الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمارين في الزهد

ابراهيم هيبة

2011 / 3 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ليس هناك ما هو أشد هلاكا للإنسان من امتلاكه لقلب ممتلئ؛ فالشخص الذي يواجه الحياة بأكثر من رغبة أو هوى واحد يعيش حياة دراماتيكية لا يعرفها من يملك قلبا شبه فارغ؛ إنه شخص يرى بأكثر من عين ويحس بأكثر من إحساس، لذلك تجده لا يكوِّن أبداً رؤية منسجمة بخصوص طبيعة الوجود. لكن يجب أن نشير بأن تعدد الأهواء والميول هو ما يصنع بالفعل نسيج الوجود؛ فبمجرد ما نعلّق أهواءنا ورغباتنا يتفكك هذا النسيج، ونجد أنفسنا نسكن عالما قوامه العطالة المطلقة والزمن البطيء.
نقرأ في فلسفة الفيدانتا بأن " اللاّتمايز هو الحالة الطبيعية للروح." والحق أن الإنسان الراغب يرى الوجود في كل مكان؛ لكنه بمجرد ما يُعطِّل رغباته حتى يبدأ في قياس الزيف والكذب الذي يدخل في تركيبة كل ظاهرة على حدة. تعطيل المرء لأهوائه وميوله يُوفِّر عنه صخب العالم بكل أضوائه وألوانه، ويمكِّنه من معاينة الوجود على نحو لا تفضيل فيه ولا تمييز. إنّ تنوع العالم وفورانه لا يحصل إلا عندما نطلق العنان لخيالتنا وأهوائنا؛ أما عندما نُخضع الجسد لإجراءات الزهد والتقشف، والعقل لاستراتيجيات التأمل والتفكر، فإن عالم التنوع ينهار وتنهار معه كل الأوهام والأخْيلة.
"ليعمل من يسعى إلى النيرفانا على أن لا يتشبث بأي شيء." هذا ما نقرأه في أحد النصوص البوذية. والحق أن كل مشكلة الإنسان مع الوجود هي في عمقها مشكلة تشبث؛ فما دام المرء يتعلق بهذا العالم سيبقى دائما تحت رحمة تحولاته وتقلباته. فهذا الإنسان، مثلا، يعتبر الجسد شيئا جيدا لكنه لا يرى طابعه الفاني؛ كما أنه يحب المال والجمال، ولكنه غالبا ما يتناسى بأنهما من الأمور العابرة. لذلك، على كل إنسان يطلب الهدوء وسكينة النفس أن يقطع، قدر ما يستطيع، كل الروابط التي تجمعه بهذا العالم؛ تقول حكمة برهمانية بأنه " في كل مرة يخلق المرء فيها رابطا جديدا، يكون ذالك بمثابة ألم مضاف يضغط به كمسمار على قلبه."
ولكي يقطع المرء روابطه مع العالم ويدفع عنه كل تأثيراتها الضارة، يجب عليه أن يقوم، بين الحين والآخر، ببعض التمارين الزهدية: أولاً، يجب عليه أن يضع دائما وعيه في حالة تأمل؛ فهذا الأخير هو حالة اليقظة بالنسبة للوعي. فبفضل التأمل يتمكن المرء من الإنصات إلى الإيقاع الحقيقي للكون والذي ليس شيئا آخر سوى الصمت المطلق؛ أما ما نلمسه من ضروب الضوضاء والبلبلة في حياتنا اليومية فإنها لا تملك أي وجود مستقل ـ إنها مجرد انعكاسات لوعينا المضطرب. ثانيا، على المرء أن يستحضر دائما في ذهنه فكرة عراء الذات ـ أي أن لا يرى في وجهه وجلده إلا ملابس مؤقتة تستر بناءا مرعبا اسمه الهيكل العظمي. ثالثا وأخيرا، يجب عليه أن يتجرد ـ ولو من حين لآخرـ من أناه وأن ينظر إليها دائما كما ينظر إلى الغرباء من الناس. أما إذا كان المرء لا يستطيع أن ينظر إلى ذاته من خارج، ولا يستطيع أيضا أن يرى في موتها نهاية عادية كنهاية أي دودة أو ذبابة، فليعلم بأنه لازال حبيس أناه التي هي أكبر مولِّد للوهم والكذب.
المتعة وهم، والانغماس فيها وهم مزدوج. والرجل الحكيم يضع دائما مسافة أمان بينه وبين متع الحياة. ذات مرة سأل الملك ميناندر الزاهد ناكاسينا عن الفرق بين الإنسان الذي لا شغفه له والإنسان الشغوف، فأجاب الزاهد قائلا: "الإنسان الشغوف، أيها الملك، عندما يأكل، يتذوق اللذة وشغف اللذة؛ الإنسان الذي لا شغف له يتذوق اللذة، لكن بدون شغف." إذًا، فالخطأ الذي يمكن أن يقع فيه كل متصيد للمتعة هو أن يسلِّم نفسه بالكامل إليها؛ ونحن تعلمنا من تجارب الحياة بأن المرء لا يضمن حريته إلا عندما يكون في استقلال تام عن الأشياء؛ أما الانسياق الأعمى وراء الأهواء فإنه يحجب عن المرء لاثبات الوجود، ويجعله يدفع الثمن غاليا لاعتماده عليه. على المرء أن يتذكر دائما بأن المتعة ما هي إلا انشراح عابر يقع بين ألم الشهوة وضجر الإشباع.
الزهد إستراتيجية وجودية لابد منها لكل من يريد أن ينقذ روحه من الضياع، ولكن كم واحد منا يستطيع أن يركب موجة الزهد؟ نحن دائما نقول بأن كل شيء فانِِ، ولكن لا أحد منا يتصور حجم التنازلات التي يجب أن يقدمها المرء لو أنه أراد أن يضع هذه المقولة موضع التطبيق. ثمة فرق كبير بين أن تؤمن بفكرة ما وأن تطبقها على أرض الواقع. الناس معجبون بالزهّاد، لكن لا أحد ينوي أن يسير على خطاهم؛ إن ما يخيفهم في الزهد هو طبيعته الجحيمية ـ إنه أشبه بعملية حرق للذات بكل رغباتها و أهوائها.
عندما كان بوذا يمر بمرحلة الزهد في رحلته للبحث عن الخلاص، أرسل له الشيطان مارا) (Mara ثلاثة من أجمل بناته، كل واحدة منهن تمثل إغواء لا يقاوم. البنت الأولى تجسد الشبق، و الثانية الجشع، والثالثة الاعتداد بالنفس. ولمّا لم تتمكن هؤلاء البنات من بوذا، أمطره مارا، في محاولة أخرى لثنيه عن عزمه، بوابل من الشكوك والمخاوف. وإذا كان هناك ما يمكن أن نستخلصه من هذا الإغواء الذي تعرض له بوذا، فهو أن الزهد مغامرة قاتلة تتحول على إثرها أبسط الأهواء إلى وحوش ضارية. وبقدر ما نتقدم في طريق الزهد، بقدر ما تزداد شراسة الجسد وضراوة المعركة التي نخوضها ضده؛ ماذا أقول، من السهل جدا على المرء الدخول إلى العالم، لكن من الصعب عليه، إن لم يكن من المستحيل، الخروج منه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب