الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو نؤاس والمثلية الجنسية..شَرَكٌ تاريخي لباحثي الاجتماع (2)

خليل محمد الربيعي

2011 / 3 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قد نعذر أهل الاجتماع عندما يتهمون أبا نواس وعصابته والرشيد وبطانته بالانغماس في المجون واللهو واللذة، ولكن ما بالهم يعممون الاتهام ويسحبون حال هؤلاء على المجتمع العربي الإسلامي وقتذاك بأجمعه؟ بل كيف ساغ لهم أن يـُغلبوا مظهر الخلاعة والعبث في نطاقه المحدود على مظاهر الزهد والورع والعلم والتقدم الحضاري في ميادينها الممتدة؟ لماذا يتشبثون بأبي نواس ويتركون الشافعي وابن حنبل وجعفر الصادق والجنيد والفضيل وعشرات الأئمة غيرهم ممن ظهروا في ذلك العصر؟ على أنّ كل من ذكرنا كان لهم أتباعهم ومريدوهم وكانوا يمثلون مدارس العلم ومشاربه التي يتوجه إليها طلاب العلم من كل مكان في الدولة الإسلامية، فهم ظاهرة غالبة وسمة طاغية على ذلك العصر، أي أنهم كانوا ظواهر اجتماعية منتشرة، لا كأبي نواس وثلة المـُجـّان الذين معه..إنّ مشكلة باحثي الاجتماع أنهم تعودوا استخدام العدسات المكبرة والانكباب على جزء صغير من اللوحة ليكشفوا معالمه فيندمجون فيه حتى إذا امتد بهم الزمن تكلموا عن ذلك الجزء على أنه اللوحة كلها ونسوا بأن عليهم الابتعاد قليلا ورفع العدسات قبل إبداء أي رأي لأن ما سيتكلمون عنه لن يمثل الفن الذي أبدعه صاحب اللوحة بل الفن الذي خلقته عدساتهم هم..نعم، إن المشكلة هي أنّ القوم لا يريدون أن ينظروا إلى التاريخ بأبعاده الحقيقية !
وليس أحد أبعد في الحمق من أناس يتناولون مسألة الشذوذ الجنسي في مجتمع تفصله عنهم مئات السنين فيستنبطون فيها آراء جديدة وجريئة –كما يزعمون– لم يذكرها التاريخ ولم تشر إليها الرواية على اتساعها، مفادها أن ورود كلمة اللواط أو ما يوحي إليها في شعر أبي نواس وبعض الشعراء في ذلك العصر يدل على أن الظاهرة كانت منتشرة في المجتمع العربي آنذاك..لكننا تعودنا من القوم إصدار الأحكام العامة اعتمادا على أدلة ظرفية خاصة كما تعودنا منهم هذه الجرأة في الخطأ، وإنا –إن شاء الله– لموفـّوهم نصيبهم من الردع والإفحام والتبكيت غيرَ منقوص.
تعود ظاهرة اللواط عموما إلى طغيان الشهوة مع ارتكاس الطبيعة وتلوث العقل بخيالات الجنس المجرد الذي لا يأبه بعـُرف ولا دين ولا منطق..ونحن إذا تتبعنا أصل هذا الانقلاب في الميل الطبيعي نحو الجنس الآخر وجدنا أدلة كثيرة تدعم ما ذهبنا إليه..ولنبدأ بأول مجتمع تفشت فيه هذه الظاهرة وهم قوم لوط..إذ تذكر الروايات أنهم لما كانوا مهيئين بطبيعتهم لهذا النوع من الانقلاب ولم تشبعهم ممارسة الجنس مع نسائهم حتى بدؤوا يطلبون المتعة بتغيير أوضاع العلاقة الحميمية وجعلوا يأتون النساء في محاشهن (أدبارهن).. لكنّ تلك الممارسات لم تلجم شغفهم الجنسي بل مدته بالمزيد من الخيالات والصور المتوهمة التي أغرتهم بالبحث عن المتعة أينما وجدت وكيفما اتفقت..وكأنّ نفوسهم أصبحت كالأحواض المتصدعة يـُسكب فيها الماء فلا يلبث حتى يتسرب من خلال الصدوع وتعود الأحواض فارغة تطلب المزيد..ومثل هذه الصدوع في الطبيعة البشرية قد تحولها إلى كائن متطلب دوما، يكاد لا يحفل بالمتعة نفسها بقدر يحفل بطلبها والسعي إليها..فتوجهوا نحو غلمانهم لما رأوا فيهم ما يحفز هاجسهم الجنسي من شبه الأرداف والبياض والبضاضة بتلك التي عند النساء..ثم انحطت بهم الحال إلى درك أسفل من ذلك فاتجهوا نحو الرجال يطلبون شهوتهم فيهم وكأنّ الجنس عندهم قد تحول إلى ميل شهواني أعمى يمتزج بالعدوانية ويـُغري بالاغتصاب..وطال عليهم الأمد فتحول هذا الشذوذ إلى تقليد مجتمعي وعُرف منتشر بينهم وتعطلت عقولهم حتى كانوا يقطعون السبيل على القوافل بحثا عن الذكور لإفراغ شهوتهم..يقول الزمخشري عند تفسير الآية في سورة الأعراف ]أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون[: (أي لا حامل عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر ولا ذمّ أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل ألبتة كطلب النسل ونحوه)..فأنت ترى أن تفشي هذه الظاهرة أفضى بالقوم إلى منعطفات سلوكية خطيرة لا يقوم معها أي اجتماع، وهم في ذلك صاروا أضل من الأنعام التي لا تنقلب فيها هذه الطبيعة إلا عند طول الحبس عن الشهوة وانعدام الشريك الآخر..وتكاد كلمة (مسرفون) توفي بكل ما قلناه في أصل هذا السلوك الشاذ من التوسع والمبالغة في طلب المتعة.
ومن المضحك أن الدكتور علي الوردي في بعض مقالات (أسطورة الأدب الرفيع) يستنتج بطريقة أهل الاجتماع الغريبة أن شيوع اللواط في المجتمع العربي المسلم يرتبط بظهور وتمكن الحجاب عند النساء المسلمات وأنه (من الممكن القول أن الشذوذ الجنسي يزداد بين الناس بازدياد الحجاب فيه، وهذه حقيقة اجتماعية)..ولا أدري من أين استقى إحصائياته إذا كانت المجتمعات المتدينة لا تتوفر فيها مراكز متابعة ودراسة لهذا الشأن..لكننا لم نسمع يوما في تلك المجتمعات إلا نادرا جدا عن إقامة الحد على شخص اتـُهم باللواط، فهل هذا لأنّ تلك المجتمعات باتت تتكتم على هذه الفاحشة وتتساهل في حدودها أم لأن هذه الفاحشة نادرة هناك –بخلاف ما يزعم الوردي وجماعته–؟..وهذه طالبان التي تتهم بقسوتها وتشددها في إقامة الحدود وفرض الحجاب الكلي على النساء ومنعهن الخروجَ من البيوت إلا للضرورة، وعلى مدى سنوات عديدة حكمت فيها أفغانستان، لم نجد ولم نسمع حالة واحدة من إقامة حد اللواط على أي أفغاني، مع حرص الإعلام الغربي على تتبع أحوال الإمارة الإسلامية وتصوير إقامة حدود القتل في غير هذه المسألة وبثها للعالم من قبل الإطاحة بها ومن بعد..ولو كان هناك تكتم على الأمر لكشفته قوات الحلف الأطلسي بعد احتلال أفغانستان..فالإحصاءات التي يزعم الوردي أنها تؤكد شيوع اللواط في المجتمعات المتدينة لا وجود لها إلا في ظنه وهاجسه وهي منقولة عن المفكرين الغربيين من غير تمحيص ولا تمييز..لكنني لن أناقش في مسألة الإحصائيات الآن وسأركز الكلام في الطرح القائم على ربط ظهور اللواط في المجتمع العربي بشيوع الحجاب فيه، والذي جعل منه الدكتور حقيقة اجتماعية.
يدعم الدكتور وردي رأيه بأن العرب في الجاهلية وصدر الإسلام كانوا لا يعرفون من الشذوذ الجنسي إلا قليلا (فقد كانت المرأة حين ذلك سافرة تختلط بالرجال...ثم بدأت تتحجب شيئا فشيئا وتنفصل عن عالم الرجال)..وهذا القول عندي هو من الدليل على ضعف هؤلاء الاجتماعيين في تتبع التاريخ وشغفهم بالاستنتاج قبل الاطلاع وبالتقرير قبل التحرير..وإلا فإنّ التاريخ الإسلامي في صدره الأول يرصدُ حالات ليست بالقليلة لهذه الظاهرة التي لا يكاد أي مجتمع يخلو تماما منها..وقد روي عن أبي بكر –أول الخلفاء الراشدين والأقرب إلى العهد النبوي– أنه أ ُتي بلوطي فعرقب عليه حائطا (أي هدمه عليه) وفي رواية أخرى أن خالد بن الوليد كتب إليه في قوم لاطوا فأمر بإحراقهم، وعن علي بن أبي طالب أنه أ ُتي بلوطي فأصعد المئذنة ثم رمي منكسا على رأسه، وعنه أنه رجم لوطيا وقال (لعن رسول الله "ص" الذكرين يلعب أحدهما بالآخر)، كما يتحدث التاريخ أن هشام بن عبد الملك أحرق جماعة منهم. فإذا عرفنا اقتصار حدود المجتمع العربي في تلك العهود على جزء من الجزيرة العربية قبل توسعه وانتشاره في أقطار الأرض عبر الفتوحات، علمنا أنه لا يسوغ وصف تلك الحالات بالقليلة..وربما اطمأن الاجتماعيون إلى أن الناس لن يرووا شيئا يُلحق فاحشة اللواط بتلك العهود فأقاموا نظريتهم هذه على الظن والحدس، ولو أنهم قرؤوا التاريخ جيدا لم يستعجلوا الحكم. وإني بعدُ لستُ أضحك على شيء كما أضحك على إنسان تبدو الجدّية في وجهه وهو يستخدم الفأس ويريدُ أن يستكمل قطع غصن شجرة كبيرة من أصله بينما هو يقف على طرف الغصن !
إنّ ظهور اللواط في عصر الإسلام الأول وتواتر حكم أولي الأمر بالاتفاق على الحرق أو الرجم بحق مرتكبيه يدحض العلاقة المفترضة بين الشذوذ والحجاب، كما يثبتُ أن ظاهرة الشذوذ لم تكن غريبة عن الناس في ذلك الوقت لكنها ظلت محدودة في حالات قليلة ومتفرقة لا يمكن من خلالها الحكم بتفشي الشذوذ في ذلك العهد، وهكذا بقي الحال في العهود اللاحقة..ومع أن الاجتماعيين لا يملكون إحصائيات تثبت صحة نظريتهم تجاه المجتمعات المتدينة في أيامنا، فإنهم يرمون المجتمع العربي أيام العباسيين بشيوع الشذوذ فيه من وراء أكثر من اثني عشر قرنا من الزمان دون دليل أو برهان أو كشف بالإحصائيات..ولنستجلب الآن شاهد عيان من تلك العهود ليرد على القوم ويروي لنا الحكاية كما هي..يقول الجاحظ في بعض رسائله وهو يشنع على اللاطة فعلهم ويستهجن من منظـّري اللواط موقفهم: (ولو أنا رأينا رجلا في سوق من أسواق المسلمين يقبّل امرأة فسألناه عن ذلك فقال: امرأتي وسألوها فقالت: زوجي، لدرأنا عنهما الحد لأن هذا حكم الإسلام. ولو أنا رأيناه يقبّل غلاما لأدبناه وحبسناه لأن الحكم في هذا غير الحكم في ذاك)..فهذا نص تاريخي موثوق ومنتشر في أعراض الكتب يبين حال المجتمع العربي في العصر العباسي وخلال القرن الثاني والثالث الهجري تحديدا وهي العصور المتهمة بشيوع الشذوذ فيها من قبل القوم..فمن نصدق؟ الجاحظ الذي عاش هناك ورأى وسمع ودوّن أم الوردي الذي نظر في كتب المستشرقين فقلد وظن وهجس؟..إن فيما أورده الجاحظ دليلا قاطعا على تنزه المجتمع الإسلامي حتى ذلك الوقت واستنكافه من ممارسة تلك الفاحشة وأن مجرد تقبيل غلام كان يقتضي التأديب والتعزير فضلا عن التلبس بجرم اللواط أو الاشتباه فيه فضلا عن شيوع هذا الفعل بين الناس.
ومما يدفع نظرية تأثير فرض الحجاب على النساء في انتشار الشذوذ أن قوم لوط أنفسهم لم يكونوا ممنوعين من النساء أو شهوة النكاح ولم ترد الروايات بأن نساءهم كنّ متحجبات، لكنّ سرفهم في ابتغاء المتعة صرفهم عن النساء إلى ما وراء ذلك..حتى إنّ لوطا (ع) لما دخل عليه الملائكة المكلفين بإنزال العذاب، وكانوا على هيئة رجال بيض الوجوه حسني الثياب عليهم من الوسامة ما عليهم، وجاءه قومه يُهرعون إليه آملين أن يخلي بينهم وبين ضيوفه– عرض على قومه بناته كي يتزوجوا بهنّ (وقيل بل عنى نساء المؤمنين فسماهن بناته) فرفضوا وقالوا له (إنك تعلم ما نريد)..فهذه القصة التي يجلوها القرآن لنا تصور بدقة الطبيعة المضطربة لهؤلاء القوم وكيف أنهم عدلوا عن كل متع الجنس المتوفرة لديهم وحادوا إلى شهوة معكوسة منكوسة لا تروي نهمهم بل تزيده اشتعالا، كما تصف لنا الحال التي وصلوا إليها من الهوس والرغبة في الاغتصاب ولو بضيوف حلوا عليهم.
ومن غريب التناقض عند الاجتماعيين أنهم يُرجعون شيوع الشذوذ الجنسي إلى طول الكبت الناتج عن عزل النساء وحجابهنّ، ثم يعودون ليتهموا ذلك العصر بكثرة الجواري والوصيفات والخادمات وغيرهنّ حتى يتقولوا على بعض الخلفاء أنه كان يملك آلاف الجواري قد وطئهنّ كلهنّ (ولسنا هنا لمناقشة ظاهرة الجواري فليس هذا موضعها)..وهم محقون في الأمر الأخير فقد جلبت الفتوحات أعدادا هائلة من الجواري وأصبح لهنّ سوق رائجة في ذلك العصر حتى لم يعد امتلاك جارية أو أكثر أمرا ذا بال على الأسر المتوسطة الحال، بل أصبح الشاعر يأتي الأمير أو الوالي فيمدحه فيأمر له بعطاء ومعه جارية أو خادم..وباختصار فإن متعة النساء قد تحصّـل عليها أكثر الرجال حينذاك، فكيف ينتشر الشذوذ ولم يكن هناك كبت ألبتة؟ وما تأثير الحجاب على وجه المرأة إذا نال الرجل وطره مما تحت الحجاب؟ ثم كيف يفسر الاجتماعيون شيوع اللواط في المجتمعات الغربية اليوم وليس هناك حجاب ولا عتاب؟ لقد تحررت المرأة الغربية وحازت الإذن في الخروج والدخول مع من أرادت وخلعت ما شاءت من ثيابها وأبدع مصممو الملابس هناك في صناعة الثياب الفاضحة حتى لم يعد عندهم ما يضيفونه أو يخترعونه.. ومع هذا، وفي ظاهرة موازية، شاع اللواط فيهم حتى نشأت أندية خاصة بهم ونقابات ترعى شؤونهم وممثلون يوصلون أصواتهم إلى الحكومة، وحتى ترشح أحد المثليين في انتخابات الكونغرس الأمريكي في سبيعينيات القرن الماضي وقاد حملة دعائية احتشد خلالها المئات من (أنصاره) وكاد يفوز لولا أنه قـُتل بعد مدة..على أنهم تمكنوا مؤخرا من الحصول على (حقوقهم) حيث شـُرّعت قوانين في بعض الولايات تسمح بزواج المثليين وتعترف به كزواج رسمي في محاكمها..وهذه الشاشات الغربية اليوم لا تستحيي من إجراء لقاءات مع بعض هؤلاء وتكتب عنوانه على الشاشة: اللوطي فلان.... فأين (النظرية الوردية) وكيف يمكن تفسير هذه الظواهر بموجبها؟
على أنّني لا أنكر أنّ لعامل الكبت الجنسي الناتج عن طول الحرمان والعزلة تأثيرا في ظهور ممارسات جنسية شاذة منها اللواط ضمن مجموعات مجتمعية بعينها، كالمعسكرات والأديرة والسجون..ويخبرنا الجاحظ بطريقته التفسيرية الرائعة عن سبب ظهور الشذوذ الجنسي في ناحية الخراسانيين فيقول: (والسبب الذي أشاعه فيهم كثرة خروجهم في البعوث الحربية، وكانوا لا يستطيعون إخراج النساء والجواري معهم، ولم يكن لهم بد من غلمان تهيئ مؤونتهم، فلما طال مكث الغلام مع صاحبه في الليل والنهار وفي حالة التبذل والتكشف، وكانت الغـُلمة تهيج بهم، شغفوا بغلمانهم)..وهذا لعمري هو الاستقراء الموضوعي الصحيح الذي لا مزيد عليه..وأما الأديرة فقد لزم الرهبان أنفسهم بما عسى ألا يحتمله بعضهم فيلجأون إلى إفراغ شهوتهم مع بعضهم أو مع غلمانهم، وأحدث دليل على ذلك ما كشفته الكنيسة الكاثوليكية في أميركا وأوربا من انتهاكات جنسية بحق الأطفال من قبل بعض القسيسين التابعين لها..وأما السجون فمعروف أنّ طول المقام والعزلة عن النساء قد يفضي إلى ممارسة اللواط بشكل أوسع مما هو عليه خارج السجون وغالبا ما يأتي الشذوذ هناك بشكل تحرش أو اغتصاب أو كإجراء انتقامي أو لإثبات الرئاسة والسيطرة. على أن كل مظاهر الشذوذ هذه لا يتورط فيها عادة إلا من كان مهيأ بطبيعته لها ولم يمتلك رادعا من عقل أو خلق أو دين.
وأمر آخر تجدر الإشارة إليه وهو أن العلماء والفصحاء والاجتماعيين والمؤرخين العرب لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى شيوع الشذوذ الجنسي في المجتمع العربي على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم وعلى مدى أكثر من ألف ومئتي سنة من العصور المتلاحقة، ومع تفطنهم إلى مظاهر اجتماعية مختلفة وتناولهم قضايا الحجاب والخمور والقيان (المغنيات) والزنا إضافة إلى اللواط..لم يشيروا إلى ذلك وهم الذين عايشوا الواقع ورأوا وسمعوا ثم يأتي أدعياء الاجتماع والتاريخ في عصرنا ليستخرجوا نظريتهم المضحكة من أعراض الكتب والدواوين !
وينطبق ما قلناه عن الشذوذ الجنسي ومحدوديته ضمن مجتمعات مصغرة ومعزولة وبنمط لا يمكن معه تعميم الظاهرة على المجتمع العربي بأسره –ينطبق على مسألة تناول الخمور وظهور الحانات، فالأمر كان مقصورا أيضا على فئات بذاتها من المتهتكين والمـُجـّان الذين أدمنوا الخمر وكان ظهورهم انعكاسا للتغير الذي طرأ على حال الدولة الإسلامية في العصر العباسي واندماجها مع الحضارات الأخرى ونشوء جو من الانفتاح والتحرر لكنها ظلت محصورة ومقيدة بحدود العرف والدين والأخلاق ولم تنتشر أو تشيع كما يتوهم الاجتماعيون. أما الحانات فكانت تقام عادة في مناطق نائية عن العمران وداخل بساتين محاطة بالنباتات والأشجار الكثيرة والملتفة للتمويه على الناظرين والهروب من رقابة الدولة، ومن الحانات المشهورة بين المـُجان في ذلك العصر تلك التي في قـُطربّل وطيزناباذ (وهي منطقة تقع بين الكوفة والقادسية) والحيرة ومناطق أخرى قرب بابل، فإن وجدت داخل المدن فعلى ضفاف الأنهار وبشكل مخفي ومستور. والدليل على ما نقول نجده في شعر أبي نؤاس حيث تكرر ذكر تلك الحانات ووصف الطريق الوعرة المؤدية إليها بصحبة زمرة السوء في جنح الليل بعيدا عن أعين الرقباء، كما نجد وصف حال الخمـّار وكيف شعر بالذعر والفزع لما طرقوا الباب عليه وأنه لم يفتح لهم إلا بعد التأكد من هويتهم، ثم يفتح لهم بحذر ويتأمل في وجوههم خوفا أن يكونوا من الشرطة أو العسس..مما يدلّ على شدة المتابعة والتضييق من قبل الدولة حينذاك على هذه الحانات والرفض العام تجاهها. ولما كان التضييق يصل إلى درجات بعيدة كان النواسي وأمثاله يتجهون إلى الأديرة والبيع القديمة التي أصبحت في قسم منها ملاجئ لبياعي الخمور وأمكنة للشرب والطرب..أما الخمارون أنفسهم فكانوا في غالبيتهم الغالبة من الفرس المجوس أو النصارى أو اليهود الذين ترجع أصولهم إلى تلك المناطق وكانوا معروفين ببيع الخمور قبل الفتح الإسلامي، وهذا نراه أيضا في شعر النواسي كثيرا كوصفه ذاك الخمار اليهودي وحرصه على الخمر المعتقة لديه واقتضاءه النقود قبل بذلها، وتلك الخمـّارة النصرانية وذاك الساقي الظريف وتلك الجارية النصرانية اللعوب وغيرها من الشخصيات الكثيرة..وهو من الدليل على أنّ هذه التجارة كانت مقتصرة على أهل الذمة ولم يشترك فيها المسلمون إلا بالنواسي وأمثاله –وهم قلة قليلة– الذين أدمنوا معاقرة الخمر وتشربت بها دماؤهم حتى يكاد أحدهم يتروح الخمر من بعد أميال...فأين هذا كله من زعم الاجتماعيين بشيوع الخمور وشربها في المجتمع العربي العباسي؟
