الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الواعظ الأنيق .. على البيسين

إبراهيم المصري

2004 / 10 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أربعة أعوام كاملة أمضاها صاحبنا لا يعرف ماذا يحدث في الشارع الذي يسكن فيه .. كان وفقه الله .. يهيئ نفسه للمهمة التي قال إنه منوط بها .
ولم تكن هذه المهمة .. إلا هدايتنا وإعادتنا إلى الحظيرة التي تفرقنا عنها زرافات ووحدانا حتى أصبح حالنا في المروق لا يسر عدواً ولا حبيباً .
وصاحبنا في مهمته هذه .. سليلُ سلسلةٍ .. يبدو أنها شارفت على الانتهاء وإنني أتمنى ذلك ، طالما وصل الوعظ الديني إلى هذا الحال الذي .. سأوضحه من وجهة نظري .. من الانفصام التام بين القول والواقع .. وطالما وصل صاحبنا برسالته أو مهمته إلى التجول بها على الفضائيات وحمَّامات السباحة .. وهناك من يساعده على طرد الشياطين من سلوكنا ومخيلتنا حين يعمد صاحب كافتيريا أو كوفي شوب في القاهرة إلى بث .. شرائط صاحبنا المسجلة بمواعظه .. فلا يجرؤ شاب وشابة تواعدا على كوب شاي أو غرام على النظر كلٌّ إلى عين الآخر وبالطبع لن يجرؤا على التقاط قبلة من شأنها أن تزج بهما في الجحيم أو تأتي لهما على الأقل بشرطة الآداب .
إن الدين .. أي دين .. سماوياً كان أو أرضياً لا يوفر في الحقيقة إلا الإجابة على سؤال واحد ، هو سؤال ما بعد الموت .. وبإجابته على هذا السؤال فإنه يوفر الطمأنينة لإنسان لم يكن يعرف ماذا يفعل في بدائيته تجاه البرق والشمس والقمر والكواكب وظواهر الطبيعة فعبدها .. أمَّا وقد جاءت الأديان فإنها تولت مهمة الإجابة .. الله خالق البشر والكون وإليه نعود ..
ولكي تكون طمأنينة الإنسان كاملة فإن عليه أن يهتدي .. وباب الهداية هو .. العقل .. كما يقول المثل الشعبي المصري ( ربنا عرفوه بالعقل ) .
أمَّا وقد طار العقل على يد مقوضين يعملون بكدح وشراسة انطلاقاً من منطقة الدين بالذات ، فإن الأمل كبير في أن تنتهي .. هل نقول الصحوة الدينية .. أم هذا الطوفان من وعظٍ يفاقم الانفصام التام بين الإنسان وعقله .
إننا في الحقيقة مؤمنون وليس عندنا مشكلة إذا عرفنا أن كل قيمة نبيلة وبسيطة وعملية في الحياة تتقاطع والمثل العليا للدين .. أي دين .. ويصبح من حاجتنا بعد ذلك أن نهتم بشؤون حياتنا بطمأنينة إيمان لا يورطه الواعظون بإملاء يصر على أن ترمش العين بهذه الطريقة لا بغيرها .
ويكفي المؤمن أم نقول المسلم أن يكون حافظاً لفاتحة الكتاب وللمعوذتين وأن يكون سلوكه حسناً حتى يدخل الجنة .. وهذا ما يفعله بالضبط فلاح أمِّي في قرية مصرية حين يستيقظ فجراً فيصلي ثم يسحب بهائم رزقه إلى الغيط كي يعمل ويكدح وينتج ثم يعود مع المغيب إلى بيته كي يصلي المغرب ثم العشاء حاضراً في المسجد ويتعشى وينام مطمئناً إلى أنه أدى واجبه تجاه ربه وتجاه حقله وتجاه بهائمه التي ولا شك أنه أطعمها وسقاها .
هذا الفلاح هو النموذج الذي يجب أن نقتدي به لا في أمّيته .. ولكن في سلوكه المنتج وطمأنينة إيمانه التي لا تبالغ إلا بالنظر إلى السماء طلباً للرزق والستر والعافية .. وهذا الفلاح بالذات .. ما يبقينا أحياءً بإنتاجه .. وليس رجال الدين ولا وعاظه ولا شارحي الشريعة ولا مفسري القرآن الكريم الذين لو صمتوا جميعاً فلن يمنع ذلك نموَ سنابل القمح لأن الذي يمنع نموها في الحقيقة هو أن يكف الفلاح المسكين عن العمل مثلما يمنع الحياة أن تتطور وتنمو أن يكف العقل عن العمل ويحبس نفسه أربعة أعوام كاملة .. كما فعل صاحبنا .. بدون أن يعرف ماذا يحدث في ( الشارع ـ الحياة ) .
لكن صاحبنا الذي نذر نفسه .. للمهمة المقدسة .. حبس نفسه طوال الأربعة أعوام هذه كي يحفظ القرآن الكريم .. ويُعد نفسه كما قال بلسانه للمهمة التي شعر أنه مهيأ لها .
لن أقول من الذي انتدبه لهذه المهمة فالله سبحانه وتعالى أعلم بالنوايا .. ولن أقول إن رجل الدين أو الواعظ لا يملك من بضاعة الحياة غير كم من المعارف هي بالنسبة لنا ( لزوم ما لا يلزم ) .. لكن الأخطر يبقى حين يفاقم هؤلاء حالة الانفصام التام بين الإنسان وعقله ومعاشه وحياته .
الواعظ أو الداعية سوف يهدينا .. ماذا في ذلك ؟
لكن يهدينا إلى ماذا ؟
ـ إلى الالتزام بتعاليم الدين .. حسناً .. صلوا / صوموا / غضوا البصر / كونوا صادقين / الدين جميل يا اخوانا / فهل نحن من وجهة نظره هذه الأغنام الضالة ؟
ـ نعم نحن أغنام ضالة ولكننا أغنام ضالة ليس في الإثم لأن الأمر ببساطة هو أنه لا قدرة لنا على ارتكاب الإثم ولا حتى على الخير .
فنحن في ضلالة طال أمدها من أزمات اقتصادية .. والدين لا يحل المشكلة هنا ( فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة )
ونحن في أزمات سياسية ( وإن الله يزع بالسلطان ( القانون ) ما لايزع بالقرآن )
ونحن في أزماتٍ جنسية ( وغض البصر يهيج المخيلة ويصل بالجرائم الجنسية إلى حد ارتكاب زنا المحارم وجرائم الشرف )
ونحن في أزمات نفسية .. لا تشفيها تلاوة القرآن الكريم .. لأن جذرها في مكان آخر غير الدين وإنما في هذا التضاغط السكاني الرهيب الذي لا يوفر لأحدنا فرصة هدوء للصمت أو للتلاوة .. وكلنا أو معظمنا ولا شك ينام على ضجيج شارع تختلط فيه أصوات رواد المقاهي بصراخ السكان بالبائعين بأشرطة بث الأدعية والقرآن الكريم .
ونحن في أزمات بطالة .. عن الأمل والعمل .. الذي يمكنه وحده لا غيره أن يوفر لقمة وملابس وبيتاً وتذكرة ذهاب إلى السينما .. وأن نصوم النهار ونقوم الليل على قدم واحدة لن يحل ذلك المشكلة التي هي في الأساس إدارة دولة لم تعرف كيف تخطط أو لا تريد أن تخطط ما يضمن لمواطنيها أملا وعملاً .
صاحبنا في الحقيقة غير معني بكل ذلك وإن كان يتطرق إلى ذلك أحيانا في مواعظه الفضائية .. كونه في الخلاص من كل هذه .. المصائب التافهة .. لأنه وكما قال من جلسته التي ( تشرح الصدر ) على البيسين كان يمضي صيفه في .. الساحل الشمالي .. بقراه السياحية المحروم منها الفقراء والمفتوحة كما نعلم لطبقة ثرية نمت في غفلة من القيمة والاقتصاد الحقيقي واحتلت شريط البحر من الإسكندرية حتى العلمين تفتحه صيفاً وتغلقه شتاءً .
يقول بعض أصحاب الرأي .. إن صاحبنا ينتمي إلى هذه الطبقة وهو معنى أساساً بهدايتها أو أنها أوجدته .. كحاجة .. لكي يقوم بخطابها الديني لأنها وبعد أن أخذت كل حظوظها من الدنيا أصبحت في حاجة إلى حظها كاملاً من الآخرة .
وصاحبنا لا يعظ من حارة فقيرة ولا من حقل ولا من ورشة لإصلاح السيارات يكدح فيها أطفال بدون أمل .. وإنما يعظ من أستوديوهات أنيقة بجمهور لا تشوبه شائبة من هم أو فقر أو كرب .. حتى أنك ترى أحيانا جميلات في كامل مكياجهن وتسريحة الشعر حاضرات للاستماع إلى .. النعمة .. التي أنزلها الله علينا .
ويعظ صاحبنا كما ظهر مرة على شاشة عربية من جلسته التي ( تشرح الصدر ) من أمام بيسين وحوله عدد من الشباب .. ما شاء الله .. يمكن لكل واحد منهم أن يجر شاحنة من فرط الطول والعرض والصحة والنضارة والعافية .. وهؤلاء مع واعظهم المتأنق صاحب الصوت المزعج للغاية وغير التلفزيوني بالمرة لا يخصونا في شيء .
وقبل أن يتوهج أنف أحدكم غضباً .. دعونا نقول إن ما يعظ به الواعظ أو الداعية شيء والواقع الذي تعامى عنه أربع سنوات كاملة ولا يزال يتعامى شيء آخر تماماً .
لنعد إلى صديقنا الفلاح الذي قال فيه وفي أشباهه المثل الشعبي ( المغلوب مغلوب وفي الآخرة يضرب طوب ) لأن هذا الفلاح وببساطة لا حظ له مثلما نحن لا حظوظ لنا في ( واعظين يفهمون ويتحدثون في الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة والإبداع والفن والتعليم الحديث وإدارة الدولة والمجتمع والقانون والديموقراطية ومبادئ الحرية والعدل والمساواة وحقوق المرأة والطفل والإنسان )
حظوظنا في الواعظ المتأنق وأشباهه والذين يمكن أن نقول له أعطنا فيلا ويختاً وحوض سباحة مثل الذي كنت جالساً أمامه تعظ وسوف نتبعك حتى ولو إلى الجحيم .
هل عرفتم صاحبنا .. إنه عمرو خالد .. الذي قال إنه كان يذهب صيفاً إلى الساحل الشمالي يلعب ويلهو ويعوم ويجد وقتاً أيضاً للصلاة وحفظ القرآن الكريم أو تلاوته .. وهل هذا يحتاج إلى موعظة .. أن يقسم الإنسان وقته بين اللهو والعمل والعبادة .
حسناً .. أعطنا مجتمعاً .. يكون فيه الجميع مثلك ومثل جمهورك في الأستوديو أو على البيسين وسوف نتبعك .. أمَّا قبل هذا .. فالرجاء أن تصمت فلا حاجة لنا بك رغم .. القداسة .. التي يرفعك بها جمهور عريض من البشر لا يدركون في الحقيقة أنك بخاطبك هذا تؤجل حل مشاكلهم الحقيقية أو لا تقترب منها أبداً ، وتزيد عذابهم في الدنيا وتهيئ لهم الطريق إلى النار كونهم غير قادرين مثلك على إشباع بطونهم قبل الانكفاء على مهمة مقدسة تقطع بين العقل والحياة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنيش: صاروخ الشهيد جهاد مغنية من تصنيع المقاومة الإسلامية وق


.. الأهالي يرممون الجامع الكبير في مالي.. درّة العمارة التقليدي




.. 121-Al-Baqarah


.. 124-Al-Baqarah




.. 126-Al-Baqarah