأطفال (أعمار الأطفال كانت تتدرج من الرضيع إلى سنة العاشرة) هذا إذا استثنينا الأجنة التي كانت في أرحام الأمهات الحوامل.
في بدايات الحصار كنا أكثر من 150 ألف إنسان في مساحة جبلية لا تتجاوز كيلومترين، في أحد الأودية العرضية لسلسلة (كارا)، بلا أكل ولا ماء غير عين ماء ضحلة كائنة في موقع عاص يستغرق الوصول إليها ساعة من الصعود الوعر، مفترشين الصخور وملتحفين السماء. وكان الجميع مرعوبين من احتمال استخدام السلاح الكيمياوي، كما فعلوها مع (حلبجة) الحادثة التي كانت في حينها لم تزل طرية في أذهان الجميع. وقد عبر أحد شيوخ الكورد من المحاصرين أبلغ تعبير عن حيرتنا برده على أحد المتحمسين للقتال وبلغته العربية المطعمة بلكنته:
- بابو.. الكوردي يكدر يقاوم الجندي.. يكدر يقاوم الدبابة.. يكدر يقاوم حتى الطيارة.. بس بابو.. الكوردي ما يكدر يقاوم الهوا اللي يتنفسه..!!
كان الرعب شاملاً وقد شل حركة الجميع. لكن بعد عشرة أيام من التهديد والوعيد والكر والفر بين المحاصِر والمحاصَر، وتدخلات رؤساء العشائر الكوردية كما أُشيع حينها وهم كانوا جميعاً رؤساء تشكيلات الفرسان المتجحفلة مع الجيش بمواجهتنا وبعد حرق كل القرى؛ أطلقت (إذاعة بغداد) بيان عفو عام وشامل عن الأكراد باستثناء (المجرم جلال الطالباني..!!) هكذا جاء في البيان. وأكيد ذلك العفو لم يكن يشملنا نحن العرب (العصاة). استبشر الفلاحون بالقرار رغم الحزن الذي كان يعتصرهم على مصير قراهم ومزارعهم وبساتينهم التي أُحرقت أمام أعينهم.. لكن تبقى الحياة هي الأولى من كل شيء. وبدأوا بالنزول والتسليم لقطعات الجيش.. ليواجه الأنصار الشيوعيون السؤال العويص والخطر: ماذا بخصوص عوائلنا..؟ في كل تجاربنا القتالية كنا نتجنب القتال بين السكان.. ما بالك الآن والذين معنا هم عوائلنا.. هل نتسبب بإبادتهم.. أم نمنحهم أملاً بالنجاة مستفيدين من قرار العفو..؟ بعد مداولات ومشاحنات بين الأنصار أصحاب العوائل وعوائلهم وجهود مضنية لكسر عناد وممانعة كثير من النساء الرافضات لفكرة التسليم، تقرر إنزال عوائلنا مع عوائل فلاحي المنطقة، وليكن حالهم حال الجميع.
لكن، هل تعامل النظام معهم كما تعامل مع الجميع...؟ من هنا بدأت المأساة التي صار عمرها الآن أكثر من 23 سنة. لقد أفلحت تدخلات رؤساء العشائر الكوردية (الفرسان)، بإعفاء ليس الفلاحين الذين استجابوا للقرار، بل وإعفاء حتى البيشمركة الذين نزل قسم منهم. غير أن عوائلنا كان لها شأن آخر.
في البدء عزلوهم عن الجميع وسجنوهم في قلعة (دهوك). وبعد أن عفوا عن الجميع تاركين أمرهم لترتيبات رؤساء (الفرسان) بإدخال الرجال وإن شكلياً في تشكيلاتهم وترتيب أمر سكناهم بين المجمعات والمدينة. نقلوا عوائلنا إلى جهة مجهولة وما زالت مجهولة إلى اليوم.. !!
أين أخفوهم.. ماذا فعلوا بهم.. كيف حصل الأمر.. ؟ لا أحد يدري. ظلت هذه الأسئلة وما زالت لغزاً محيراً.. وستظل لغزاً أبدياً ما لم تبادر جهة مسؤولة في بحث متخصص عن مصيرهم.. لأنه حتى بعد فتح وحفر الكثير من المقابر الجماعية بعد 2003 والعثور على رفات الكثيرين من المفقودين فيها.. ما زالت رفات تلك العوائل بنسائها وأطفالها وشيوخها مجهولة.. أحدٌ للآن لم يأخذ قضيتهم على محمل الجد في البحث والتقصي، لا من قبل حكومة كوردستان التي يُفترض أن تكون معنية بالأمر لأن الجميع تقريباً هم من الكورد الأيزيديين ولا من قبل الحزب الشيوعي العراقي الذي ناضل ذوي تلك الضحايا في صفوفه.. رغم أن القضية لم تعد الآن قضية حزب سياسي معارض.. بل قضية شعب بكامله كان معرضاً لهذا المصير والآن حان له وقت السؤال والتقصي عن مفقوديه.. القضية الآن برمتها قضية إنسانية قضية رجال كانوا مقاومين لأعتى طغيان مر به البلد.. ورغم كل الصعوبات التي واجهوها ورغم الخطر الماثل ليس على حياتهم بل على حياة عوائلهم وهو الذي تحقق.. رغم كل ذلك ظلوا مقاومين وصامدين في مواقفهم.. أنهم الأنصار الأيزيديون.. لقد فقد كل واحد من هؤلاء عائلته بالكامل، الزوجة والأطفال والأم والأب.. لقد اجتثوا من جذورهم.. أليس من حق هؤلاء الآن وإن من باب المواساة مشاركتهم حزنهم ومصابهم المستدام بإشعارهم من جهة مسؤولة أنهم ليسوا وحدهم..
أنها شهادة من رجل عربي كان شاباً في تلك الأيام قبل أن تدركه الكهولة بنكساتها.. ما زال يشعر أن الحقيقة الوحيدة المؤكدة في حياته أنه كان وما زال ينتمي لأولئك الرجال والنساء والأطفال الذين قاسمهم تضاريس تلك الأيام.

