الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلم وفرضية ألله

محمد لفته محل

2011 / 3 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


فرضية الله مسألة فلسفية قديمة أثير حولها جدل كثير من الماضي حتى الحاضر، ومع تطور العلم وازدهاره تضائل الحد الفاصل بين القضايا الفلسفية والعلمية فنظرية المعرفة والخير والشر والجمال الخ كانت قضايا فلسفية أصبحت فيما بعد من اختصاص العلم، كعلم النفس وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا، فسارع على إثرها الطرفان من المؤيدين للفرضية والمنكرين لها إلى الاستشهاد بالعلم، لإثبات براهينه وحججه، فخرج كل فريق منهم بنتائج يثبت فيها تأييد العلم لفريضته في نفس الوقت! وكأن العلم مع الفريقان! لكن ما هو موقف العلم الحقيقي منها؟ وهذا ما سأحاول إن ابحثه هنا.
إذا راجعنا ألأسس التي يعتمدها أتباع فرضية الله يمكن إيجازها أولا بالنظام المُحكم والدقيق في الطبيعة والكون، ثانيا مبدأ الغائية، ثالثا كعلة أولى.
لاشك أن النظام في الطبيعة مذهل وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها لكن هناك ظواهر كثيرة تخرق هذا النظام، فالحياة المذهلة على كوكب الأرض ممكن أن تنتهي لو تصادف واصطدم بها نيزك ضخم، وتاريخ الأرض والعلماء يؤكدون إن الأرض تعّرضت ولا زالت تتعرض لخطر الاصطدام بنيزك يدمرها أو يغير نظامها، والمادة في مستوياتها ما دون الذرية، لا تخضع للنظام ولا للسببية وإنما لمبدأ الاحتمال و اللاحتمية (the uncertainity principle)، وهذا الخرق يزداد أكثر إذا انتقلنا من الوجود المادي إلى الوجود الإنساني، فالتاريخ أشبه بغابة تتصارع فيها الحضارات حيث الحروب والاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي، صراع على السلطة والأرض والمال والمصالح، صراع طبقي، صراع أجيال، عصور ذهبية وعصور مظلمة، كوارث طبيعية وأمراض وفقر وظلم وقمع واستغلال واستعباد، رغم وجود كل القوانين والتشريعات المثالية، وقد فشلت كل المحاولات من الباحثين في إيجاد قوانين متفق عليها تحكم التاريخ والمجتمع. أما مبدأ الغائية فقد أثبتت نظرية التطور أن الكائنات الحية تتطور وفق الانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية وليس وفق أي غائية مسبقة أو عليا، واثبت العلم أيضا أزلية المادة في الكون، بالتالي انتفاء فرضية الله كعلة أولى.(1)
ومع تطور العلوم ألإنسانية أثبتت ألانثروبولوجيا الدينية أن فرضية الله هي مرحلة وسيطة في تاريخ الدين، نشأت عن عبادة ألأسلاف المبّجلين الذين ُقدسوا بعد وفاتهم،(2) وهذا ما يفسر لنا صفات الله الإنسانية كالغضب والرحمة والعدل والمكر والصدق أو تمنيات سوبر إنسانية كالمطلق والكامل والعليم والخالد وغيرها، وعلم التحليل النفسي توصل إلى (إن الله أب مصّعد) من خلال مشاعر الحب والخوف والضعف التي اكتسبها الإنسان في طفولته تجاه ألأب وعكسها على السماء، وكثير من الديانات تسمي الله صراحة بالأب خصوصا الديانات السياسية (اليهودية، المسيحية، المحمدية)(3)، كذلك إن فرضية الله ليست مبدأ أولي في بنية بعض الأديان كالبوذية والكونفشيوسية و الجائينية ديانات لا إله فيها، والحال كذلك مع كثير من الديانات البدائية المعاصرة، وديانات ما قبل التاريخ.
إن تأكيد أتباع فرضية الله على إن الله مثبت بذاته وعدم حاجته للإثبات هو دليل على حاجته للإثبات والتاريخ الفلسفي الطويل بين المؤيدين للفرضية والمنكرين لها شاهد على ذلك، وإن القداسة و التابو التي تحيط بهذه الفرضية دليل آخر على عجزها عن الإثبات، ويبّين التوظيف السياسي والأيديولوجي لها، فلو كانت مثبته لماذا أغلقت باب الحوار والجدل مع معارضيها بل أباحت قتلهم؟ أما التشبث بعدم تجسد وتشابه الله بأي صفة ما، فما هو إلا لإخفاء الأصل الإنساني لهذه الفرضية و الانثروبولوجيا الدينية والتحليل النفسي كما أشرت قد بينا الجذر البشري لها، ومع ذلك فان كل صفات الله كما تشير الأديان السياسية ذاتها هي صفات وتمنيات إنسانية مثالية. بل حتى مفهوم التوحيد جاء من أصل سياسي، فمؤسس أول ديانة توحيدية كان ملكا (اخناتون)، حيث قام بإغلاق المعابد الأخرى وتحطيم تماثيلها وتسريح الكهنة!(4)، لإضفاء الشرعية على وحدانيته بدون شريك له في الحكم كمحاكاة لنظام الكون! وقد رأى الفيلسوف (دايفيد هيوم) إن التوحيد هو نتاج للوحدة السياسية التي اكتسبها البشر بالخبرة،(5) ولاحظ الباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان (فراس السواح) إن (التحولات النوعية الطارئة على مفهوم السلطة وعلى أساليب ممارستها ضمن الجماعة، الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون).(6)
إن هذه الفرضية في الواقع العملي لها صورة مختلفة عن صورتها النظرية، فالناس تتمسك بوجود الله وعبادته وطاعته والخوف منه بالوراثة والعادة وليس بالإثبات أو النفي، إلا إنها تتصرف وتعيش وتعمل وكأنه غير موجود أو مجرد فزاعة، إلا في حالات خاصة ونسبية (7) كالمرض، الكوارث الطبيعية، الظلم، الموت، الفقر، الأزمات النفسية والاجتماعية، فأن يكون الإنسان ملتزما أخلاقيا وقانونيا تعتمد على تربيته وبيئته وحالته النفسية والاقتصادية ولا علاقة له بأيمانه من عدمه بهذه الفرضية، ومن الطبيعي أن نرى إن كثير من الذين يلتزمون بطاعة الله وعبادته يرتكبون الغش والخداع والأنانية والكذب بالسر أو بالعلن. لأن الإنسان كما تشير العلوم الإنسانية تحركه الرغبات والغرائز والأنانية والمصالح والحالة النفسية، إضافة إلى البيئة والتربية والعادات والتقاليد الاجتماعية، إن الالتزام الأخلاقي هو بمعزل عن الالتزام الديني رغم أن الدين يحض على السلوك الأخلاقي في بعض الأحيان أو يحاول أن يماهي بينه وبين الأخلاق لأسباب إيديولوجية سياسية، رغم أن الغاية مختلفة بين الأخلاق والدين فالأولى غايتها إنسانية دنيوية أما الدين فغايته شخصية غير دنيوية (8)، ومن المعروف أن البلدان الأوربية التي توصف بابتعادها عن الدين هي أكثر التزاما بالنزاهة والقانون والنظام والمساواة واحترام حقوق الإنسان عكس البلدان التي تعلن أنها دينية كما في بلدان الشرق الأوسط تمتاز بكثرة الفساد الإداري والأخلاقي والاختلاس والغش والقمع والظلم والفقر والاضطهاد.
أن الجدل حول فرضية الإله تغير من الإثبات أو النفي أو الاأدرية إلى أشكال أخرى للمسألة، فالبوذية ديانة ركزت على الألم الإنساني بدل البحث في ماهية الإله وكما قال بوذا (أنا لا اعرف شيئا عن سر الإله، ولكني اعرف أشياء عن بؤس الإنسان) وفي بداية القرن التاسع عشر أعلن العالم الفلكي والرياضي (لابلاس) بعد أن أنجز كتابه الموسوعي عن ميكانيك الفضاء (إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي) وأعتقد الفيلسوف الوجودي (جان بول سارتر) إن وجود الله أو عدمه لا يغير في قضية الإنسان شيئا، لأنه في كلا الحالتين يبقى الإنسان وحيدا، حرا، مسئولا، أما (اريك فروم) فرأى انه أجدى لنا البحث عن سعادة الإنسان وكشف أشكال الوثنية المعاصرة من الخوض في فرضية الله.
__________________
1ـ هناك تناقضان يسقط فيه أتباع فرضية الله، فهم يؤكدون على مبدأ العلة في وجود المادة لكنهم ينفون وجود علة لفرضية الله باعتباره علة أولى أزلية، ويرفضون أزلية المادة رغم الإثبات العلمي لذلك!.
2ـ فراس السواح، دين الإنسان، منشورات علاء الدين، دمشق1998 .ص204، 206
3ـ أن تأكيد هذه الأديان على تسميتها بالتوحيدية والسماوية يكشف طابعها السياسي المتمثل بزعيم أوحد كالرب مطلق الصلاحيات والقدرات يكفر ويعاقب كل من يحاوره أو يخالفه أو لا يطيعه لأنه الممثل والناطق باسمه، فالتوحيدية ما هي إلا وحدانية الحاكم بدون منافس أو شريك، والسماوية ما هي إلا ربانية قوانينه وقداستها بدون معارضة أو حوار، بعد أن أسقط على الرب صفاته الاستبدادية المطلقة ليعكسها الحاكم كمرآة له.
4ـ فراس السواح، دين الإنسان، ص 94.
5ـ د.محمد الخشت، مدخل إلى فلسفة الدين، دار قباء،2001 ، ص59.
6ـ فارس السواح، دين الإنسان، ص220
7ـ وأقصد بالنسبية إن الأزمات ممكن أن تدفع الفرد باتجاه التدين أو باتجاه الفساد الإداري والأخلاقي أو حتى الجريمة، وغالبا ما تصنع هذه الأزمات ثنائية (التديّن والفساد الأخلاقي والإداري) ومعروف إن البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية تكثر فيها ثنائية التديّن بموازاة الفساد الأخلاقي والإداري، كما في الصومال، أفغانستان، السودان، العراق، ومنظمة الشفافية الدولية صنفت هذه الدول كأكثر البلدان فسادا في العالم، وما الإرهاب إلا أحد الأعراض على فسادها الأخلاقي والإداري، فالتدين هنا آلية نفسية نكوصية للتكيف، عبر التماهي بعالم افتراضي نرجسي موازي للواقع، يحقق المطالب والحاجات والرغبات والتمنيات الدنيوية الغير متحققة بالدعاء والخضوع للدين، ويغفر ضرورات الواقع والمصالح والأنانية بالتوبة والاستغفار والطقوس، ويعاقب كل الظالمين في الحياة أو في الموت لصالح المظلومين، ويعزي الفقراء والمظلومين والضعفاء بالصبر والقناعة للفوز بحياة رغيدة في الموت، بعد اجتيازهم امتحان الرب والخضوع لإرادته! والفساد أيضا تكيف مع الواقع الفاسد، لأنه يماشي قيم انتهازية ونفعية وابراغماتية، فالرشوة والتزوير والاختلاس ممكن أن تصبح واقعا اجتماعيا مبررا ومقبولا بحجة فساد النظام السياسي والاجتماعي.
8ـ إن ربط الأخلاق بالدين أو جعله مصدرا لها كما في للأديان السياسية الثلاثة، من الناحية النظرية يجعل الالتزام الأخلاقي يتوقف على قوة العقيدة وبقائها اجتماعيا، وعلى الإيمان الشخصي للفرد بالعقيدة وفهمه لها، والدين يجعل غاية الفعل الأخلاقي ميتافيزيقا فرديا وليس إنسانيا دنيويا، أي على أساس المكافئة الشخصية أو العقاب، وليس للصالح العام، فمفهوم الجنة ذو مضمون أناني طفولي غير اجتماعي ، فهي ليست إلا تحقيق للرغبات الغريزية الطفولية المكبوتة والغير مشبعة، حيث الطعام والشراب والجنس الحر من التحريمات والقوانين، أي أشبه بمرحلة الطفل الرحمية، إن مصدر الأخلاق ليس بالنواهي والتعاليم الدينية وحدها، وإنما الالتزام الأخلاقي يبدأ من الأسرة والتربية والبيئة والتعليم أولا وليس من الوعظ أو النصح أو الحكمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما احوجنا لهكدا مقالات
ياسر الحر ( 2011 / 3 / 27 - 16:54 )
واحدتك هده خير من الف الف ما يكتب اولئك المتدينون فهم لاتعنيهم الحجج المادية بل ينساقوا وراء خيالاتهم وعواطفهم الجامحة


2 - حقيقي
مازن البلداوي ( 2011 / 6 / 3 - 11:18 )
الزميل محمد محل
شكرًا لك على هذا المقال الواضح والصريح، من وجهة نظري فان النقطتين 6،7 هما مركز الموضوع، الا ان المشكلة تكمن في عدم مقدرة المقابل لإثبات الوجود الحقيقي للإله وذلك لعدم وجود الدليل الحقيقي ويعتمد على الرواية او قال فلان وهي في الحقيقة أقوال ليس الا ،ولايقبل غير والديه من محفوظات،على كل حال اكرر شكري لك
تحياتي


3 - البديهيه ... والجدلية
سرسبيندار السندي ( 2011 / 6 / 4 - 16:33 )
بداية تحياتي لك ياعزيزي محمد وشكرا على المقال ... نعم من السهولة نفي ألإثبات ... ولكن من الصعوبة جدا أو من المستحيل إثبات النفي ... مثلا لو سألك البوليس لمروك في شارع حدثت فيه جريمة فمن البساطة جدا أن تجيب بالنفي ... ولكن لو أجبت بنعم فعليك سرد التفاصيل ... ويجب أن تكون صادقا في سردها فكذبة واحدة قد تجعلك شريكا في الجريمة ... والسؤال من نزل من فوق حتى يعرف الذي فوق ... أليس من نزل من عنده فقط هو من يعرف سره ؟

اخر الافلام

.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل


.. 52-An-Nisa




.. 53-An-Nisa