الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت المدن

عبد الفتاح المطلبي

2011 / 3 / 13
المجتمع المدني


موت المدن
عبد الفتاح المطلبي
تتماهى كينونة المدينة مع كينونة الكائن العضوي لدرجة كبيرة ، ممثلا ذلك بالتشابه الكبير بين عمليات نمو النسيج المديني و النسيج العضوي ، فكما يبدأ نمو النسيج العضوي بخلية واحدة تبدأ المدن بالتكون و النشوء من بناية واحده يتم إنشاءها و لو تقصينا بدايات نشوء أغلب المدن في العالم لوجدنا إن ذلك ينطبق عليها بشكل كبير في حالات النشوء الطبيعي للمدن و يستثنى من ذلك تلك المدن التي يخطط لها مسبقا و يتم إنشاءها بدأ من القاعدة إلى القمة تحت رعاية برنامج بناء متكامل و لكنها لا تشذ عن مسألة التماهي مع نمو النسيج العضوي بل يشملها ذلك بتسارع بنائي أكبر من تلك التي تنمو بشكل طبيعي و على مهل و هكذا عندما يُعمد لبناء وحدة أخرى من الوحدات المدينية يكون ذلك ابتداء بمناقشة المسألة العلاقية بينها و بين الوحدة المدينية الأقدم من أبعاد و اصطفاف جمالي و مقتربات مشتركة و ميزات تشاركية تؤدي الى جعل الحياة أكثر سهولة من الناحية العملية و الأغراضية ،و لو ألقينا نظرة سريعة على النمو النسيجي العضوي و ذلك يعرفه المتخصصون بالإحيائيات نجد أن الخلايا الحيه الطبيعية التي تشكل مثابة الوحدات في الكيان العضوي تنمو بتوافقات إحيائية مذهلة مراعية الترابطات التشاركية مع الوحدات الأخرى في النسيج الخلوي منتجة منطقة صالحة للتقدم و استيعاب المتغيرات سواء كانت طارئة أو محسوبة ضمن البرنامج الوجودي للكائن الحي و مثل ذلك يجب أن تكون المسألة بالنسبة للبناء و النمو المديني لكي يكون الكائن المديني متمتعا بعافية تكوينية هادفة لتحقيق أقصى أهداف وجودها فلو القينا نظرة على تكوينات نسيج خلوي حي تحت المجهر لوجدنا أن الوحدات الخلوية في النسيج الحي تنبني على أسس غاية في الدقة و التراتيبية المحققة لأقصى أهداف وجوده الوظيفي و الجمالي بحيث تنسجم العلاقات التجاورية بين الوحداتمنتجة مكون غاية في الدقة بلا إفراط ولا تفريط .






أما في حالةتعرض هذا النسيج إلى عوامل الإنحلال و المرض فسيصاب بالتفسخ الذي سيهاجم وحداته البنائية مهدما جدرانها و مخربا علاقاتها الوجودية و مبعثرا لمكوناتها بشكل فوضوي غير مسيطر عليه منتجا فوضى عارمه و اندثارات لا حصر لها و هذه الإندثارات ستفرز بدورها كما هائلا من المخلفات التهديمية موسعة منطقة الخراب و الموت فيظهر النسيج المصاب فاقدا لكل تقنياته الوظيفية معلنا موت النسيج و اندثاره







و الأن لنناقش التشابه بين موت النسيج العضوي و موت النسيج المديني
إن بداية الأزمة التهديمية في النسيج العضوي الحي تنتج من جراء خلل حيوي بسيط كأن يكون التهابا بسيطا يفوق قدرة النسيج الدفاعية على ترميم الأضرار فإن لم يعمد لعلاجه سريعا و علاجا ناجعا سيتطور ذلك إلى مادة إلتهابية تطيح بما تصل إليه من بقية النسيج الحي ، أما في النسيج المديني فينتج ذلك بشكل أولي عن تجاوزات على المساحات المخصصة حسب إغراضها كأن تقتطع المناطق الخضراء و يتم تحويلها إلى أبنية عشوائية غير مخطط لها أو التجاوز على شارع سالك و إغلاقه مما يؤدي إلى تحويل جهده الخدماتي الى شارع مجاور لا يحتمل أعباء كثافة الإستخدام فيبدأ بالتهدم و الإنحلال منتجا شارعا رثا مليئا بالحفر و المطبات و التكسرات و سينتقل هذا الخلل إلى ما يجاوره من المباني و المنشئات و صولا ألى شيوع رثاثة السكان و البيئة عموما.


