الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المستبد عاريا

سلام عبود

2011 / 3 / 6
المجتمع المدني


النفاق هو الوليد المدلل للاستبداد
حينما تصبح القوة مسيّرا أساسيا للحياة (قوانين الطوارئ، الظروف الاستثنائية، كل شيء من أجل المعركة، كل شيء من أجل النصر، خندق واحد لا خندقان، الحرب على الإرهاب، وغيرها من التخريجات اللفظية)، وحينما تكون بديلا من الحق والمسؤولية الاجتماعية والضمير، يغدو العنف نسيجا بنيويا منظِّما للعلاقات الاجتماعية والروحية. فالقانون يصبح تابعا لمبادئ القوة، يكيف نفسه على ضوء متطلباتها وشروطها؛ أمّا المسؤولية الشخصية والاجتماعية للأفراد والجماعات فتصبح أداة، مرغمة أو مختارة، لتنفيذ مشروع القوة. بهذا تكتمل دورة ولادة ونمو وتناسل فعل القوة، وتُنجَز دورة عبور السلوك العنفي من الخارج الى الداخل، ثم العودة الى الخارج لإغنائه، والعودة مجددا الى الذات لتطوير مهاراتها في مجال ارسال واستقبال إشارات العنف، حتى تصبح الذات جهازا انفعاليا حساسا وطيّعا يأتلف، بتناغم فعال، مع القوة المجتمعية، الموجودة خارج الأنا. وحينما تكتمل الشروط الاجتماعية العامة الضرورية الملائمة لاستخدام العنف، تكون الذات قد استحالت صورة مصغرة وفردية من صور إرادة العنف العامة. إن الخضوع المزمن لسلطان العنف يصيب الذات بانقسام حاد وعنيف، ويجعلها متناقضة التكوين: مستعبدة من قبل قوانين وتقاليد وأعراف العنف من جهة، وحرّة حرية فريدة في ممارسة ردود الفعل العنفية والعدائية من جهة أخرى؛ على عكس الذات المتحررة من نوازع العنف، التي تزداد خشيتها الفردية ويتعمق ترددها عند اندلاع العنف. في هذا الطور تغدو الذات الفردية خلية مستنفرة وجاهزة لتنفيذ الأوامر العدائية في الممارسة الحسية اليومية بحرية ظاهرية خالصة، من دون وعي أو تبصر، ومن دون الحاجة الى منطق عقلي أو أخلاقي أو سياسي تستند اليه. في هذه المرحلة المتطورة من مراحل استخدام العنف يصبح العنف وأدواته العدوانية مرجعية خاصة، مستقلة، مكتفية بذاتها، تنتج منطقها وأخلاقها وقوانيها وشروطها السياسية، أي يصبح ثقافة شخصية واجتماعية. مثل هذا التحول المتبادل، النفسي- الاجتماعي، لا تسري قوانينه على السياسيين حسب، بل يشمل الجميع، الحاكم والمحكوم، الظالم والمظلوم، المتعلم وغير المتعلم، الأنثى والذكر، ربة البيت والعامل. مثل هذه العوارض المرضية يجدها المرء بيسر مطبوعة على صفحة المجتمعات إبان الحروب الأهلية. لذلك أرى أن المجتمعات العراقية واللبنانية والجزائرية والسودانية والمغربية واليمنية والفلسطينية مثلا تخوض حروبها الأهلية الطويلة الأمد منذ عقود، وربما منذ زمن أبعد، ولم تزل تمارسها ثقافيا بكل أنواع السلاح: الأبيض والأسود والرمادي.
حينما يجري الحديث عن العنف تذهب المخيلة مباشرة الى السلاحين الأبيض والأسود: الدم وغرف التعذيب والإعدام شنقا أو رميا بالرصاص والحروب. وهذا التصور الحسي، التبسيطي للعنف، أحد أبرز مظاهر الخطر في فهم ظاهرة العنف، لأنه يُخفي جزءا حيويا وأساسيا من أشكال التعبير الاجتماعي، ويتستر على السلاح الأكثر خطورة، السلاح الرمادي، السلاح السلوكي والثقافي. إن العنف منظومة متكاملة، لا يكوّن السلاح والأذى الحسي سوى أداتها المادية، العيانية الجارحة. أما جوهرها الاجتماعي فيكمن في سبل تنظيم العلاقات الاجتماعية، وسبل إدارة الحياة، وسبل مراقبة سيرها وتنفيذ خططها، التي لا تكتمل إلا بتوفر عناصر ثقافية لازمة وضرورية أهمها: أساليب إشاعة الأفكار، والطرق والمبادئ التربوية والفنية ومبادئ الحق، واستثمار الموروث الشعبي والتاريخي والتقاليد، بما في ذلك المزاج العام في لحظة تاريخية محددة، وتطويعها جميعها في خدمة مشروع العنف. إن السلاح هو الشكل الأدنى، وليس الأعلى في منظومة العنف، لأنه الأداة الأقل مكرا، والأقل خفاء، والأوهى تبريرا. إن السلاح لا يعدو أن يكون الوسيلة الجرمية السافرة لتنفيذ مبادئ العنف والعدوانية الاجتماعية. إن تجريد العدوانية والعنف من كيانها التنظيمي وبنيتها الثقافية والقانونية والأخلاقية وحصرها بالسلاح والعنف الحسي المباشر جزء من بناء العقل والفكر المصابين بالشلل العنفي تاريخيا، الناشئ بفعل سيادة وتغليب ثقافة وقوانين القوة على قوانين التبادل السلمي للأدوار الاجتماعية. إن العنف يمارس حريته بمكر أشد، ويستخدم عدوانيته بدهاء أكبر، حينما يكون مجردا من السلاح المباشر.

الديكتاتور يستأنس بأصنامه الباسمة
شيئا فشيئا يمسى الديكتاتور مشحون الأعماق بمشاعر الوحدة والسوداوية والإنغلاق العاطفي. وتغدو التطمينات التضليلية، الكاذبة، التي ينسجها جيش الوشاة فيه وعنه، إسهاما عاطفيا، تعويضيا، دوائيا، يخفف من حدة أزمته النفسية. فالحقيقة القاهرة تؤكد يوميا أن الديكتاتور ليس أكثر سعادة من تماثيله المبتسمة، المنتشرة في الطرقات. شيئا فشيئا تغدو صور المستبد الأوحد الباسمة، التي تحتل نيابة عنه، فضاء الوطن، استفزازا عاطفيا جارحا، يهدد بافتضاح أعماقه المحترقة بنيران الكآبة، والهزائم المتكررة، والإذلال الدولي الدائم. حتى أنه يدمن النظر الى انتصارات تماثيله وتماسكها وحريتها بحسد ومساومة، متوهما أنه يستطيع أن يستعيد من خلالها ابتسامته المقتولة. وفي لحظات نادرة الحدوث، حينما يتم تآلفه مع ذاته، يستجمع ثقته بنفسه ويعترف لنفسه أنه مستبد مخذول، يستمد عظمته من حجم الإهانات التي يلحقها الأقوياء الغرباء به، وحجم الإهانات التي يلحقها هو بمن هم أدنى منه سلطة. يقف الديكتاتور بهلع وخجل وارتباك الوثني أمام آلهته الجميلة، وهو يعترف لعدوه وخصمه اللامرئي اللابد في أعماقه، بأنه أكبر المستصغـَرين، الذين يمارسون شقاءهم العدواني بكبرياء وإصرار وصلف، لا يضاهيه سوى انسحاق راسمي لوحاته وصانعي تماثيله وناسجي مدائحه الشعرية والنثرية والتلفزيونية. لا أحد مثله من بني البشر تدرب في مدرسة الشارع تدريبا بارعا على صناعة أوهام المجد الملطخ بالدم، ولا أحد يضاهيه في مقدرته على تعليم نفسه جيدا سبل الاحتيال بمهارة وفطنة على ذاته، موهما إياها، قبل أن يوهم رعاياه، بامتلاكه بهجة القوة المؤكدة، المرسومة على شفاه الصور الشامخة في الساحات. يظل الديكتاتورغارقا في طقسه الوثني، غاطسا في بئر تفرده الاستثنائي، ولا أحد يتنبه الى ذلك، حتى هو نفسه. لأن الجميع مثله، يراقبون الثقة المطلقة بالنفس المنحوتة على وجوه التماثيل والنصب، التي تفسد هواء الوطن بزفيرها الموبوء. لا يمتلك المستبد قناعة تامة من أنه تعيس ومرتبك الأعماق، لأنه يعيش ويحلم، ينام ويصحو، وهو يحمل على كتفيه هودج الديكتاتور الضروري المرصع بنجوم الانكسارات المتلاحقة، الدكتاتور- القدر المكلف من قبل قوى غامضة، بحمل تيجان الاستبداد الاستثنائية القاتلة. يملك الجميع، حتى أصغر خدمه، حقا طبيعيا في إجازة قصيرة أو طويلة. الديكتاتور وحده من لا إجازة له. لأنه عبد أبدي للخوف من الخوف، اعتاد أن يرى نفسه سجينا داخل أسوار معابده الخاصة، السرية والعلنية: طغيانه. معارك الخارجية والداخلية لها نهاية وتخللتها هدنات عديدة، لكن حربه الشخصية لا نهاية لها، ولا هدنات ممكنة فيها. لقد فرض "القائد الأوحد" على نفسه أن يحمل عبودية الديكتاتور الأبدية حتى وهو ذاهب الى قدره المؤكد: قبره.
أي قدر خرافيّ يصنع المستبد لنفسه، وأي قدر انتقامي تصنعه سلالة القتلة للآخرين؟
يبنى الديكتاتور سلطته القيادية على أساس مبدأ القوة، أي مبدأ العنف، ليس في طريقة أخذ السلطة فحسب، وإنما أيضا من طريق تحصين شخصه تحصينا عسكريا تاما، وهو يناضل من أجل الاحتفاظ بهيبة القوة والغطرسة. إن هاجس الديكتاتور فردا وقائدا لجماعة حزبية يرتبط ارتباطا قسريا وضروريا بالقوة، أي بالعنف، وبالخوف الى حد الهلع من فقدان هذه القوة. فليس امتلاك القوة وممارستها هو هاجس وشاغل الديكتاتور، كما نظن جميعا. إن هاجسه الجنوني الأعظم يكمن في خوفه الهستيري من فقدان هذه القوة وإضاعة مصادر صناعتها وإدامتها. كم ليلة كابوسية سوداء مرت في مخيلة الديكتاتور، نائما أو يقظا، وهو يرى نفسه مطوقا بآلاف الموتى الزاحفين نحوه وهو يحاول عبثا العثور على سيفه الأسطوري المهيب، المعلق في سماء الوطن، كرمز أبدي لقوة الخوف وجنون مقاومة الخوف. ومن سخريات القدر الأرعن أن يحاول خصوم الديكتاتورالاقتداء بهذه الخبرة العدوانية، جانبها الفني تحديدا، ولكن بحرية ناقصة، ومسؤولية مضطربة. لذلك يظل الديكتاتور المثل الملهم والعبقري للجميع، حتى لمنافسيه وخصومه وأعدائه من السياسيين الحالمين بالسطة.
بعد أن يحسم المستبد معركة امتلاك مصادر القوة لمصلحته: السلطة، يحيط نفسه بمجموعة كبيرة، رثة، من المساعدين. ويكون هذا الاختيار مبنيا على المبدأ الأوحد ذاته: القوة العارية، القوة المدججة بالخوف من القوة، والمشحونة برهاب فقدان القوة. فهؤلاء، حتى لو قتلوه، لن يستطيعوا أن يديروا منظماته الزاعقة ككيان حزبي موحد، وأن يديروا دفة السلطة كقوة تنظيمية وطنية تقود الدولة. يبنى الديكتاتور الجاهل تحصيناته الشخصية من طريق المبدأ الوحيد الذي يعرفه، ويجيد استخدامه: حسابات القوة وفق مبدأ العنف المـُنتج، العنف المتناسل، المجرد من أي محتوى أخلاقي أو سببي أو سياسي، والقوة باعتبارها قدرا وجوديا. لذلك يمتلك الديكتاتور حساسية مفرطة ضد أيّ مصدر للقوة، خارجي أو داخلي، يرى فيه تهديدا شخصيا، مباشرا. ولا يتوقف الأمر على ذلك، فقد يجد المستبد أن مركزة السلطة، وفق مبدأ القوة، هي الطريقة المثلى والأنجع لإدارة المجتمع؛ فتتحول العسكرة الى شكل لإدارة السلطة والحياة معا.
الوطن - شعبا وأرضا - لدى السياسي الرث وفي مشاعره وأحاسيسه، ولدى المثقف المصاب بالرخاوة والعفونة الضميرية ليس سوى تجمع سكاني، يخلو من العلائق المجتمعية. إنه إطار حسابي وجغرافي، أقل مرتبة من القطيع البري، تربط أفراده وكتله صلات تنظيمية خارجية وعددية، أقل منزلة من الروابط المجتمعية الوطنية للفئات، وروابط المواطنة للأفراد. فالوطن في نظرهم اتحاد مزيف لجماعات متناحرة، نسيجه الناظم قانون القوة والتوازنات الخارجية الإجبارية. فهم جميعا يؤمنون بإن التمزق الداخلي هو الشكل الوحيد الثابت والمتماسك والحي في بنية الواقع التضليلية المترابطة ظاهرا، الراسخة التجزئة مضمونا. وما وحدة الوطن الظاهرية، الشكلية، سوى تجميع مصطنع، تمليه ضرورات خارجية قاهرة.

جريمة إنكار العنف والتستر عليه

هذا البناء المتكامل هو بناء ثقافي، له آليات عمل، وطرق وأساليب تسيير وإدامة وتجديد. أي إنه نظام متكامل بمعارفه وخبراته وطرق تعبيره وترجمته لخطط ومشاريع المجتمع القائمة على أرض الواقع والمستقبلية، وطرق تعبيره وترجمته لمشاعرالمشاركة في إدارة الحياة وأنماط تقبلها. إنه نظام روحي للقوة الحسية، أي أنه نظام للعنف الثقافي. من هنا يجد المرء أن فصل الثقافة عن العنف هي محاولة لتبرئة العنف من جرائمه، وبمعنى أدق محاولة تخديرية لكبح مشاعر تأنيب الضمير الناشئة جراء الانخراط في مشروع العنف أو التماهي مع مكوناته. وهو شعور كريه حتما، لكنه شعور واقعي، لا يتم القضاء عليه من طريق تناسيه، ولا من طريق الاعتقاد بعدم وجوده، أو بعدم وجود مركباته وتجسيداته الواقعية (الموضوع)، أو إنكار أوالاته، الكامنة في الداخل. إن الطريق الوحيد لمواجهة مشكلة العنف السياسي والثقافي، الفردي والمجتمعي، هو الاعتراف أولا بوجوده، وتشخيص مكامن ومواقع هذا الوجود، وأشكال ظهوره الفردي والجماعي، وإدراك أنه فعالية كامنة، لا يمكن محوها، لأنها جزء من جوهر بناء الإنسان نفسه. أما مقاومة ظهور وتحول العنف الى موضوع، أي الى ثقافة: مادية أو فكرية، مشنقة أودبابة، أو بدلة زيتوني، أو سيارة بدفع رباعي، أو قصيدة تحريضية، أو تربية قائمة على الوشاية، أو نظرية حزبية بكل ألوانها وتفسيراتها، فهي الحلقة التربوية والحقوقية الأولى في منظومة مقاومة العنف. لا يمكن تعديل فعل الغرائز والدوافع الداخلية من دون وضع برنامج شامل لتصحيح مسارات تحققها في الواقع، وتحويل وتغيير منابع إثارتها، قبل تحولها الى موضوع والى ممارسة يومية، أي الى سلوك وفعل. لأن الغرائز ثابتة، وهي تنشط حينما تجد التحفيز النفسي ( نشاط ذاتي فردي) ، مدعوما بالمنشط والمسوغ التاريخي والاجتماعي ( الوسط الاجتماعي)، الذي يجعل من هذا النشاط قوة قد تعبر من حدود الانفعال الشعوري الغريزي، باحثة عن موضوع خارجي للتحقق، أي للتحول الى فعل في الخارج (اجتماعي)، أي الى "لا ثقافة"، كما يعتقد فرويد، وهو يعني هنا الى قوة هدم. إن توجيه الغرائز باتجاه حضاري، باتجاه ثقافة الحياة تتطلب وتشترط معرفة ممرات ومكامن نشاط مشاعر الهدم وبواعثها، وصياغة منهاج يعدل الدوافع ويصحح ما انحرف منها، ويمحو آثار ما ظهر منها في الممارسة. هنا تخطو الثقافة باتجاه الحضارة، أي تخطو خطوات إنسانية واثقة الى الأمام. على الرغم من أن هذه الخطوات لا تعني أن المجتمع تخلص من ثقافة الموت والقوة والعنف، وأحلّ محلها ثقافة الخير والسلام والعقل والعدالة والحرية. سيظل هذا المسعى نسبيا، وبعيدا، لكنه غاية سامية، سيتم الاقتراب منها حضاريا خطوة خطوة، من طريق تغليب عناصر الخير وكبح وترويض نوازع الشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر
سلوان ساكو ( 2011 / 3 / 6 - 09:45 )
رائع استاذ سلام كل مقالاتك تضرب مباشرة على الوتر الحساس .

اخر الافلام

.. ما هو المطلوب لحل أزمة النازحين السوريين في لبنان؟


.. حماس تعلن عن فقدها الاتصال بمسلحين يحرسون 4 من الأسرى الإسر




.. الأونروا ترد على الاحتلال بخصوص المناطق الآمنة في غزة


.. الجورجيون يتظاهرون ضد -العملاء الأجانب-




.. Lawyer arrested on LIVE TV