الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموضوعية المحمديّة الباهرة

خليل محمد الربيعي

2011 / 2 / 15
المجتمع المدني


لو سئلتُ عن السبب الأكبر في تخلف الدول العربية والإسلامية في عصرنا إذا ما قورنت بالدول المتقدمة لقلت: غياب الموضوعية..ولو طولبتُ بصياغة تعريف مجمل وصحيح لهذا المصطلح لأجبت: الموضوعية هي الصدق مع النفس..ومن الغريب أن الدول الغربية قد عرفت هذا الأمر وطبقته في معاملاتها المادية منذ أكثر من قرن وكان العامل الرئيسي في تطورها المستمر، مع أن أسس التعامل بموضوعية موجودة في ديننا ومبثوثة في تاريخنا ولكننا عنها عمون...نفتش عن سرّ التعامل الناجح في مناجمه الأوربية المظلمة ونتشاغل عن الحقيقة الماسية الكبرى التي أخرجها لنا ودلنا عليها رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم).
وفي البداية أقول: لا أريد للمتطرفين أن يقرؤوا مقالي هذا لأن تطرفهم لن يسمح لهم بأن يخرجوا من كلامي بفائدة يرونها تستحق العناء..ولن تكون كلماتي إلا كالماء الصافي عندما يروي الشجر الذي لا يثمر..وأنا هنا أقصد المتطرفين المتدينين والمتطرفين الملحدين على السواء..هؤلاء أسقطوا الروح والفطرة من حسابهم وكلما دمغهم الكون بأدلته الواضحة عليهما هربوا إلى الأمام وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأولئك أسقطوا العقل والفكر وكلما قرؤوا آيات القرآن التي تنتهي بـ (لعلكم تعقلون) أو (لعلكم تتفكرون) أطالوا الواو ومدوها مدّا ً عارضا للسكون وانشغلوا بحساب حركات المد قبل أن يأخذوا نفـَسا ً وينتقلوا إلى الآية التي بعدها ولم يفهموا المعنى المراد من الكلمة..
نعم.. إن الذي يقرأ سيرة النبي محمد (ص) بموضوعية لا بدّ أن يتأثر..ولكنّ المشكلة أن كثيرا منا اليوم يتعصب لإحدى الجهتين: إما أن يـُقدس بغير علم فيـَزلّ وإما أن يـُكذبَ بغير علم فيـََضلّ.. لكنهما يتشابهان على العموم في أنك إن سألتهما عن علمهما بالسيرة وأحداثها والدروس المستفادة منها لم يعرفا شيئا.
لقد عرف أصحاب الثورة الصناعية والاقتصادية أن الحضارة لا يمكن أن تقوم على الإدعاءات والأكاذيب، وأن ناطحات السحاب لا يتيسر إنشاؤها وإقامتها على أرض من التخيلات والأحلام..فشرعوا القوانين الملزمة ووضعوا شروط التعامل الحضاري التي أثرت في شعوبهم وأخرجت منهم أناسا ً يحترمون الكلمة ويلتزمون بالمواعيد..فالعامل في المصنع يحترم مواعيد العمل، يحضر على الوقت ويغادر على الوقت ولو تلكأ غيره، والموظف ينفذ أوامر مديره ولو كان هذا أصغر منه بسنوات كثيرة، والمعلم يحرص على إفهام طلبته وإن كان فيهم ابنٌ لأحد خصومه وأعدائه، والمضيفة في الطائرة تبتسم وترحب بالجميع وتلبي طلباتهم من غير تفريق..وإذا كانت الدولة ديمقراطية فالرئيس فيها يحترم رغبة الشعب ولا يفرق قانونـُه بين الأغلبية والأقلية..وهذه كلها مظاهر الموضوعية التي زعمتُ في بداية المقال أنها أساس التطور في تلك المجتمعات. على أن الحافز الأول لاتخاذ سياسات موضوعية عند كل هؤلاء هو الاستفادة والحصول على المكتسبات المادية التي ستوفرها زيادة الإنتاج..لأن التعامل الصادق يجلب النفع لكلا المتعاملـَين، وكل هؤلاء يحفزه الخوف والأمل: الخوف من الطرد وتدني مستوى المعيشة، والأمل بالترقية والحظوة وزيادة الراتب (أما في الدول الشيوعية فيكون الخوف هو الحافز الوحيد)..وتتسع دائرة التعامل الموضوعي من الأفراد إلى الشركات والدول فكل الاتفاقيات المعقودة بين الشركات الكبرى اليوم تتجلى الموضوعية في خطوات تنفيذها منذ البداية، لأن الكلمة ينبغي أن تـُحترم وهي أساس نجاح الشركات..ومن هنا رأينا بعض شركات تصنيع السيارات العالمية تصرح عن نيتها سحب عدد من سياراتها الحديثة بسبب اكتشاف خلل بسيط لا يتوافق مع المواصفات المتفق عليها، مع علمها أن عملية السحب ستجلب لها خسارة مريرة، لكنه الحرص على السمعة والالتزام بالاتفاقيات..وباختصار هو الصدق مع النفس.
وأنت إذا اعتبرت الموضوعية الغربية وجدتها قائمة على المنفعة ومدعومة من قبل الطرفين من خلال التزامهما، فإن اختلّ التزام أحدهما انتفت الموضوعية بينهما..لأن أساس المعادلة المادية التي بنيت عليها الحضارة الغربية هي: كلما صدقتَ أكثر، ربحتَ أكثر..لكنّ هذه المعادلة لم تنسحب هناك على العلاقات الاجتماعية والتعاملات الشخصية وتكاد تتلاشى أو تـُمسخ لتصبح هكذا: كلما نجحت في أن تجعل الآخرين يصدقونك ربحت أكثر..! ولا داعي لذكر الأدلة والمشاهدات فانطفاء الكهرباء مرة في مدينة نيويورك ولساعة واحدة كان كفيلا باندلاع ثورة عنف مجتمعي وآلاف من شكاوى السرقة..ولنوسع المثال إلى مساعدات البنك الدولي للدول المستضعفة ومنـح جائزة نوبل للمعارضين السياسيين ومطالبة محكمة العدل الدولية بالرؤساء الخارجين عن السيطرة– لنجد بوصلة المصالح هي الحاكمة في ظل غياب تام للموضوعية..فأساس دوام الموضوعية في التعامل هو تكافؤ الطرفين في القوة.
لكننا نجد نوعا فريدا من الموضوعية الباهرة التي تمثل الموضوعية الحقيقية في سيرة النبي محمد (ص) تظهر جلية في أقواله وأفعاله وأحواله بشكل يدعو إلى الإعجاب والتأثر..إذ تعتمد الموضوعية المحمدية على أساس الصدق مع النفس والتعامل مع الآخرين من منطلق القانون الذي يحكم النفس ويطوّعها لخدمة قضية أخلاقية عامة تشمل الجميع، لا على أساس فردي ونفعي ضيق..هي أن تؤديَ الحق الذي عليك ولا تجعله رهنا بأخذك الحق الذي لك..موضوعية لا تتأثر بالطرف الآخر ومواقفه وميوله وآرائه لأنها نابعة من قناعة ذاتية يحفزها الوازع الديني باستمرار، فهي قائمة فاعلة مادام هذا الوازع قائما ً وفاعلا ً..إسمع له وهو يقول بما معناه: (لا يقض ِ أحدكم بين اثنين وهو غضبان) فعمم القضاء والقاضي والقضية والمقضي بينهما ولم يخصص لأن أساس الملك هو العدل وأصل العدل هو الموضوعية في الحكم، وكأنّه يشير إلى أن الغضب حاجز عارض يتحكم بالنفس ويصدها عن إصدار الحكم الموضوعي بين المتخاصمَين، خصوصا إذا كان الغضب يمتّ إلى أحد المتخاصمَين بسبب..وها هنا وصف لمرض قد يعتري النفس ويجعل القاضي منحازا في حكمه وهو لا يدري.
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) يحذر المسلمين من الموضوعية المعاصرة والناقصة كما بينـّا سابقا فيقول: (لا يكوننّ أحدكم إمّعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطـّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا ألا تظلموا)..وهنا يرشدنا (ص) إلى أن تفسير جديد للإمعة فليس هو عديم الشخصية في التعامل بل هو عديم الشخصية الأخلاقية (وإن شئت فقل الإنسانية) التي تميزه عن غيره..وتأمل قوله (وطـّنوا) كأنّ الاتصاف بالموضوعية يحتاج إلى تدريب ومـِران للنفس البشرية حتى تستقيم على المنهج الأخلاقي الذي لا يتأثر بحال الآخرين ومواقفهم..فيصبح المسلم كالهواء النقي يدخل رئة المؤمن ورئة الكافر فينفع هذا كما ينفع ذاك.
وإذا كانت المنفعة العاجلة هي المحفز لموضوعية الغربيين فالمنفعة المنتظرة من الموضوعية المحمدية هي منفعة روحية تتمثل برضا الله ومحبته..لتتصل هذه الصفة ببُعدها السماوي كما هي حال كل صفات المسلم..على أن هذه المنفعة لا تتعارض مع مصلحة المسلم ومنفعته العاجلة ما دامتا لا تتعارضان مع الحق والشرع. ومن المدهش حقا أنّ القرآن، وهو دستور المسلمين، يحمل في آياته أصل هذا التوجه الأخلاقي في تناسق وتناغم مع سيرة النبي (ص) وحاله، لا يملك المتتبع له إلا أن يصدق بالقرآن ونبوة محمد معا، كأنهما نوران يقبسان من سراج واحد..ففي القرآن يقول الله سبحانه في سورة المائدة بعد أن يذكر اليهود، وهم أشد الناس عداوة للنبي وأتباعه، وجحودهم وصلفهم وأنهم قد يأتون إلى النبي ليحكم بينهم: (وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحب المقسطين)..أي احكم بالعدل ولا يحملك أن المتحاكمين إليك هم أعداؤك على أن تجور فيهم وتشدد عليهم وتنتصر لنفسك منهم..لأن القسط هو الغاية المرجوة من الحاكم أو القاضي..فلا تلتفت إليهم والتفت دائما إلى القيمة الأخلاقية التي جعلناك أمينا عليها.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى تطبيق الموضوعية النبوية في حياتنا وتعاملاتنا لأن انتظار المنفعة من الناس لن يبني وطنا تهدم أو يشيد صرحا تهاوى، وليس غيرها سيـُصلح الفساد في مؤسساتنا الحكومية، ويمنع الرشوة والهدايا المشبوهة في دوائرنا، ويقضي على التعامل المصلحي بين أساتذتنا في الجامعات (تـُنجح طالبي وأنجح طالبك)، ويقي من تغليب المعارف على الكفاءات في تعييناتنا، ويحارب اللامبالاة بالوقت من قبل عمالنا وفلاحينا، ويخفف حدة الاتهامات والاتهامات المضادة بين سياسيينا ومحللينا ونقادنا..إننا مأمورون جميعا بالموضوعية في أقوالنا وأفعالنا وشهاداتنا حتى مع المخالفين والخصوم (ولا يجرمنـّكم شنـَآنُ قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى)..هذا قول الله سبحانه.
ومن المذهل حقا أنّ الموضوعية النبوية هي الدافع الأكبر اليوم لانتشار الإسلام في أوروبا وأميركا، إذ تسجل الإحصاءات الحديثة أن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا وتوسعا بين الأديان في العالم، برغم المحاولات الحثيثة لتغييب هذا الدين وتشويه انطباعات الناس تجاهه..كأنّ الموضوعية المزيفة لم تتمكن من الثبات أمام تلك الحقيقية التي جذبت المنصفين والموضوعيين من كل أقطار الأرض إليها..تلك التي جعلت اليهودي يـُسلم عندما حكم القاضي له بالدرع ضد علي ابن أبي طالب وهو أمير المؤمنين لأنه لم يثبت ملكيته لها –وهي له–..وإذا كانت الموضوعية الغربية قد جذبت الأموال والاستثمارات والعقود فإن الموضوعية المحمدية مازالت تجذب النفوس وتأسر القلوب منذ خمسة عشر قرنا ً مع أن المسلمين اليوم لا يطبق أكثرهم قواعدها ، فكيف إذا توسعت هذه الموضوعية الباهرة وانتشرت في المعاملات وأصبحت ملءَ أمة !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسائل إعلام إسرائيلية تتناول مخاوف نتنياهو من الاعتقال والحر


.. تونس.. مظاهرة في مدينة العامرة تدعو لاجلاء المهاجرين غير الن




.. إخلاء مركز للمهاجرين في تونس ومظاهرة لترحيلهم ورفض توطينهم


.. الأمم المتحدة: دارفور معرضة لخطر المجاعة والموت




.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بإبرام صفقة تبادل فورية