يقول المهندس الأمريكي الفنلندي الأصل أليل سارينين* إن عملية حياة المدن و موتها تتشابه كثيرا مع العملية العضوية إذ لابد للنبتة أن تكون ضعيفة حين تكون البذرة و التربة ضعيفتين ، فالبذرة هنا هي التكوين المعماري الأساسي للمدينة أما التربة فتتمثل بموقف الناس القاطنين فيها و نوع تفاعلهم مع بيئتهم المدنية و هذين العاملين يكونان مؤثرين و متأثرين أي بمعنى أن التصدع المديني الذي يسبق موت أي مدينه يكون نتاجا لتردي البنى المعمارية الأساسية و مواقف القاطنين من ذلك التردي الذين سيتأثرون بدورهم مستحيلين إلى سكان عشوائيين يكونون عرضة للتأثر المباشر بالتصدعات و الإندثارات المدينية منتجا ذلك صعوبات جمة في انسيابية الحياة و سهولتها .
في ما ورد أعلاه عرض موجز و مقارن في التشابه الكبير بين النمو العضوي و معاضله و بين النمو المديني و معاضله أيضا مشيرين إلى أن كلا الطبيعتين المدينية و العضوية يخضعان إلى نفس المنطق الطبيعي و قوانينه في البناء و الهدم، و من الجدير بالذكر إن التقدم المديني لم يبدأ في العالم الذي نطلق عليه صفة المتقدم الآن إلا بعد إن توقفت الحروب ، فالأمم التي توقفت عن الإحتراب و استهجنتها فيما بعد هالها ما رأت من مشاكل و معضلات ما بعد الحرب لذلك لم يجلسوا متفرجين بل باشروا بعلاج مايمكن علاجه دون تأخير أما الأمم المتقدمة التي تتبنى أيديولوجية الحرب فقد ارتأت أن تصنع حروبها خارج بلدانها و مدنها التي استمرت تحل معاضلها و مشاكلها المدينية لكن البلدان التي لا زالت ساحة للحروب و الصراعات فلا وقت لديها لحل المشاكل و المعضلات المدنية و هي مشغولة بحالة احتراب دائم تغذيه عجلة ما ، حرب قائمة بين البلد و أعدائه و بين أعداء البلد فيما بينهم على ساحة البلد ذاتهاو بين قاطني البلد أنفسهم باعتبارهم مشاريع صراعات صغيرة تشكل بمجموعها فوضى عارمه هادمة و تلك الأمور تعتبر الداء العضال الذي يفتك بأي نظام مديني و يؤدي الى موته ، ونحن في العراق بشكل عام و في العاصمة بغداد بوجه خاص نعاني من كل ما تقدم من الإختلالات في النظام المديني ، إن السياسه الميكافليه في الجانب المدني مع غياب القوانين المدنية الصارمه و الفاعله أدت إلى اختناق بغداد بمعاضل لا حصر لها بحجة الإرهاب و الوضع الإنتقالي و عدم الإستقرار السياسي مما سوغ خنق بغداد بملايين الكتل الكونكريتيه الجاثمة على شوارعها وغياب الإعمار و تبرير التجاوز و الهدم في جميع البنى المدينية بحجة الأوضاع السائدة و الفساد المالي و الوظيفي العارم و نمو ظاهرة الأدارة و الحكم من مناطق معزوله تماما عن المدن و محميه و كأنها في كوكب آخر كل ذلك عمل و سيعمل على موت المدينة التي هي الآن بدور الإحتضار إذا لم يسارع المجتمع المدني بالدعوة لأنقاذها فقد أصيب الجميع بالإحباط من الأداء الوظيفي للحكومات منذ ما يقارب الأربعين عام و لحد الآن، ويمكن إجمال الأعراض التي تنبيء باتجاه مدينة بغداد إلى مرحلة الإحتضار المديني بما يلي:
1-احتضار نهر دجلة الذي يمثل شريان حياتها من جراء الأسباب التالية
أ-امتناع الدولة التركية الجاره عن اعطاء حصة العراق المائيه كاملة وحسب القوانين الدولية
ب-إلقاء مخلفات بغداد من مياه ثقيله و مخلفات المستشفيات و المخلفات الصناعية و مياه البزول الزراعية في نهر دجلة.
ج- تفشي نمو نبتة زهرة النيل الكارثية في النهر مما أدى إلىتكوين عقد ترسبيه في النهر أدت الى ضحالته و عرقلة جريانه
2-غياب القوانين التي تحمي المناطق الخضراء حول بغدادو اندثار مصدات الرياح الشجريةو أحزمة الغابات الصناعية التي كانت موجودة في العقدين الأخيرين قبل التغيير
3-الإحتراب و الصراع الطائفي و العرقي
4- وجود القوات الأجنبية التي تستبيح أي منطقة ترتأي أن تكون منطقة لعملياتها العسكرية
5-تقطيع أوصال المدينة بالحواجز الكونكريتية و كثرة وزخم التواجد العسكري في المدينة مما جعلها أشبه بالمعسكر منها إلى مدينه و عاصمه
6-ندرة الصيانه وانعدام سن القوانين الراعية والحامية للبيئة المدينية وغياب منطق المسؤولية عن الهدم و التخريب و التجاوز على الشوارع و الطرقات و المنشئات العامه و سياسة الترقيع التي يمارسها الجهاز الوظيفي الفاسد، و هناك أسباب عديدة لامجال لذكرها في هذه العجالة التي كان الهدف منها التنبيه لما يحصل فقط.
وفي الآخر نتمنى على الجهات المختصة أن تدرك ما تعاني مدن العراق من عوامل اندثار و احتضارو البدء بالتفكير الجدي للمباشرة بوضع الحلول و إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وختاما يقول المهندس المعماري أليل سارينين( أرني مدينتك أخبرك من أنت و كيف تعيش)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن كتاب المدينه- أليل سارينين ترجمة المهندس المعماري محمود حمندي *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة الجنائية الدولية تدين زعيما مرتبطا بتنظيم القاعدة با


.. -العربية- في مخيمات النازحين الأيزيديين بالعراق.. موجات حارة




.. ما مدى خشية تل أبيب من إصدار المحكمة قرار باعتقال نتنياهو وغ


.. الجزء الثاني - أخبار الصباح | الأمم المتحدة تعلق مساعداتها إ




.. أطفال فلسطينيون يطلقون صرخات جوع في ظل اشتداد المجاعة شمال ق