أرى أني قد استفرغت متن مقالتي في تبرئة المجتمع العربي ونسيت موكلي المسكين..وكأني به قد سئم من طول الجلسة وهاهو ينظر يمنة ويسرة ليجد من يتحدث إليه، وقد جمدت عيناه على حاجب المحكمة الوسيم...فلأتدارك الموقف وأطلب تمديد فترة الدفاع إلى جلسة أخرى ريثما يتم تحضير الأدلة المضادة لأدلة المدعي العام بعد مراجعة الملف الأرشيفي الخاص بالمتهم والمحفوظ باسم (ديوان أبي نؤاس).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المثلية الجنسية
تحسين خليل ( 2011 / 3 / 11 - 15:06 )
السيد الكاتب المحترم , تحيتي لك . ان المثلية الجنسية وزنا المحارم والبدروفيل (الجنس مع الاطفال ) ما لم تكن في العقل او الجسد فانها تتواجد في نوعين من المجتمعات : المغلقة جدا والمفتوحة جدا . فالمعروف ان السعودية وايران وافغانستان وباكستان , وجميعها مجتمعات دينية , تكثر قيها المثلية الجنسية بين الذكور والاناث بصورة كبيرة , وطبعا بالاضافة الى المخدرات ,ان موضوع الزواج المثلي موجود في الخليج وافغانستان بمئات السنين قبل ان يوجد في الغرب قبل عدة سنوات . لماذا نبحث في كتب الوردي وننسى الغلمان المخلدون في الجنة؟ الا تعتقد ان ذلك هو سبب انتشار المثلية بكثرة في المجتمعات الاسلامية؟


2 - تحياتي
فاهم إيدام ( 2011 / 3 / 11 - 22:09 )
يريد الكاتب في هذه المقالة تبرأة المجتمعات الاسلامية مما يقرّره على أنه جريمة ورذيلة، وهي المثلية الجنسية التي لها أسبابها العلمية والاجتماعية، إذاً فالمقالة بالتأكيد ليست دراسة اجتماعية متخصّصه. حتّى أنه يستهزء بآراء علماء الاجتماع أصحاب الاختصاص

طبعاً هذا لايعني أن أهل الاختصاص لايُخطئون! لكنّ الحقيقة تقول أنهم لايكتبون إلاّ بعد تمحيص ولو اتّصفوا بالموضوعية فهم لايجاملون في الحقيقة دين أو أخلاق كما يفعل الكاتب

تقول إحدى الناشطات الخليجيات في هذا المجال في مقابلة بُثّت عن قريب أن دراسةٍ موثّقة أثبتت أنّ 26% من المجتمع السعودي من الذكور كان قد تعرّض في طفولته لأعتداء أو تحرّش جنسي من الاقارب أو أصدقاء العائلة أو المقرّبون مباشرةً للضحية، هذه النسبة غير موجودة في الغرب المتحرّر من خجل الحديث عن المسأله

وكنّا في الجيش العراقي ـ والجيوش صنوف كالمشاة والدروع والمدفعية ـ نتندّر على الحرس الجمهوري فنقول إن الحرس صنفان لائط ومليوط

ويعترف الكاتب أن الحالة في السجون واضحة، لكن يبدو أنه لايعلم أن الدول والمجتمعات الدينية بدورها سجون أيضاً

وشكراً

اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد