الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية طه حسين وإشكالية الاستلاب الثقافي!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 3 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فيما لو أجملنا بصورة منطقية مجردة الحالة العامة للمثقفين العرب "الحديثين"، فان أغلبيتهم المطلقة تتراوح بين المزيف والمقلد. وليس مصادفة فيما يبدو أن يتحول طه حسين وسلامة موسى وأمثالهما الى "مرجعيات" للثقافة العقلانية والتنويرية والنقدية، رغم سطحية ما فيهما.
طبعا إن طه حسين أرقى وأنقى وأوسع وأعمق من سلامة موسى، لكنه مع ذلك لا يتعدى من وجهة نظر الحقيقة مستوى التقليد والاستلاب "الأكاديمي". وذلك لان إنتاجه الشخصي لا يتعدى في الواقع أكثر من جزيئات متناثرة في "ثقافة" تفتقد للحدود والمنظومة. الأمر الذي يفسر سر انتشاره الكبير وأثره الباقي في الثقافة العربية المعاصرة. وسبب ذلك يقوم في أن الفكر العربي الحديث والمعاصر يفتقد الى معنى وحقيقة المنظومة. وينطبق هذا بالقدر ذاته على مجمل الحياة العربية في مجال الدولة والمجتمع والعلم.
وضمن هذا السياق يمكن فهم طبيعة المفارقة الكبرى لشخصية طه حسين الثقافية وحصوله على لقب "عميد الأدب العربي" بينما كان يجسد من حيث المنهج والأسلوب نموذجا كلاسيكيا للاغتراب الثقافي.
إن إطلاق الألقاب والنعوت في الثقافة العربية الحديثة ظاهرة مثيرة للتشاؤم والسخرية بقدر واحد. بمعنى أنها تتميز بقدر هائل من الاستخفاف بالكلمة والمعنى. بحيث استسهلت توظيف كل كلمات القاموس العربي فيما يتعلق بالتضخيم والتبجيل لا لشيء إلا للتمتع بنحت ما يمكنه إن يكون أكثر فخامة وضخامة! من هنا انتشار كلمات العبقري والعظيم والجليل والكبير ويتيم دهره وما شابه ذلك على كل ما هب ودب في ميدان الكتابة. وتحولت الكتابة إلى مصدر الكاتب. وكانت هذه تكفي بحد ذاتها لكي تلصق بها كل ما تجود به النفس من ألقاب وإطناب. وهذه بمجموعها كانت أيضا موضوعا للتفاخر والاعتزاز والحذلقة "الأدبية". من هنا عبارات أمير الشعراء وسيد الأدباء وعبقري العباقرة وعظيم العظماء. وبما أن عدد الكتاب في ازدياد من هنا استغلال كل ما لم يستغل بعد. وضمن هذا السياق فيما يبدو جرى نحت لقب "عميد الأدب العربي". وليس المعروف مما إذا كان هذا النحت مأخوذا من العمدة أو العمادة أو العامود. وهذه أمور في الأغلب ليست بذي أهمية مازال وقع النعوت والأوصاف كاف بحد ذاته من حيث غرابته وأصالته أو استطرافه واستظرافه للسمع والأذواق!
ليست مهمة هذا المقال كسر أصنام النحت المفتعل في الألقاب والنعوت، بقدر ما تهدف إلى كسر أصنام الفكرة المزيفة بحد ذاتها. مع إن ذلك لا ينفي القيمة التاريخية والأدبية لطه حسين وموقعه الخاص في تاريخ الفكر العربي الحديث بشكل عام والأدبي منه بشكل خاص.
إن سبب الخلل الذي يجري الحديث عنه هنا يقوم أساسا في ضعف بل انعدام تقاليد التقييم الذاتية وأحكامها المناسبة في الفكر العربي الحديث. وهذا بدوره نتاج ضعف بل انعدام مدارسه الفكرية والعلمية الخاصة. وفيما لو أردنا إجمال طبيعة وخصوصية الضعف المشار إليه أعلاه وتطبيقه على شخصية طه حسين، فان سببه يقوم في هيمنة نفسية وذهنية الاغتراب الثقافي التي لازمت صيرورة نموه المعلوماتي. فقد كان طه حسين شخصية معلوماتية وليست معرفية. من هنا سعة انتشارها في العالم العربي الحديث والمعاصر، شأن كل هذا الكم الهائل والمشوه لما يسمى بالفكر التقدمي واليساري والثوري، الذي يجمع في ذاته دعوات بلا حدود ذاتية. فالتقدم مجرد مسار لا إلى غاية، واليسار عسر، والثورية عفوية مدوية، أي كل ما لم يرتبط ويتحدد بتلقائية المواجهة العقلانية والإنسانية الحقيقية لإشكاليات الوجود الفعلي للفرد والجماعة والمجتمع والأمة، أي لإشكاليات الحاضر والمستقبل بوصفها إشكاليات التاريخ الذاتي.
وسوف اتخذ من مقاله الذي قدم به لكتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، نموذجا للتدليل على الفرضية الموضوعة في أساس هذا المقال (وما يتبعه من مقالات أخرى).
نعثر في هذه المقدمة التي وضعها تحت عنوان (في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) على نموذج كلاسيكي للتأثر المستلب وغير النقدي في الموقف من التراث. إذ لا تتعدى هذه الرؤية "النقدية" في الواقع أكثر من كونها استلابا معرفيا وثقافيا لمستوى الاستعراب والاستشراق الأوربي آنذاك. فقد كان هذا المستوى في اغلب مكوناته المنهجية محكوما بالتجارب الأوربية في ميدان المعرفة النظرية والعملية. ونعثر على ذلك في الحكم، وليس الفرضية، التي ينطلق منه طه حسين في موقفه من البيان العربي. فهو ينطلق مما يدعو بالأثر الهيليني الهائل في الأدب العربي ومن ثم تكوين البيان العربي من خلال المعتزلة (وتأثرهم بالفلسفة). وأن هذا الأثر (في الأدب العربي) يبرز بوضوح في الأعاجم أو من ذوي أصول أعجمية(!!) (وتأثرهم باليونانية) مثل أبو تمام (كان من أصول نصرانية!) وغيّر اسمه واعتنق الإسلام وانتسب إلى قبيلة طي. وحاول التدليل على ذلك فيما اسماه باختلاف أبي تمام الواضح ليس في استعمال التشبيه والمجاز فحسب، بل وفي تصوره للشعر نفسه، وأهمية المعنى، ووحدة القصيدة، والاهتمام بالطبيعة، والميل للمعاني الفلسفية". وحالما تناول قضية البيان العربي، فانه نظر إليه من زاوية "معرفتهم" أو "جهلهم" بالتراث اليوناني (الأرسطي) وكثرة أو قلة استعمالهم للأمثلة اليونانية (التي جمعها أرسطو)(!). بل ونراه يتعدى ذلك الى تفعيل الدونية المبطنة من خلال التوكيد على أن قلة استعمال الأدباء العرب لأمثلة كتاب الخطابة لأرسطو متأتي من كونهم لم يفهموا هذه الأمثلة(!). واختتم هذه الأحكام بموقف يقول، أن علماء البيان العربي لجهلهم التام بنظم اليونان وآدابهم لم يستطيعوا فهم الأنواع الخطابية وما يتصل بها، ولا الشواهد التي استعملها أرسطو من غرر الأدب اليوناني.
إننا نقف هنا أمام صيغة نموذجية للخل المنهجي في رؤية التراث والتاريخ الثقافي القومي. فاليوناني المعاصر، بل واليوناني على امتداد آلاف السنين بعد اندثار المركزية الدولتية اليونانية، لم ينتج خطباء وأدباء كبار، مع انه يعرف تراثه اليوناني ويفهم الأنواع الخطابية اليونانية وغيرها. تماما كما أن العارف الكبير باللغة لا يمكنه أن يكون خطيبا أو شاعرا، ولا العارف بتاريخ الفلسفة فيلسوفا بالضرورة. إن قضية البيان، بما في ذلك من الناحية النظرية والفلسفية، هي أولا وقبل كل شيء مظهر وأسلوب من مظاهر وأساليب الحالة الثقافية. من هنا سخف الفكرة التي توصل إليها طه حسين في بحثه عن اثر الهيلينية في صيرورة وإبداع كل كاتب وأديب أو شاعر كبير في الثقافة العربية الإسلامية. إذ ليس هذا الموقف في الواقع سوى النتاج الملازم للرؤية المستلبة لمثقف مصر آنذاك وانبهاره "العقلي" الصغير بالتطور الأوربي المتزامن من صعود "الموجة الإغريقية" في فهم النفس والتراث والحاضر والمستقبل. وليس مصادفة على سبيل المثال ألا نرى الآن ولا نسمع من يتكلم عن ذلك بفعل اندثار الموجة اليونانية. وينطبق هذا على الشعر التمثيلي والملحمي بل والمسرح وما الى ذلك. بعبارة أخرى، ليس البحث في أبي تمام عن هيلينية (نصرانية) وفي عبد الحميد الكاتب وقبله ابن المقفع عن أصول فارسية (ومجوسية محتملة!) واحمد بن يوسف عن أصول قبطية (ونصرانية محتملة) سوى الصيغة "النقدية" المزيفة لولع الإثارة، وبالتالي الوجه الآخر لسخف أحكام الرؤية التقليدية المتشددة في بعض التيارات السلفية (الإسلامية القديمة) التي حاولت اتهام كل الشخصيات الحرة والنقدية باتهامات مثيلة، أي البحث عن أصول غير إسلامية أو غير عربية فيها! فالجامع بين هذه المواقف "النقدية" المتضادة هو وحدتها في خلل الرؤية المنهجية من حيث الجوهر، ونوعية العقائد من حيث العرض.
من هنا فان النقد الموجه هنا ضد آراء ومواقف وأحكام طه حسين سوف لن يتناول تحليل مضامينها، وذلك لأنها مجرد دعاوي جزئية ومفتعلة. وبالتالي فان تحليلها النقدي يفترض السير معها وموازاتها في الدحض والنفي على كل عبارة وتقييم وموقف وحكم من اجل الكشف أيضا عن ضعفها المعرفي. ولا طائل من وراء ذلك، لأنه في الأغلب مضيعة للوقت والجهد ولا يحتوي على أية قيمة منهجية. انه يحتوي دون شك على قيمة علمية، لكن قيمة العلم الضرورية بالنسبة لتأسيس المعرفة الحقيقة والثقافة الحية تفترض توجيه الرؤية صوب تأسيس الرؤية العلمية كما هي. والاهم من ذلك تأسيس الرؤية المنهجية السليمة.
لهذا سوف أركز هنا على البعد المنهجي فقط. لاسيما وانه جوهر القضية. وفيه تكمن أسباب الخلل في الرؤية "النقدية" لطه حسين بهذا الصد. فالأصول الشخصية والعائلية والعقائدية للمبدعين في كل مجال واختصاص عوامل مهمة، لكنها جزئية وعارضة، أو في أفضل الأحوال أنها مكون طبيعي من مكونات الوجود الطبيعي. بينما الإبداع هو ذروة الوجود "الاصطناعي" التاريخي لمنظومات الوجود الإنساني في مختلف ميادينه ومستوياته. وإذا كان أبو تمام نصراني الأصل قد اعتنق الإسلام، فانه أولا وقبل كل عربي المنشأ والثقافة. والفرق بينهما جوهري، هو الفرق بين الأصل والفرع، الجوهر والمظاهر، المكون الثقافي الفعلي وتأثير العقائد. إضافة الى أن الانتماء الطوعي (لأبي تمام الى عقيدة أخرى) يعكس أولا وقبل كل شيء إدراك أفضلية من يجري الانتماء إليه. ثم ما علاقة النصرانية باليونانية هنا. فالنصراني المتعرب (في حال كونه ليس من أصول عربية) هو عربي بفعل الطابع الثقافي للقومية العربية. فالقومية العربية ثقافية من حيث المنشأ وليست عرقية. إضافة لذلك أن النصرانية (كدين في عالم الخلافة آنذاك) لم تصنع ثقافة عقلية أو فلسفية. كما أن نصرانية تلك المرحلة (على النطاق الأوربي، أي جغرافية انتشارها آنذاك) كانت في عداء تام وغريزي للتراث اليوناني العقلي وجاهلة بما فيه وله. بعبارة أخرى، أن الحقيقة البسيطة والمباشرة والجلية واليقينية أيضا تقول، بان التأسيس الأدبي واللغوي والمعنوي (للأدباء والشعراء الذين ينتقيهم طه حسين) قد جرى بفعل العربية وتراثها وإشكالاتها وصراعها، أي أن ما جرى هو جزء من اثر الصيرورة التاريخية للثقافة العربية الإسلامية. وكل ما عداه هو مجرد أجزاء ومكونات وعناصر يمتلك كل منها قدرا من الضرورة بما في ذلك أشدها غرابة وطرافة وصدفة.
إن الحصيلة التي يمكن الوصول إليها بهذا الصدد تقوم في أن آراء ومواقف وأحكام وتقييمات طه حسين ليست في الواقع سوى الصيغة المقلوبة أو الوجه الآخر للاستلاب المعرفي والمنهجي والثقافي الذي ميز ما يسمى بنزعته النقدية. إذ لا نقدية فيها بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد يكون من الأدق القول، بأنها ومضات ومواقف اقرب ما تكون إلى لدغات إثارة بفعل تدني المستوى المعرفي والعلمي السائد آنذاك.
فالفكرة النقدية الكبرى هي التي تتجاوز منظومات الفكر إلى أخرى أكثر رفعة ودقة وتأسيسا. بينما لم تحتو كل كتابات طه حسين النقدية على شيء يتعدى حدود التطويع والتطبيق الجزئي لأجزاء المعرفة المتناثرة في الفكر الأوربي آنذاك، مع البقاء من حيث الجوهر ضمن الدهاليز العتيقة والعمل على نفض الغبار العالق على جدرانها. كما يمكننا أن نعثر فيها على الشخصية الباطنية أو المستبطنة لطه حسين نفسه، في استعماله النهم للأشياء التي "فهمها" من التراث الأوربي الحديث و"اليوناني" بشكل خاص، مع أن إلقاء نظرة سريعة إلى كل ما كتبه تكشف عن ضعف وسطحية استلهامه للتراث اليوناني بشكل عام والفلسفي بشكل خاص (وليس اليوناني فقط).
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نجم الأهلي السعودي فيرمينو يصبح قسا لكنيسة في مسقط رأسه بالب


.. سر وراء تحركات رئيس وزراء المجر لإنهاء حرب أوكرانيا




.. الذكاء الاصطناعي يورط منصات -ميتا-.. وفتح تحقيق في إسبانيا


.. نزول -المخبأ النووي- وكتابة رسائل -الملاذ الأخير-.. كواليس ا




.. أبرز التحديات في طريق رئيس وزراء بريطانيا الجديد