الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو نؤاس والمثلية الجنسية..شَرَكٌ تاريخي لباحثي الاجتماع (1)

خليل محمد الربيعي

2011 / 3 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا بدّ لكل متعرض لعلم التاريخ والاجتماع من أن يجمع في نفسه إلى جانب الطبع المواتي والذهن المتوقد أدوات مساعدة من الإطلاع الواسع والنظر المتأمل والاستقراء المنطقي للأحداث، فإن لكل علم منهجا ولكل منهج مادة ً ولكل مادة أصولا ومبادئ يعرفها أهلها وأصحاب الاختصاص فيها. لكنّ أغلب المتناولين لهذا العلم الحديث عندنا لا يمتلكون الكثير من هذه الصفات ولا يطبقون شيئا من تلك الأصول. ويعود سبب ذلك إلى طريقة تدريس هذا العلم في جامعاتنا ومعاهدنا، فجملة المناهج منقولة عن المؤلفين الأوربيين، وطبيعة عرض المادة منسوخة عن علماء الاجتماع الأجانب، والإشراف على المناهج وموادها منوط بأساتذة جاؤوا بشهاداتهم من الغرب فهم على آثارهم مقتدون..ثم لم تجد ميادين البحث والاجتهاد من أغلبهم إلا القراءة المعوجّة والنظرة المجتزأة والاستنباطات المستكرهة..والعجيب أنهم يفوقون نظراءهم الغربيين تأليفا وتسويدا للصفحات، لكنه تأليف مقلد لا يأخذ من عقول أصحابه إلا بقدر ما تسرقه هذه العقول من أفكار الآخرين، بعد الترجمة والشرح والتطويل والتهويل، وأعجب منه أنهم يريدون أن يطبقوا كل ذلك العلم الأجنبي على الواقع العربي دون النظر إلى خصوصية هذا الواقع وقوانين تحوله وعناصر تأثره بماضيه وارتباطه به.. وهي خصلة واضحة في كتاباتهم فمن أفلاطون وأرسطو وشكسبير إلى امرئ القيس وجرير وابن الرومي ومن أغسطس ولويس وهنري إلى الرشيد والمأمون والمعتصم قياسا ومطابقة وتمثيلا ومقارنة..وما مثل هؤلاء إلا كمجنون يحاول أن يدخل رأسه في قبعة أصغر من حجمه، فلما عجز عن ذلك وشعر بالصداع جلس يفكر..ثم وجد الحل، وبدلا من أن يشتري قبعة أكبر..أخذ المنشار ليكشط فروة رأسه ! وما زال الجدال والنقاش قائما على مدى قرن من الزمان بين المميزين والعقلاء الذين يقولون: لماذا لا تغيرون القبعة؟..وبين هؤلاء الذين يقولون: ولماذا لا نغير الرأس ؟!
تحداني صاحب لي يدرس في كلية التربية بأن أكتب مقالا أرد به على آراء يدّرسونها لهم في علم الاجتماع، يكيلون فيها الاتهامات بالشذوذ ضد أبي نواس وعصره، وكانت جرت بيني وبين صاحبي مساجلة ومناقشة حول الموضوع طرح خلالها تلك الآراء وطلب مني رأيي فيها فأخبرته أن علماء الاجتماع لدينا ما زالوا كلما استقرأ أحدهم التاريخ العربي والإسلامي ومر على العصر العباسي يقع في هذا الفخ، وكأن أبا نواس بطبيعته العابثة والماجنة التي عُرف بها وعُرفت به لا يزال يخدع هؤلاء ويغري عقولهم وتلعب قوافيه المُسكرة بهواجسهم وعواطفهم حتى ينومهم تنويما (شعريا)، كما كان يحكي مثل ذلك في قصائده حين يستدرج الفتاة (أو الفتى) ويسقيها من الخمر المعتقة –الحاضرة عنده دوما– حتى إذا أخذت منها (أو منه) وضعفت قوتها وتراجعت مدافعتها حلّ عقدة الــ.... و .....، فلا يتكلم علماء الاجتماع بعد ذلك في هذه المسألة إلا وقد استولى عليهم الخوف من هذا الدعـّابة الخبيث فيصبون عليه اللعنات ويكيلون له التهم..وكأني به يضحك عليهم من وراء الحجب كلما استنبطوا مثل تلك الآراء واستخرجوا مثل تلك الأحكام.
وترجعُ العلة في موقف أغلب المتكلمين في علم الاجتماع عندنا تجاه أبي نواس وعصره إلى ضعفهم في مجال الشعر وصناعته ومراميه، فكلهم لا يُعرف عنهم قول الشعر أو معالجته أو الإحاطة بعلومه، بل إنّ أغلبهم يتخذ موقفا معاديا للشعر العربي واللغة البلاغية التي شاعت في العصور الإسلامية الأولى، ويدعو صراحة إلى نبذها وتسهيلها وتغيير مفرداتها لتصبح مفهومة ومباشرة وغيرَ ذات ألواح ودُسُر..لأن العصر –بزعمهم– عصر السرعة والحركة والسهولة، لا تناسبه لغة القواميس والمعاجم التي ينبغي أن تُطرح وتـُقصى من حياتنا الحديثة..والغريب أن هذه الدعوة ما زالت تتكرر منهم جيلا بعد جيل حتى أصبحت شعارا لهم ودليلا عليهم، فلا يبدأ أحدهم بالتأليف والنظر في تاريخ الأدب والشعر حتى تتشكل عنده عقدة المؤرخين وتنتابه طيشة أهل الاجتماع..فيستغرق في البرهان على عبثية البلاغة والبديع المعاني وغيرها من علوم اللغة وأسرارها ويدفع عن نفسه العجز والضعف في اللغة بأنّ طبيعة الأدب تغيرت وأنّ القارئ في وقتنا أصبح مميزا وتكفيه لغة الإشارة..ثم لا يخجل –إذا هو عرض لتحليل وبحث تاريخي أدبي– من الزعم بأن الشعر العربي يمثل انعكاسا صادقا للعصور التاريخية المختلفة، وأن فهم تلك العصور لا يتهيأ ُ إلا من خلال فهم الشعر ومعرفة أسراره..فكيف يمكن بعد هذا التناقض أن يأمن القارئ ببحثهم ويثق فيما يستنبطونه ويؤولونه ؟؟.. إنهم حينا ً يتسخطون على الغابات الملتفة والممتدة التي لا يستطيعون عبورها ولا سبر أغوارها ويطالبون بحرقها للتخلص من الهوامّ والحشرات وبناء ناطحات السحب، فإذا تغير الموقف وتكلم الناس عن البيئة والاحتباس الحراري طفق هؤلاء يمدحون الغابات ويتوسعون في الكلام عن البناء الضوئي للأوراق النباتية وأنّ الغابات هي رئة الأرض !!
وقبل أن أفتتح جلسة الدفاع عن أبي نواس أقرر أن خصومه (الاجتماعيين) لا يأتون برأي ابتدعوه ولا يتكلمون عن علم ابتكروه ولا يجرون في ميدان سبقوا إليه، فكل آرائهم مسطرة في كتب المستشرقين القدماء قبل أكثر من مئة عام، فمن هناك أخذوها وقلدوها وتداولوها في سلسلة متداخلة انتظم بها مؤرخون واجتماعيون كثيرون منهم طه حسين ومنهم علي الوردي..وأنا أذكر هاتين الشخصيتين لأنهما تردان كثيرا في كتب الاجتماع ووردتا كثيرا على لسان صاحبي وهو يحاورني.
ودعونا الآن نطبق قواعد الاستنتاج في علم الاجتماع على زمرة الاجتماعيين بجملتهم، فنحن إذا تأملناهم وجدنا فيهم صفات مشتركة أخرى غير ما ذكرناه آنفا من أنّ جميعهم يحاولون تطبيق مقاييس الاجتماع الأوربية على التاريخ العربي،.وأنّهم غرباء عن صنعة الشعر وحرفة البيان.
فمن صفاتهم العامة تهاونهم بفرائض الدين الإسلامي وعدم فقههم فيه عموما..فلا نكاد نرى في كتاباتهم أو تحليلاتهم استشهادا بآية قرآنية أو تفصيلا تاريخيا لحديث نبوي أو دراسة لأبعاد التأثير الروحي للدين في المجتمع، فإن وجد من ذلك شيء كان لمحة قصيرة منقولة من كتب الفقهاء على عجل، فإذا خرجوا إلى التاريخ والحكاية طالت ألسنتهم وانفتحت قرائحهم. كما أنهم يدّعون أول ما يبدؤون تأليفهم تجردهم عن الدين وتقديسه كي يصلوا إلى الحقيقة عن طريق التحليل الموضوعي بعيدا عن أي مؤثرات خارجية –بزعمهم–، وهي خدعة تعلموها من المستشرقين ليحصلوا على الحصانة من أي نتيجة قد تؤذي المسلمين في تاريخهم..ولو كان القوم يفقهون شيئا لما ادّعوا ذلك، لأن الإسلام في الحقيقة هو أكبر عامل مؤثر في المجتمع المسلم لأنه دين اجتماعي يتوجه إلى أفعال الناس وتصرفاتهم وينظم حياتهم بتعاليمه لا كغيره من الأديان التي تقتصر على إصلاح الذات الإنسانية وتربية النفس على الأخلاق الحسنة، فالإسلام يضع قوانين الحكم والدفاع والقضاء والميراث والحدود وغيرها..وبهذا اتسمت الدولة الإسلامية بطابعها الديني لتحكم بالشرع وتستمد قوانينها من أصول الدين..فأصبح الإسلام ممزوجا بالمجتمع العربي ومحتوى فيه ولا مجال لدراسة أحوال هذا المجتمع دون دراسة الإسلام وتحليل أثره فيه، كالإناء الزجاجي الصافي لونه لون الشراب الذي بداخله..ولذلك كثيرا ما تحوي مباحث أهل الاجتماع لدينا أفكارا بالأسود والأبيض !
ومنها حنقهم وحقدهم الغريب على خلفاء العصر العباسي ومحاولتهم سحب كل النقائص ومظاهر الفجور والخلاعة في المجتمع الإسلامي حينذاك على الخلفاء وبطانتهم..مائلين إلى الروايات الضعيفة والحكايات المموهة التي لا تخفى صناعتها على أهل التمحيص والتأمل..وما وجدت ُّ خليفة تظاهروا على اتهامه بالتهتك والخلاعة والمجون وتبديد أموال المسلمين على الملذات والشهوات والنفاق الاجتماعي وشدة الوطأة على الناس– مما وجدتهم مجمعين عليه تجاه الخليفة العباسي هارون الرشيد. ولعلّ عبد الرحمن ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، باعتراف الغربيين، قد ألقم هؤلاء الحجر منذ سبعة قرون من الزمان عندما تعرض للرد على تلفيقات المؤرخين غير الممحصين وروايات ذوي الدخلة والشعوبيين، فأفرد التمهيد لمقدمته المعروفة لعرض بعض تلك الحكايات وبيان بطلانها..أقول ألقمهم الحجر لأن جميع باحثي الاجتماع لدينا يـُكبرون الرجل ويرون له السبق في هذا العلم ويجلون مذهبه الموضوعي في استعراض التاريخ ووصف أحوال الاجتماع الإنساني، حتى إنّ أحدهم ليفتخر بين أقرانه إذا وصف باتباعه لابن خلدون وتشبهه بمنهجه..ولعلّ رأيهم هذا في ابن خلدون لم يكن ليرسخ في أذهانهم ويتمكن من نفوسهم لولا أنّهم رأوا أساتذتهم الأوربيين يعترفون بسبقه ويحمدون طريقته..ومع ذلك، وفي تناقض آخر للقوم، لا يكادون يصلون إلى سيرة هارون الرشيد حتى يحيدون عن النهج الموضوعي والبحث المجرد، فيجعلونه سلطانا جائرا ولاهيا منشغلا بجواريه ونسائه وبمعاقرة الخمر ونسيان أحوال الرعية..غير مبالين ولا ملتفتين إلى نوع الرواية ومرامي الحكاية ودرجة قربها أو بعدها من المنطق والحق.
وأريد هنا أن أتعرض لهذه القضية لأن معرفة الحق والصواب فيها سيفضح ضعف القوم ويبني أساسا للدفاع عن أبي نواس لاحقا، ثم إني أريد أن أعطي طلاب العلم مثالا للقراءة الاجتماعية والتاريخية الصحيحة. إفتح مقدمة ابن خلدون وانظر في صفحاتها الأولى لتجد المؤلف يدفع عن الرشيد ويقول: (وأما ما تموه له الحكاية من معاقرة الخمر واقتران سكره بسكر الندمان فحاشا الله...وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء...وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها). ثم ساق أدلة كثيرة على بطلان تلك الروايات والأخبار الواهية واستقرأ أدلته من (أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني) التي اعتبرها هو في بداية مقدمته أساسا مهما وعنصرا رئيسا لأي دارس للتاريخ ومتتبع لأحوال الأمم..إقرأ هذا وتأمله وقارنه بما ذكره طه حسين في بعض مقالاته من (حديث الأربعاء) حينما أطلق الحكم على العصر العباسي الأول بأنه عصر الشك والمجون وعصر النفاق والرياء الاجتماعي وبأن دفاع ابن خلدون عن الرشيد إنما كان هفوة منه وعدم معرفة بالنفس الإنسانية (فظن ابن خلدون أن هذا يكفي لتبرئة الرشيد مما أضيف إليه من أنه كان يلهو ويسكر)..وأنا أطلب من طلاب العلم أن يعيدوا قراءة كلام ابن خلدون وتعليق طه حسين ليدركوا الفرق بين من يربط الأمور بعضها ببعض ويعتبر النتائج بالأسباب ويزن الأحوال بموازينها وبين من يرمي القول على عواهنه ويفسر التاريخ على هواه ويـُكره الرواية لتوافق مراده منها..وإلا فإنّ احتجاج ابن خلدون واضح ومعتمد على الروايات المثبتة صحتها، ولا أظن أنّ أحدا من إجتماعيينا يزعم لنفسه مضاهاة ابن خلدون في التحليل ومعرفة الصحيح من الموضوع وهو الأقرب إلى عصر الرشيد منا إليه بمقدار ستة قرون أو يزيد..إنّ الرجل يقول بأنّ ما ثبت من حال الرشيد أنه كان يقوم بأمر الخلافة والحكم والنظر في أمر الرعية وما يقتضيه ذلك من همة عالية ودأب مستمر وجلد طويل النفس ومتابعة للولاة وتخير للرجال..ولو لم يكن للرشيد إلا هذا العمل وتلك المهمة لكان معذورا إذا لم يجد للهو وقتا ولا للسكر مزاجا..فكيف به والروايات تحدثنا عن استغراقه في شأن الجهاد وإعداد الجيوش واستطلاع أحوال الثغور على أطراف الدولة المترامية وإرسال الوفود إلى الدول والإمبراطوريات المجاورة ونشر العيون (الجواسيس) لرصد تحركات المخالفين والمناوئين؟ لقد جهل طه حسين ما عناه ابن خلدون في تضاعيف كلامه من أن للسلطة والحكم أعباء ثقالا ومسؤوليات شديدة لا يجد القائم بها مجالا للهو والعبث، ولو توقف الحال عند هذا الحد لكان عسى أن يتشدق المتعصبون ضده ويتقوّل المتحاملون عليه، لكنّ الرجل كان أيضا إماما للمسلمين في صلاتهم الجامعة ويحافظ على صلاة الصبح لأول وقتها، وهي ملاحظة من ابن خلدون تتضمن حقيقة اجتماعية ونفسية خطيرة، فلو كان الرشيد يعاقر الخمر ويجالس الندماء فيها لما أمكنه النهوض إلى صلاة الصبح عند الفجر بعد كل ليلة شرب وقصف، لأن ذلك يستدعي مغالبة النفس ضد سلطان النوم وترك المضجع في أحب أوقات الراحة للنائم ومفارقة الفرش الوثيرة بجوار النساء، وهو ما لا يطيقه الكثير من المسلمين من غير شاربي الخمور فكيف بمن قضى هزيعا من الليل في الشرب والسكر..ثم إن الأمر لا يقتصر على ليلة واحدة أو عدة ليال، فالرواية تثبت أنه كان محافظا على الصلاة لوقتها، وذلك من أفعال الصالحين والمغالبين لشهوات أنفسهم، ولو كان سكيرا لاهيا لضعفت مـُنته وخارت عزيمته ولم يتمكن من لجم شهواته لأن إدمان الخمر ينال من إرادة النفس فلا تزال تنحدر شيئا فشيئا حتى لا تعود تنكر منكرا أو تقر معروفا..وهذا هو المشاهد والمعروف من حال مدمني الخمر في كل مكان وزمان..إلا إذا كانت خمر الرشيد مغشوشة أو كان يستفرغ منها بعد كل سهرة كيلا تفوته صلاة الصبح !! وربما فعل ذلك كثيرا عندما كان يجالس البرامكة حتى استنطقهم وعرف نيتهم الخروج عليه وسلـْبَ الخلافة منه فنكبهم !! على أنّ هذا ما لم تصل إليه قريحة الوضـّاعين ولم ترد به رواية قط.
كما أن ذكر صلاة الصبح يشير من طرف خفي إلى الحديث النبوي في أنّ أشد صلاة على المنافقين الصبح والعتمة (أي العشاء) لأن فيهما منازعة للنفس وحمل لها على الطاعة لا يتغلب على نفسه عندها إلا من غلب على قلبه الإيمان، وهو رد صريح على كل علماء الاجتماع فيما يزعمونه من تفشي النفاق الاجتماعي في تصرفات الخلفاء (والرشيد خاصة) والأمراء العباسيين مع الرعية..وهو زعم منقول عن المستشرقين الذين لا يفقهون من طبيعة الدين الإسلامي شيئا، وإلا فما يحمل الخليفة على أداء صلاة الصبح يوميا مع أنّ الرعية لا تراه ولا تحكم عليه وإنما كان يصلي في قصره أو مصلاه؟ ما الذي كان يحمله على النفاق حتى مع نفسه وفي خلوته؟..وكذلك كانت صحبته وزيارته للفقهاء والعلماء والزهاد كمالك بن دينار والفضيل بن عياض وغيرهم، فإنما كان يزورهم خفية ويستأذن عليهم ليلا ً ليسمع موعظتهم ويتأمل حالهم، وربما أجهش في البكاء حتى تبتلّ لحيته وربما سقط مغشيا عليه من خشية الحساب يوم القيامة..فلو كان مرائيا أو منافقا لفعل ذلك في العلن وأمام الرعية لا في بيت ناء وفي ظلمة الليل أمام شيخ لا يخاف لومة لائم فيغلظ له القول ويناديه باسمه ويرفض عطاءه وقد يتركه وحده وينصرف عنه..وأنت فتصور هذه السقطة من خشية الله وقارنها بالسقطة من جراء السكر الشديد في الروايات الموضوعة، وحاول أن تجمعها في شخص واحد..إنّ كل من له أدنى معرفة بالدين الإسلامي يعرف أن اجتماع الروايتين في رجل واحد محال محال محال بالثلاثة..ولو جاز أن يحتجّ أحد زاعما بأنّ الجمع بين الروايتين ممكن إذا تخيلنا الرشيد رجلا في حال نزاع نفسي حاد: يشرب الخمر ليلته ويسقط في مكانه من السـُّكر حتى إذا استيقظ تغشته كآبة شديدة من أثر الخـُمار في رأسه وأعصابه فيمضي إلى الفضيل ليسمع منه فيبكي ويسقط ثانية في مكانه من الندم على معصيته، وهكذا دواليه في كل مرة..قلنا: قد يمكن تخيل ذلك إذا كنا نتحدث عن رجل مضطرب لا مساك لعقله ولا يسيطر على نفسه تتنازعه الشياطين والملائكة كل حين لا عن خليفة حكم أكبر دولة في تاريخ الإنسانية لعشرات السنين فقام بأمرها وحمل عبئها وثبت دعائمها حتى خاطب السحابة من نافذة قصره قائلا: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك.
وباختصار فإن ابن خلدون يسد الذرائع على الرشيد ويدفع عنه، إذ لو سكر الرجل في الليل لكان أضاع الصلاة ولو سكر بالنهار لكان أضاع أمور الحكم، وهو ما لم يحصل وجاء التاريخ بضده..وهكذا يثبت ابن خلدون موضوعيته في تناول التاريخ وتحليل أحداثه ويفضح الاجتماعيين الجدد وموضوعيتهم المزيفة، ويثبتُ كذلك صحة ما قرره في بداية مقدمته من أن دارس الاجتماع (محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكــّبان به عن المزلات والمغالط)..وهو ما يفتقر إليه أساتذتنا المحترمون.
قد يبدو للقارئ أنني ابتعدت عن موضوع المقالة ونسيتُ مسألة الدفاع عن أبي نواس المسكين كما وعدتّ صاحبي، لكنّني إنما أمهد لجلسة الدفاع بخطبة افتتاحية تستعرض ملابسات الاتهام وتصف الحالة العامة لمسرح (الجريمة)..وكأني أنظر الآن إلى النواسي خلف القضبان وهو يبتسم وينظر إلى القاضي نظرة مريبة قد تهدم كل أدلتي وبراهيني..ولذلك سأطلب تأجيل الجلسة إلى الغد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ملاحظات سريعة
محمد لفته محل ( 2011 / 6 / 25 - 06:27 )
صديقي العزيز عمر، تقول ان لاوقت للحاكم للملذات بسبب انشغاله، وانت تعرف لكل رئيس مستشارين ووزراء يساعدونه، والا اصبحت قيادة الدولة اسوأ مهنة ولا يتقاتل عليها السياسيون ولا يتمناها اي فرد كما يحصل في كل زمان ومكان ولا كانت الانقلابات والمؤامراة للاستحواذ على السلطة؟ ثم ان كل الرئساء من كلنتن ومنيكا، الى برلسكوني وروبي الى صدام وسعاد العطار الخ كل الرئساء لهم فضائح جنسية نعرف منها فقط المعلن بسبب تطور الاعلام فكيف بالماضي حيث ادارة الدولة كانت اقل تعقيدا من الماضي؟ ان دفاعك عن هارون الرشيد ضعيف، ثم ماذا تتوقع من ابن خلدون وهو الذي كان يتملق للملوك لنيل المناصب؟ اما المناهج الاوربية فهي مناهج عالمية تتبعها بقية الامم وليس نحن فقط ولولاها لم يتقدم المجتمع والتعليم هكذا ثانيا ان كل باحث يعرف خصوصية بيئته وياخذ في الحسبان هذا العامل في دراسته.

اخر الافلام

.. بسبب نقص الغاز، مصر تمدد فترات قطع التيار الكهربائي


.. الدكتور غسان أبو ستة: -منعي من الدخول إلى شنغن هو لمنع شهادت




.. الشرطة الأمريكية تفض اعتصام جامعة فرجينيا بالقوة وتعتقل عددا


.. توثيق جانب من الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال في غزة




.. نازح يقيم منطقة ترفيهية للتخفيف من آثار الحرب على أطفال غزة