الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية بين التضامن الاجتماعي و الواجبات تجاه الله

رباح حسن الزيدان

2011 / 4 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بقيت "الواجبات تجاه الله" معمولا بها ضمن مادة الأخلاق العالمية حتى عام 1923. ومع النتائج التي أبرزتها الإحصائيات و التحليلات الفرنسية يبدو أن معظم المعلمين في المدارس أهملوا هذا الفصل ولم يعطوه للتلاميذ. فالأخلاق العلمانية ركزت بشكل كبير على موضوع التبادل بين الحقوق والواجبات،ولم تعتمد التركيز على الواجبات فقط إن كان تجاه الله أو غيره.حيث حقوق البعض تشكل واجبات عند الآخر والعكس صحيح.
فإذا في الولايات المتحدة "الخالق" يمنح البشر الحقوق التي لا يمكن التصرف بها،ففي فرنسا إعلان الثورة الفرنسية لعام 1789 نُفّذ فقط "في حضور وتحت رعاية الإنسان أو الكائن السامي".ولكن ما هو الفرق بين الطرفين أو المعنيين؟ في الولايات المتحدة سمع تعدد الأديان والطوائف بإعطاء الحقوق الإنسانية أصلا سماويا،من غير أن تكون هذه الحقوق ملكية لأية كنيسة. في فرنسا،وبالتحديد في عام 1789،الكنيسة الكاثوليكية كان ما تزال مستفيدة من احتكار الشرعية الدينية،وهي شرعية فرضتها الدولة الملكية. بعد ذلك، وحتى في عصر نظام الحرية في المعتقدات و التعددية الرسمية، بقيت الكنيسة الكاثوليكية، التي تشكل الغالبية العظمى، في صراع مع قيم ما بعد ـ الثورية. ضمن هذه الظروف يطرح السؤال التالي : كيف تم تشييد أو تأسيس "الواجبات الإجبارية" ؟
ظهرت الإجابة مع بداية عام 1880،نستطيع أن نؤسسها أو نشيدها باسم التضامن. هذه الإجابة بدأت تأخذ أهميتها بشكل متدرج، حتى أصبحت مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ما يمكن تسميته " مذهب التضامن"،والذي يمجد ليس فقط المدرسة العلمانية، بل أيضا "رابطة التعليم"القوية التي تعتبر مكملة للمدرسة العامة،و للاشتراكيين المتشددين.
من بين الأسماء الكبيرة التي عملت في فرنسا على ملف تعليم التضامن نجد Henri Marion والذي نشر في عام 1880 مؤلفه "واجبات وحقوق الإنسان" ونلاحظ هنا أن مفردة الواجبات جاءت في مؤلفه قبل الحقوق. في نفس الوقت حاول Alfred Fouillée (1838ـ1912) أن يكمل هذه المقاربة مستخدما رؤيته المتعمقة أكثر في البسيكولوجيا ونشر "علم الاجتماع المعاصر" 1880، ثم "الملكية الاجتماعية و الديمقراطية"1884. وللمرة الأولى في فرنسا،وكما يؤرخ الفرنسيون، نجد رجلا يعرَّف باسم زوجته وليس العكس. مع نهاية التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، سيتم تعميم "مذهب التضامن" على يد Léon Bourgeois،ومن هذا الوقت بالتحديد سيوضع البرنامج الاجتماعي والاقتصادي للحزب الراديكالي اليساري.
أراد هذا المذهب التضامني تجاوز الليبرالية الفردية و الاشتراكية الجماعية.بمعنى أن الأخلاق العلمانية ليست فقط التعود أو التدرب بالحد الأدنى على قواعد أخلاقية دائمة،بل أخلاقا حقيقية يتم تعليمها للأطفال وتكون مرتبطة مع مشروع لتغيير و تحول المجتمع. يعود أصل المذهب التضامني إلى : الاشتراكية الطوباوية و وضعية "positivisme" أوغست كونت. منذ أواسط القرن التاسع عشر،اقترح Pierre Leroux تبديل "التصدق أو البر المسيحي" بمفهوم آخر هو "التضامن الإنساني"،هذا المفهوم المقترح سيشكل مفتاحا نحو الانطلاق إلى المستقبل و مبدأ لتنظيم المجتمع.فالتضامن هو علاقة البشر فيما بينهم، ويسمح بالتصالح بين مشاعر الانتماء للجماعة و متطلبات تطور ونمو الفرد. وهنا يقول أوغست كونت:"فكرة التضامن تقع ضمن فكرة الاستمرارية التاريخية،وتبعيتنا المتبادلة عبر التاريخ وعلاقتنا عبر الزمن كانت من أجل تتمة تبعيتنا المتبادلة المتزامنة من خلال ترتيبات مجمل التنظيم الاجتماعي". فيما بعد ستأتي دراسة إميل دوركهايم "تقسيم العمل الاجتماعي" عام 1893،وستعطي المعالم الأولى لعلم الاجتماع من أجل دراسة التضامن الأخلاقي.
لكن التضامن سيرتبط أيضا مع المقاربة السيكولوجية للكائن الإنساني. فالداروينية darwinisme التي تم تعميمها في كل مكان تؤكد أن الصراع الأبدي من أجل الوجود يشكل وسيلة للكمال الذي يختار النوعيات ذات الفائدة بالنسبة للفضاء الإنساني.في عام 1862 ترجم Clémence Royer عمل داروين "أصل البشر" وأضاف عليه :" إن قانون الاصطفاء الطبيعي،المطبق على الإنسانية،يجعلنا نرى كم كانت حتى الآن مزيفة قوانيننا السياسية والمدنية، كما هي مزيفة أيضا أخلاقنا الدينية".
لقد اقتسم Fouillée الفكرة التي تتحدث عن الصراع من أجل البقاء مع الداروينية، لكنه رفض ما سماه "النتائج الاجتماعية والأخلاقية الخاطئة للداروينية" أو الداروينية الاجتماعية.فالتطور بالنسبة له يتطلب وجود ارتباط بين الأفراد،والحياة هي ناتجة عن علاقات بين مختلف الأعضاء،في إشارة هنا لما سماه "التضامن العضوي"،المتفاعلة فيما بينها. أما قطع العلاقات بين الأفراد أو الأعضاء التي تكون التضامن فإنه يؤدي إلى الموت. إذن العلاقات بين البشر هي متناظرة مع العلاقات بين الأعضاء،وحياة كل فرد،السيكولوجية،الفكرية و الأخلاقية،توجد مرتبطة مع حياة كل من سبقه. ويختم بالقول، أن كل إنسان هو وارث لمجمل الفضاء الإنساني.
بالاستناد على ما سبق يمكننا طرح السؤال التالي: ما هو جوهر أو أساس التضامن ؟ الأخلاق العلمانية أو "علم الأخلاق العلماني"، يصر على ما يسميه "المنافع" أو الخيرات التي نجدها عندما نولد: البيت،الأدوات،الغذاء،الكتب،الطرق..الخ. والمقصود بها الأعمال الخيّرة التي تركها الأموات. فعلم الأخلاق العلماني يحب أو يحبذ الطرح التالي:"الأموات هم أموات، لكن الخير الذي فعلوه يبقى". وبفضل أعمالهم الخيّرة نحن نطلق عليهم لقب "الأسلاف". وبفضل عملهم وألمهم انتقلنا من "المجتمع البدائي" إلى "الحضارة".
الأسلاف، إذن، يشكلون ما يمكن تسميته وفق علم الأخلاق العلماني "بوكلاء التقدم".من هذا المنطلق،يرى الفرنسيون أن الأجيال في المدارس،ومن خلال حضارة الكتابة و الكلام الفرنسي، تشكل حاملا حقيقيا ووسيلة للخروج من المجتمع التقليدي.ومع الصحيفة و طريق الحديد يفضل الفرنسيون العبور أو الانتقال من "الوطن الصغير" المحلي إلى "الوطن الكبير" القومي.
أما الثورات عندما تريد إحداث التغيير وخلق الإنسان الجديد فهي تضع الأطفال في مواجهة آبائهم وأجدادهم،هنا علم الأخلاق العلماني يبحث عن إحداث توازن في هذه المسألة وفي عملية التغيير القائمة،وذلك من خلال التأكيد على أن الأسلاف و القدماء قاموا ببناء الحضارات السابقة والتي تسمح للأطفال اليوم بالوصول إلى المدارس و الاستفادة منها.
هذا المفهوم ينتج فكرة أخرى،وهي أن كل كائن إنساني لديه "دَين" تجاه هؤلاء الذين سبقوه. وخضوع الأطفال تجاه الأسلاف و الأجداد يشكل جزءا من الدَين.ولكن كيف يمكن الوفاء بالدَين لهؤلاء الذين هم غير موجودين ؟ يتم الوفاء عبر إظهار التضامن من خلال السلوك و التصرف كإنسان يفعل الخير ويقدم المنفعة للآخرين ولاسيما للأجيال القادمة. أن يتم الانتباه لكل من هو حولنا، نسمعهم ونجعل ضميرنا يستمع إليهم،نتبادل معهم ونشاركهم وفق إمكانياتنا،ثم نرفع من شان التسامح،الحرية والديمقراطية.
ويرى الكاتب و المؤرخ الفرنسي Jean Baubérot :" أننا نتصرف كما الأسلاف والأجداد،ننقل ما نأخذه منهم إلى الأجيال القادمة ثم نضيف عليه ونحسنه. فالمسيرة الشخصية لكل منا مع آماله في تحقيق حياة اجتماعية بفضل المدرسة، نجدها تدخل في شكل من أشكال المغامرة الجماعية. ويجب أن يكون هناك واجبات تجاه أنفسنا، أن نقتصد،نكون بنائين،عاملين جيدين،ننتبه إلى الصحة،نعالج ضميرنا بأنفسنا حتى نتقدم أخلاقيا، ثم،وبهذه الحالة،سيكون لدينا واجبات تجاه الآخرين وتجاه المجتمع".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah