الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة طه حسين وبلاغة الثقافة العربية

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 3 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ان مفارقة شخصية طه حسين الغريبة تقوم في تحوله الى شخصية واسعة الانتشار والشهرة رغم ركاكة نتاجها الفكري النظري. وسوف اكشف عن طبيعة هذه المفارقة من خلال تناول قضية البلاغة كما فهمها طه حسين وكما حاول تطبيقها على شخصية الجاحظ والثقافة العربية ككل. وذلك لن الأحكام التي يطرحها طه حسين بصدد شخصية الجاحظ وتاريخ وماهية البيان العربي، تكشف عن احد النماذج الجلية بهذا الصدد. أنها تكشف عن نوعية الذهنية والمنهج بقدر واحد. وعموما أن الشخصية الكبيرة واحدة من حيث الجوهر، باستثناء مرحلة التراكم الأولية. وما أتناوله هنا هو نتاج مرحلة النضوج الكبرى عند طه حسين.
فقد توصل طه حسين في مجرى تأملات السريعة وأحكامه الجازمة عما دعاه بجهل الثقافة العربية الإسلامية لمضمون البيان والبلاغة والخطابة اليونانية كما بلورها أرسطو في كتابه (الخطابة). وان شخصية الجاحظ هي احد نماذج وعصارة هذه الجهل الذي جعلها تقول، بان "العرب أهل البيان". وقد كشفت في أكثر من مقال بهذا الصدد عن خلل هذا الحكم وسطحيته من الناحية الفكرية والنظرية والتاريخية والثقافية المتعلقة بفكرة "العرب أهل البيان" ومعناها الحقيقي كما بلورتها الثقافة العربية الإسلامية.
وسوف استكمل هنا توسيع وتعميق هذا النقد من خلال الكشف عن الأسس النظرية والفلسفية والثقافية القائمة وراء هذه الفكرة، بوصفها جزء من تطور ذهنية التصنيف الملازمة للمركزية الثقافية بشكل عام ومركزية الثقافة الكونية بشكل خاص، كما كان الحال بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية. إذ لم يكن ذلك بدوره لم يكن معزولا عن صيرورة الثقافة العربية الإسلامية وتنوع تجاربها بهذا الصدد.
ففي مجرى الجدل التاريخ الثقافي والفكري عن "الأمة" توصلت التجربة الدينية للإسلام عن الأمة في أحد نماذجها الرفيعة إلى فكرة وحدة الأديان. أما تجاربها الدنيوية فقد أوصلتها إلى إبداع نماذج عديدة عن الأمم شكلت مساهماتها العلمية معيارا لتحديد هويتها الحقيقية.
وفيما لو أجملنا حصيلة هذه التجارب النظرية (الدنيوية) في تحديد الأمم، فأننا سنعثر على خمسة أنماط كبرى، وضعت في صلب تقسيم الأمم على أساس جغرافي، وآخر إبداعي، وثالث ذهني، ورابع مذهبي، وخامس علمي – فلسفي.
إذ أدرجت في التقسيم الجغرافي نوعان، الأول مبني على أساس تقسيم العالم إلى أقاليم سبع الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن. أما التقسيم الثاني فقد وضعته بحسب الأقطار الأربع التي هي الشرق والغرب والشمال والجنوب الجوهري فيه إظهار ما أسموه باختلاف الطبائع وتباين الشرائع.
أما التصنيف الذي وضعوا فيه معيار "الإبداع المتميز"، (وهو التصنيف الذي ينبغي فهم عبارة "العرب أهل البيان" بوصفها فكرة كما دافع عنها الجاحظ) فقد انطلقوا فيه من تقرير حجم المشاركة الجدية للأمم الحضارية الكبرى آنذاك، في التاريخ الإنساني. لهذا قال البعض مثل ابن المقفع، بان كبار الأمم الأربعة هي العرب أهل الفصاحة والبيان، والعجم أهل السياسة والأدب، والروم أهل البناء والهندسة، والهند أهل العقل والسحر. وقد شاطر الجاحظ هذه الفكرة بإضافة أهل الصين إليها باعتبارهم أهل الأثاث والصنعة، وكذلك تقسيمه أهل الروم إلى قسمين الأول أهل يونان وهم العلماء، والروم أهل الصنائع. في حين اعتبر أبو حيان التوحيدي الفرس أهل السياسة والأدب والحدود والرسوم، والروم أهل العلم والحكمة، والهند أهل الفكر والروية والخفة والسحر، والترك أهل الشجاعة والإقدام، والزنج أهل الصبر والكد والفرح، والعرب أهل النجدة والوفاء والخطابة والبيان.
أما التقسيم حسب الحالة الذهنية فانه تضمن نوعان، الأول هو ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية" كالعرب والهنود، والثاني ذهنية أولئك الذين يتميزون "بتقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية" كالفرس والروم.
أما التقسيم حسب آراء الأمم ومذاهبه فمبني على أساس عقائدي مرتبط بدوره بوجود فرق (دينية) وأخرى غير دينية في نمط تفكيرها حول إشكالات الملكوت (ما وراء الطبيعة) والوجود الاجتماعي والأخلاقي، كما نراه عند الشهرستاني.
وأخيرا تقسيم الأمم حسب معيار ما إذا كانت أمة علمية أو غير علمية، كما نراه عد ابن صاعد الأندلسي في (طبقات الأمم). فقد انطلق الأندلسي من أن الأمم وان كانت نوعا واحدا في إنسانيتها إلا أنها تتمايز بثلاث أشياء وهي الأخلاق والصور واللغات. وان أهم الأمم الكبرى في التاريخ هي الفرس والكلدانيون (ومنهم السريانيون والبابليون ومنة هؤلاء العبرانيون والعرب) ثم اليونانيون(والروم والفرنجة والجلالقة ويتبعهم البرجان والصقالبة والروس والبرغر) ثم القبط (أهل مصر والسودان من الحبشة والنوبة) وأجناس الترك (الكيماك والخزر وجيلان وغيرهم) وأهل الهند وأهل الصين. والفرق الجوهري بينهم يقوم بمدى اهتمام كل منهم بالعلوم الفلسفية بالأخص. فالأمم العلمية ثمان وهي الهند والفرس والكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب. أما الأمم الأخرى فهي أمم لا تهتم بالعلم (الفلسفة بالأخص). فالصينيون، كما يقول الأندلسي، أكثر الأمم عددا وأفخمها ملكا وأوسعها دارا، وحظهم من المعرفة إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن التصورية. فهم أكثر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة التعب في تحسين الصنائع. والأتراك أمة كبيرة العدد وفضيلتهم التي برعوا فيها أحرزوا خصلتها معاناة الحروب ومعالجة آلاتها. ونفس الشيء يمكن قوله عن الأمم الأخرى(غير العلمية). وارجع الأندلسي سبب ذلك إلى عم استعمال هذه الأمم لأفكارهم في الحكمة، ولا راضوا أنفسهم تعليم الفلسفة. وبنى استنتاجه هذا على معايير ثلاث في تقييم الأمم، الأول هو أن تنال الأمة درجات النفس الناطقة والزهد بالنفس الغضبية، والثاني تعلمها وتعليمها للفلسفة، وثالثا موقع العلوم الطبيعية عندها.
مما سبق يتضح، بأن تعمق الرؤية التاريخية عن الأمم يتناسق مع تراكم العناصر الثقافية المتناغمة مع الوحدانية الإسلامية. إذ لا تعني الوحدانية الإسلامية من الناحية التاريخية والاجتماعية سوى وحدة النوع الإنساني ومثالها في الواحد(الله). أنها كالحقيقة واحدة بذاتها متنوعة بالصور والتجليات. والتنوع فضيلة في حال سعيه للخير العام وهي فكرة سبق وان بلورها القرآن في فكرة تقول: "إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا. إن أكرمكم عند الله اتقاكم". أي أن للتعددية منطقها الطبيعي والتاريخي، باعتبارها واقعا، ومنطقها الماوراطبيعي والمثالي، باعتبارها واجبا. وكل منهما يعكس مستوى من الإدراك لماهية الأمم، أحدهما ديني (الأمة الدينية) وآخر دنيوي (الأمة الحضارية).
لقد أدت منظومة المرجعيات الكبرى في الثقافة الإسلامية إلى نوعين من الرؤية متناسقتين عن نفسها والآخرين لا استعلاء فيهما ولا استكبار. حيث تجلتا بأسمى وجوههما في إقرارهما بتنوع الرؤية الثقافية ذاتها عن الآخرين. فجميع التقسيمات المذكورة أعلاه (الجغرافية والذهنية والإبداعية والمذهبية العقائدية) هي تقسيمات وتقييمات ثقافية. إذ لم تبحث الثقافة الإسلامية في التقسيم الجغرافي عن صفات جوهرية غير اثر الجغرافيا على الطبائع والأنفس(اللون واللسان) والشرائع (القوانين ونمط الحياة)، أي عن العناصر الطبيعية والعقلية لوجود الأمم. ذلك يعني أنها لم تبحث ولم تؤسس لعناصر اللاعقلانية في وجود الأمم. وحتى في حال اعترافها بوجود بعض منها، فإنها نظرت إليها باعتبارها نتاجا لضعف النفس الناطقة ولهيمنة النفس الغضبية. ومن ثم اعتبرتها صفات زائلة. وهي نظرة عقلانية وإنسانية في مساعيها وغاياتها.
حددت هذه الرؤية الانعتاق الحضاري للثقافة الإسلامية. فهي لم تقر بتنوع الحضارات فحسب، بل وأسست مواقفها من هذا التنوع على أساس تمايزهن بالفضائل. فعندما حاولت المطابقة، على سبيل المثال، بين حضارة الأمة وخصلة من خصالها مثل اليونان مع الفلسفة، والروم مع العمارة، والفرس مع السياسة، والعرب مع البيان، والصين مع الصناعة، والترك مع الحرب، والهند مع العقل والشعوذة، فأنها لم تسع في الواقع إلا لإظهار تمايزهم في الفضائل، لا بمعنى افتقادهم لغيرها من الفضائل. إنها حاولت إظهار فضائل الأمم من خلال تأكيد تنوعها، وبالتالي قيمتها بالنسبة للتاريخ الإنساني ككل. لهذا أكد أبو حيان التوحيدي على أن "لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل منها في صناعتها كمال وتقصير". وتعكس هذه الصيغة قبول الثقافة الإسلامية لإمكانية تعدد الأنواع وتنوع اجتهاداتها الثقافية في ظل انتمائها للكل الإسلامي. بمعنى إمكانية توليف "مميزات" وفضائل الأمم من فصاحة وبيان وأدب وسياسة وغيرها في كيانها الثقافي. وهي تعددية وانفتاح يتساويان مع إدراك جوهرية وقيمة الفضائل. لهذا لم تضع الثقافة الإسلامية نفسها وشعوبها فوق الآخرين ولا تحتهم، بل طالبت نفسها والآخرين بادراك وتجسيد القيم العقلانية – الأخلاقية للتكافؤ والمساواة.
إن إقرار الثقافة الإسلامية بتعدديتها (وتنوعها الداخلي) يعني أيضا إقرارها بالتعددية الخارجية. وبالتالي بإمكانية بناء حضارة إنسانية كبرى ذات ثقافات متنوعة. مما يعني احتواءها على معارضة القهر الثقافي و"الهيمنة القطبية" في الحضارات. إذ لا يستلزم تطور الحضارات وازدهارها بمعايير العقلانية – الأخلاقية صراعها واحترابها، بل تنافسها في الإنسانية. لان المعيار الحقيقي لها كما صاغته الثقافة الإسلامية في تقييمها "العلمي" للأمم، حسب عبارة الأندلسي، يقوم في "نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان والمقومة لطبعه، والزهد في أخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى البهيمية". إذ حتى للنفس الغضبية "نظمها ومدنها السياسية" كما يقول الأندلسي، إلا أنها نظم ومدن شبيهة بنظم ومدن النمل من حيث العدد والإتقان. ولكنها تبقى "مدنية النفس الغضبية والبهيمية" لا مدنية العقل الأخلاقي، الذي هو قوام "نوع الإنسان" أو حقيقته.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يسعى لتخطي صعوبات حملته الانتخابية بعد أدائه -الكارثي-


.. أوربان يجري محادثات مع بوتين بموسكو ندد بها واحتج عليها الات




.. القناةُ الثانيةَ عشْرةَ الإسرائيلية: أحد ضباط الوحدة 8200 أر


.. تعديلات حماس لتحريك المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي عبر الوسط




.. عبارات على جدران مركز ثقافي بريطاني في تونس تندد بالحرب الإس