الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضيلة التناقض

خالد إبراهيم المحجوبي

2011 / 2 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



كلمة التناقض راجعة إلى الجذر (ن ق ض)، الذي يحمل معنى الهدم، والإزالة، والنكث. سواء لما كان معنوياً، أو مادياً. قال ابن فارس :(( النون والقاف والضاد أصلٌ صحيح يدلُّ على نَكْثِ شَيء )).( 1)
وورد في لسان العرب:((النقض إِفْسادُ ما أَبْرَمْتَ من عَقْدٍ أَو بِناء، وفي الصحاح: النَّقْضُ نَقْضُ البِناء والحَبْلِ والعَهْدِ... وناقضَه في الشيء مُناقَضةً ونِقاضاً: خالَفَه ...والمُناقَضةُ في القول: أَن يُتَكَلَّم بما يتناقَضُ معناه )) (2 ).
لقد ذاع بين الناس أن التناقض -في مجال الأفكار- معدود في عداد المناقص، والمعايب التي تذم بها الآراء، وتثلب بها الاجتهادات الفكرية. وصار مألوفاً في سياق الذم والانتقاص أن يقال : فلان متناقض، وله أفكار متناقضة.
لكنّ نظرة متأنية ، إلى حقيقة التناقض، وملابساته؛ كفيلة بأن تغير موقعه القيمي، ثم تُحِلَّه في محل القبول، وتعيد له حقه المستلب من طرف من يرونه نقيصة، وعيباً، ممن لم يجهدوا أنفسهم في التركيز على أصل حقيقته، ومآل نتيجته. هذا في حالة نشوئه نشأة طبيعية، لا عن قصور أو تقصير، كما سنرى في أسبابه التي سأذكرها حيث يكون نقيصة في ثلاث حالات، لا تعود أي منها إلى ذات التناقض نفسه، بل إلى تقصير، وخلل صادر من الإنسان الذي حدث منه التناقض ، وهذا ما سأوضحه بعد قليل.
قال عبد الله القصيمي:((التناقض ليس نقصاً، أو خطأً ، أو ضعفاً. إنه حركة حياة وكينونة . ورؤية عقلية متجددة...إنه كالانتقال من الأمس إلى اليوم، ومن اليوم إلى الغد...ومن شعور إلى شعور))( 3)
إن التناقض في حقيقته المجردة، ليس أكثر من إدراك جديد خالف إدراكاً قديماً. إنه صورة من صور التطور التفكيري. إنه يحمل دليلاً قطعياً على أن صاحبه ذو عقل شغال، وفعال، ومتجدد، غير راكد، ولا راكن، ولا ساكن. إنه من مقتضيات العقل الحيوي المتجدد دائم العمل، ودائب الإنتاج.
التناقض ليس أكثر من أن تقول رأياً مخالفاً لرأي قلته قبلاً، أو أن تقتنع بفكرة، لم تقنعك سابقاً، أي أن يظهر لك ما كان عنك غائباً؛ فينتقض السابق باللاحق، حسب سُنَّة البقاء للأصلح ، لا حسب بدعة البقاء للأسبق، التي تشيع بين كثيرين يرون الصواب منحصراً في القديم، بحيث يصير التجديد أمراً مريباً، ومَعيباً.
حين تأملتُ في شأن التناقض بدا لي أنه يتولد عن أحد أمور هي :
الأول: اضطراب المنهج. وهو هنا نقيصة.
الثاني: افتقاد التركيز الفكري. وهو هنا دليل خلل في آلية التفكير
الثالث : ضعف التأصيل. في هاته الحالات يكون مذموماً لا لذاته بل لتقصير من حدث له، وضعف آلاته التفكيرية.
الرابع: زيادة في العلم لم تكن محصلة. ومن صور ذلك، حدوث معطيات جديدة، لم
تكن معلومة، منها-مثلاً- أن يسنح دليل لم يكن ظاهراً، أو يظهر معنى لم يكن مستوعباً.


إن الأَوْلى بالذم، والأحرى بالثلب، هوالجمود، وليس التناقض، وذلك حين يجمد الإنسان على أفكار محددة، وآراء معينة، يتبناها، ويحلها محل التقديس ، بحيث تصير أفكاراً مجمدة، غير قابلة للحركة، ومحنطة غير قابلة للتغيُّر؛ فتصير بذلك -تلك الأفكار- كصخور الوديان الجافة، لا مطر يبللها، ولا سيل يحركها.
التناقض قرين للتجديد، ولازم من لوازمه، فلا يمكن أن يحدث تجديد وتطور في فكرة ما، إلا بعد نقض بعض عناصرها، أو نقضها كلها؛ لتحل محلها فكرة أقوى، وأمتن، استحقت أن تقوم على أنقاض تلك التي تم نقضها بواسطة عملية تناقض، أحلّت الأقوى محل الأضعف.
---------------------
الحواشي
1 - مقاييس اللغة .ابن فارس مادة(نقض)
2 -لسان العرب . مادة (نقض). وورد فيه ضمن مادة (قضض) (( انْقَضَّ الجدارُ انْقِضاضاً وانْقاضَ انْقِياضاً إِذا تَصَدَّعَ من غير أَن يَسْقُط، فإِذا سقَط قيل: تَقَيَّض تَقَيُّضاً.))
3- هذا الكون ما ضميره. عبد الله القصيمي.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حضرة الكاتب المحترم
بشارة خ. ق ( 2011 / 2 / 24 - 21:12 )
هنالك سبب محدد لاعتبار من يتناقض في ارائه وتفكيره بشكل عفوي او واعي وحسب الموضع والظرف , السبب هو عدم سير انسان كهذا على منظومة مباديء واضحة.فمثلا ان كان مبدأ فلان الصراحة فلا بد ان يلتزم بهذا المبدأ على اختلاف المواضع والمحاورين والظروف
ربما حضرتك قصدت المرونة العقلية وهي تكون في اختيار مباديء صالحة واخلاقية, مثلا ان كان مبدأ فلان ان كل ما يخصه جيد وكل ما يخص غيره هو سيء فهذا مجرد مبدأ احكام مسبقة انغلاقي غير اخلاقي..وهكذا
الافكار والاقوال والافعال تكون متماسكة ان لم يناقض بعضها بعضا والا فهي متهالكة تنم عن ضعف في التفكير او المنطق وعادة تكون غير مقنعة او غير مفهومة حتى

اخر الافلام

.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال


.. روسيا تواصل تقدمها على عدة جبهات.. فما سر هذا التراجع الكبير




.. عملية اجتياح رفح.. بين محادثات التهدئة في القاهرة وإصرار نتن


.. التهدئة في غزة.. هل بات الاتفاق وشيكا؟ | #غرفة_الأخبار




.. فايز الدويري: ضربات المقاومة ستجبر قوات الاحتلال على الخروج