الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التغوّل السلطوي اللاغي للتعددية

ماجد الشيخ

2011 / 2 / 16
المجتمع المدني


توغل السلطة في أدوائها المرضيّة، حين لا تجد من يسائلها، أو يوقفها عند حدّها، أو يحدّ من أعراض أمراضها، ويوجد لها علاجاتها التي تنقذها هي نفسها من متلازمة نرجسيتها، وأحاديتها القاهرة، الممسكة بتلابيب الواقع والمثال على حد سواء؛ واقع السلطة والناس المحكومين المنقادين لها، ومثالها الذي تماري به ذاتها، فلا تجد غير صورتها في القصور، بينما جماهير الشعب تنتفض عبر ملايينها في الميدان.

هكذا أضحت السلطة في الفضاء العربي، واحدة من "بدائل إنقلابية" راجت ردحا من الزمن. ولمّا استطاعت استدراك ما فات؛ بإشباعها غرائز "الإنقلابيين" – خصوصا العسكر منهم – مغرقة إياهم في بحر من الامتيازات والرشى وعمليات الإفساد ذات الطابع الإقتصادوي/الطبقي، أو السياسوي/الاجتماعي، الأدنى من سلطويتها، والتابعة لها بالمطلق، تعذرت عمليات الانقلاب، بل صارت الانقلابات مستحيلة في فضاء سلطوي متماسك، لم تعد تؤثر فيه إغراءات إقامة سلطة موازية، أو منازعة السلطة القائمة الهيمنة على النظام.

صار "التشارك" سمة البحث عن "سلطة أدنى دائمة"، أجدى من البحث عن "سلط إنقلابية مؤقتة". هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لم يعد للمجتمعات والقوى الاجتماعية الطبقية والأحزاب السياسية والنقابات ذاك البريق الذي كان يباري السلطة في التماسك، ويماريها بفرض أوزان وتأثيرات فاعلة، كفيلة بتوازي سلطة المجتمع المدني والسلطة أو السلطات القائمة، حتى هذا الأخير، أي سلطة المجتمع المدني، لم يعد يجد في حوزته ما يوازي قوة السلطة الفعلية، طالما أن فردية النظام وديكتاتوريته وتوتاليتاريته أو ثيوقراطيته، قد استطاعت أن تبتني لذاتها، آليات سلطوية أعلى هيمنة من أي سلطة أو سلطات مفترضة، أو مفروضة بقوة القانون ومن خارجه أو على الضدّ منه، وعلى الضدّ من العقود الاجتماعية التي أصابها ما أصاب المجتمعات من تفكك وتشظي قواها البشرية، وغياب أدواتها الفاعلة (الجماهير) والممكنة التأثير في آليات السلطة القائمة.

وحتى عبر الديمقراطية وآلياتها الانتخابية، واصلت السلطة قهرها للديمقراطية، فلا كانت أو تكون، إلاّ بمحض الصدفة، واحدة من أدوات استجلاب شرعية مفتقدة، ومشروعية عفى عليها الزمن، شكلانية الطابع والجوهر، فلم تفلح السلطة والحالة هذه إلا في الاحتفاظ بهيمنتها، وإبقاء ذاتها في معزل عن التشكيك بشرعيتها، طالما هي تسعى إلى تجنيد رأي عام محلي وإقليمي وحتى دولي، يشهد لها بكونها "ضامنة للسلام الاجتماعي" و"الاستقرار الإقليمي والدولي". وهذا هو المطلوب مهما تكن طبيعة السلطة وممارساتها وسلوكها الداخلي.

على خلفية ترذيل الديمقراطية، كونها "جلاّبة مصائب" لسلطة "مستقرة" لا تريد أن تنغّص الديمقراطية عليها "إحساس الأبد السلطوي"، لا تحبّذ السلطة الغارقة في ذهانها المرضي أن ينافسها مطلق أحد على مواقعها، حتى ولو "نزولا عند إرادة التغيير" التي قد تفسحها أو تتيحها العملية الإنتخابية، بما تقتضيه من تداول للسلطة لا تأبيدا لها. وفي إزاء المعنى التداولي للسلطة، قد تلجأ هذه الأخيرة أو رمزها الأول، للتشبث بـ "عرش" السلطة والاعتصام بالقصر الرئاسي – الملكي، جاعلا من السلطة ملكية خاصة له، وإرثا خاصا لأبنائه وأحفاده من بعده، حتى بات التوسل بالشريعة كما الشرعية، الوسيلة الأيديولوجية الأبرز؛ للإبقاء على السلطة، في معزل عن الصراعات السياسية اللاغية للتعددية.

لقد أدى تغوّل الدولة على المجتمع، كما تغوّل المجتمع على الدولة، إلى نفي التعددية، ما أنتج نكسة للديمقراطية، بل هزيمة نكراء لها. لهذا لا بد من قيام توازن دقيق بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع المدني المتعدد في منابته وأصوله، فلا تطغى الدولة أو تستبد، عبر نخبها السلطوية على المجتمع، ولا يطغى المجتمع عبر قواه الأكثر تأثيرا وهيمنة على الدولة ومصالحها ووحدتها، وإلاّ كانت عرضة للتفكيك، والمجتمع ذاته للتفتيت، عبر مجموعة من النوازع؛ الفئوية والطائفية والمذهبية أو حتى الإثنية والعرقية، على ما أضحى حال العراق والسودان واليمن ولبنان وفلسطين والصومال من قبل، مع الفوارق والتمايزات بين بلد وآخر.

إن تجديدا سياسيا يعتمد "صحوة مجتمعية"، ترنو إلى التغيير، عبر منح ثقة شعبية متزايدة إلى منظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية وتنظيمات نقابية أكثر تمثيلا للقطاعات الجماهيرية، مثل هذا التجديد الذي يرهص بزيادة منسوب الوعي السياسي، كفيل بفتح أبواب التغيير، أمام قوى سياسية ومجتمعية ناهضة، تمتلك قدرات وإمكانيات السلطة البديلة المرتجاة في دول ومجتمعات حديثة، لا تتآكلها قيم التخلف، ولا ينخرها سوس التفكيك والتفتيت من دواخلها ذات المناعات المنهارة.

ذلك ما نحن عليه؛ مجتمعات وسلطات أنظمة، طالما أن نزوع التغوّل والهيمنة والغلبة، يقاسمنا حياتنا وكل شؤوننا وشجوننا، حيث استطاعت السلطة تفكيك مكونات النسيج الاجتماعي واختراقها، وبالتالي تهميشها واستبعادها تماما عن المشاركة السياسية الفاعلة وغير الفاعلة، في حين استطاع المجتمع أن يكبّل ذاته بقيود "التجزئة الفئوية" التي أرادتها السلطة في لحظة سياسية، كان هاجسها الأساس القبض على قياد المجتمع وتوجيهه وجهة تضمن لها سطوة الهيمنة والغلبة، فكانت النتيجة هذه "التجزئات الفئوية" المتمادية، وصولا إلى التفتيت والتشظية وغياب الهم الوطني العام، وحضور سلطة التطييف والمذهبة والانقسامات الاثنية والمنازعات الأهلية، السابقة على وجود الدولة والمجتمع الوطني الواحد.

وإن كان الانفصال اليوم في السودان، تحصيل حاصل العلاقة غير السوية بين الدولة والمجتمع، فإن انفصال السلطة هناك عن مجتمعها وانفلاتها منه ومن التواصل العلائقي المسؤول معه، هو الذي مهّد كي يصبح الانفصال الجهوي حقيقة واقعة، فالتغوّل السلطوي و"ارتقاء" النظام الحاكم إلى سدة "التشريع الإلهي"! هو ما أدى في نهاية المطاف إلى خلق نزوع الانفصال عنها، كنظام لسلطة دولة فرّطت بانتماء المجتمع إليها، وهيّأت له "مملكة عزلته"، ومارست المزيد من الضغوط الهائلة عليه، حتى كان انفجاره، أو انفجار قسمه الجنوبي باتجاه الخروج من إطار الوحدة، إلى فضاء قيام دولة جديدة في الجنوب، فكان الفصام سيّد السلطة، كما يكون الانفصال مركز عملية الطرد التي تمارسها السلطة ضد مجتمعها، الذي ترفض أن تتكامل معه، في تحديد الغايات التي ينبغي أن تكون المحدد الرئيس للعلاقة السويّة بين السلطة/الدولة والمجتمع، من دون وصاية ومن دون إكراه أو غلبة. وحتى لو كان السودان واحدا موحدا إثنيا وعرقيا ولغويا وقبائليا ودينيا، فربما كانت النتيجة واحدة، كون النظام كان الأشد فئوية في ممارسته الأساسية كسلطة كانت تستبد بشعبها، وتحتكم إلى ما يُضاد سلوك الأنظمة الطبيعية إزاء علاقتها وتواصلها بمجتمعاتها، وبما يحقق لهذه المجتمعات المصلحة العامة المشتركة، حيث تحرص الدول على الحفاظ على وظيفتها الرئيسة، كونها مؤسسة ترعى إدارة حقوق وواجبات المصالح العامة. وحين تفقد كل ذلك، فهي تفقد شرعيتها ومشروعيتها في آن.

إن مجتمعات مأزومة ابتليت بكل هذا الانحطاط والتخلف، وتصييرها أو صيرورتها مجموعة تجمعات إثنية وطائفية أكثر تفكيكا وتذررا، مثل هذه المجتمعات أكثر احتياجا اليوم والآن وفي كل آن، إلى أن تتمثل قيم التنوير والحداثة والنهوض؛ ذهنيا وسلوكيا وحضاريا، بدل هذا التأكيد الثيولوجي الدائم للنكوص نحو الماضي القروسطي، والثبات وتكلس القيم وجمودها، واستنقاع الإنسان في قيعان بلا قرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب جامعة السوربون يتظاهرون دعما لفلسطين في يوم النكبة


.. برنامج الأغذية العالمي: توسيع العملية العسكرية في رفح سيكون




.. الأونروا: الرصيف البحري المؤقت لا يمكن أن يكون بديلا للمعابر


.. كل يوم - خالد أبو بكر: الغذاء ينفد والوقود يتضاءل -المجاعة س




.. المثلية الجنسية ما زالت من التابوهات في كرة القدم الألمانية