(1) مه راني: اسم قرية كوردية قديمة في واد عاص من وديان سلسلة جبل كارا. اتخذه أنصار الفوج الأول مقراً لهم. وكانت عوائلهم قد سكنت قريباً من المقر بما يشبه القرية، شاع اسمها بين الأنصار بـ(قرية العوائل)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العزيز كريم كطافة
فلاح علي ( 2011 / 2 / 15 - 00:00 )
تحية حب وتقدير ايها النصير المقدام
هذه قضية انسانية نادرة لو عرف بها الراي العام العالمي لصعق من وحشية وبربرية النظام الدكتاتوري المقبور انها تشكل بحق جريمة من جرائم الابادة البشرية تساؤلاتك هي لا ئحة اتهام للنظام الدكتاتوري ورموزة , كنت اقدر عوائل الانصار الشيوعيين ما بين 250 الى 300 الانصار وعوائلهم ولكنك ثبت رقم 198 اين هي محكمة الجنايات من هذه الجريمة التي لم تحصل مثلها في التاريخ لواستثنينا جريمة هيروشيما وناكازاكي التي قصفتا بالقنبلة الذرية منذ حصار كَارا في 30 آب 1988 الى هذه اللحظة وان حدث اختفاء الانصار الابطال وعوائلهم الذين سلموا بعد قرار العفو هو في ذاكرة كثير من الانصار نردد اسمائهم ونستذكرهم في جلساتنا وتتذكر في اول زيارة لي الى سورية بعد الحصار كانت في عام 1992 وكنت متحمس جداَ لمعرفة اخبار الانصار وعوائلهم وقد سالت عدد من الانصار وكانهم يعرفون المصير ولكن لايريدون ان يصدقوا ما حصل وقد علمت حينها ان احد افراد عائلة المغيبون يسكن في بيت في ركن الدين وهو احد ابناء النصير البطل ابو سربست وقررت ان ازوره وكان يسكن مع النصيرين ابو محمود روست والنصير ابو بافل وقد


2 - العزيز كريم كطافة
فلاح علي ( 2011 / 2 / 15 - 00:28 )
زرتهم وعند دخولي الى البيت قال لي ابو محمود ( لا تسالة عن اهلة لاننا نخاف عليه) كان موقف مؤلم جداَ والتقينا انا وانت في بيتكم في سوريةبسيدة مناضلة زوجة احد الانصار وكان معها اولادها وقد ساعدتها الظروف في الافلات من قبضة النظام عندما كانت مع الانصار وهي اكدت الرواية التي ذكرتها ان الانصار والعوائل تم حجزهم في سجن القلعة في دهوك ثم اكدت ان الانصار وعوائلهم تم نقلهم لاحقاَ الى اربيل وفي اربيل انقطعت اخبارهم قبل حوالي شهر ونصف التقيت باحد قادة الانصار الشجعان وكان آمر فوج وعائلته من ضمن العوائل المغيبة لقائنا استمر حوالي ثلاث ساعات وفي كل لحظة من هذه الثلاث ساعات يكاد ان يخرج سؤالي عن العوائل ومصيرهم ولكن اتردد انها قضية في غاية الصعوبة لا يتصورها العقل شهادتك هذه وضعت ملفات القضية على نافذة منبر اعلامي هام هو الحوار المتمدن آمل ان تكون احد القضاياالهامة التي تدرسها محكمة الجنايات ليطلع الشعب على الجريمة التي ارتكبت بحق الانصار الشيوعيين وعوائلهم الذين تم انتقائهم من مجموع آلاف العوائل الذين سلموا في ساعة محددة البحث عن مصيرهم هي حاجة انسانية لاتقبل التاجيل
شكراَ لك
مع التحيات

اخر الافلام

.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل


.. موجة سخرية واسعة من عرض حوثي للطلاب المتظاهرين في أميركا وأو




.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي