الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين عايشت ولادة سوريا الجديدة على الأرض

منير شحود

2011 / 4 / 13
المجتمع المدني


في لحظة، وقفت كالممسوس، ولم أعد أطيق متابعة الأحداث من خلال شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر، كما لم أستطع إقناع نفسي بأن ما يحدث على الأرض هي ثورة شباب فحسب، وأن علاقة جيلنا بها لا تعدو كونها مجرد إحساس بتحقق الحلم الذي عانينا كثيراً من أجله... فقررت أن أنخرط في الشارع لأعيش الحلم بحواسي ومشاعري، ولأكون صوتاً في جوقة تنشد للحرية في شوارع مدينة سورية. إنه إغراء لا يوصف لمن قضى عمره في الخوف والتنكيل من نظام الفرد الواحد والحزب الواحد والأجهزة الأمنية المتعددة.
وبنشوة لا توصف، لبست حذائي الرياضي، وأخذت سيارة أجرة إلى ساحة "الشيخ ضاهر" في اللاذقية، في جمعة الصمود، 8 نيسان. وقبل أن نصل الساحة، توقف السائق بعد أن شاهد تشكيلات متنوعة من عناصر الأمن والجيش...وقال: "إلى هنا وبس!".
ترجَّلت من السيارة، وهرعت إلى مدخل شارع القوتلي. بدت المظاهرة في نهاية الشارع، عند ساحة "أوغاريت"، فانطلقت مسرعا باتجاهها. وعلى امتداد الشارع، كانت مجموعات من الأمن أو من يساندهم من الشبيحة، يحملون في أيديهم العصي المتنوعة، كخشبة انتزعت من مكان ما أو عصي من النوع الذي يُركَّب على الأدوات الزراعية.
كان منظر هؤلاء مرعباً، والشارع مقفراً، وشعرت بخوف من أن ينهالوا عليَّ بالضرب في أية لحظة، ولكنني تابعت كمن يركض وراء حلم غامض، ولم يكن لشيء أن يوقفني سوى رصاصة. وبعد عشرات الأمتار، كانت مجموعة من شرطة الشغب يتسلحون بعتادهم وينتظمون في ثلاثة صفوف، غير عابئين بما يجري حولهم، أو أنهم ينتظرون الأوامر بلا لهفة. كانوا صغاراً في السن، وعلى وجوههم براءة الأطفال. لم أشعر بالخوف عند مروري بجانبهم، بل شعرت بشفقة أبوية نحوهم، وغالبت الدموع التي ملأت عيناي.

تابعت طريقي بقفزات طفولية سريعة لم تكن تتناسب مع سني، وحين بلغت المظاهرة مشيت بمحاذاتها، وقلت في نفسي: "ها قد وصلت، وليكن ما سيكون!". التقطت الصور بخوف في البداية... ثم تجرأت ونزلت من الرصيف إلى الشارع، فصرت بين الحشد... ثم رددت شعاراتهم في نفسي... ثم رددتها بصوت سمعته وحدي... ثم اختلط صوتي بأصوات الآخرين، وهنا شعرت بقشعريرة لذيذة، وانسابت الدموع التي حبستها، وخالجني شيء من الاعتزاز بالعلاقة التي تربطني بأبناء وطني... هل هي ولادتي الثانية؟
لم أكن أعتقد أن الأمور منظمة هكذا، كان الإيقاع منسجما والهتافات تتبدل، ليتخللها بين الفينة والأخرى الشعار الرئيسي: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وكانت الحناجر ترتجُّ بقوة عند ترديده، ولسان حالهم يقول: "نعيش سوية أو نموت سوية". ورأيت أشخاصاً ينتمون إلى معظم الطيف الاجتماعي السوري، وكان الشعار الأكثر ترديدا أيضاً يحض على عدم التفرقة الدينية والطائفية، كرد على محاولات إثارة الفتنة في هذه المدينة التي تشعر فيها بوطأة الاستبداد، جنباً إلى جنب مع مظاهر الحرية والتنوع الاجتماعي الذي يشعرك بالبهجة، ويجعل الحياة فيها حلوةً رغم كل شيء.
تقدَّمت المظاهرة حوالي عشرين امرأة وفتاة، محجبات وسافرات، رفعت إحداهن لافتة كتب عليها: "شبابنا خط أحمر". وعندما مرت المظاهرة تحت منزل أحد أعضاء "مجلس الشعب"، الذي لا علاقة للمضاف فيه بالمضاف إليه، نعته المتظاهرون بالجبان. ومن إحدى الشرفات فتح شاب كيس أرز وبدأ ينثر حباته على الحشد بعجالة وخوف وحماسة، كيلا تقنصه عصابة! كان كمن يبذر أرضاً بكراً طال انتظارها.
انتهت المظاهرة باعتصام في إحدى الساحات، وشكل بعض المشاركين حلقة كبيرة توسطتها النساء... واستمر ترديد الشعارات، علاوة على بعض مظاهر التضامن الاجتماعي التي تُفتقد في الحالات العادية.
ركبت سيارة أجرة كانت تنتظر قريبة من مكان الاعتصام، وبدا من أسئلة السائق وحديثه أنه رجل أمن، أو من أولئك الذين يحاولون تصديق ما يقولونه في وسائل الإعلام التي نسيت وطنيتها من زمان، لتلتحق بمنظومة حاكمة لم تبق ولم تذر. قال لي السائق أن عدد المتظاهرين قليل، وإن القنوات التلفزيونية مغرضة، ومثال عليها قناة "العبرية" يقصد "قناة العربية"... عقلية بائسة تجر وراءها أتباعاً تزيَّف وعيُهم في لحظة خوف أو ارتباط مصالح، يمكن أن تجد بعض التفسير لهذه الحالة في كتابات المفكر الإيطالي "غرامشي"، عندما علَّل تشكل الوعي الجمعي في مرحلة الفاشية.
وأثبت السوريون أنهم لن يقبلوا رشاوى النظام، فرفض الأكراد رشوة الجنسية بكبرياء، وعبروا في الشارع عن وحدة مطالبهم مع كل أطياف الشعب السوري. ولم يُجدِ النظام نفعاً وعده بمحطة فضائية دينية (أفيونية)، وعودة المنقبات اللواتي تم فصلهم من التعليم، لإرضاء المتدينين، مع أن شيوخ النظام هللوا لهذه المكرمات! وليس للأقليات الأخرى من رشاوى سوى التخويف، لتبقى صامتةً في وقت لا يجدي فيه الصمت نفعاً.
حين دخلت البيت مسرعاً، أسرعت لحفظ كنزي الذي لا تعادله ثروة، أي الصور ولقطات الفيديو... نعم هذا أنا إذن أعيش من جديد ولم أمت... أنا سوري أيها العالم... أنا أحب وطني وأهله. وعندما رأت زوجتي إحدى الصور التي تلمع فيه صلعتي، علقت بأنها كان يمكن أن تشكل هدفاً مغرياً للقناصة! وركضت طفلتي الصغيرة من غرفتها نحوي يسبقها سؤالها: "بابا فازت ليبيا؟...بابا فازت سوريا؟".
وبينما كنت استعيد مشاعري بهدوء في المساء، سمعت طلقات نار غزيرة قرب مكان الاعتصام، وعرفت أن الهدوء الحذر الذي عايشته في المكان، وانتهاء المظاهرة بدون مشاكل، كان أمراً عارضاً. جرحى... وربما قتلى أيضاً سقطوا، ولكنها جولة واحدة وحسب، ولن يُقهر شعب مهما حصل.
إذا كان النظام قد أجاد اللعب بالأوراق الخارجية بجدارة على حساب حرية شعبه ومصالحه، فإن لعبه بالأوراق الداخلية لضمان سيطرته على المجتمع يبدو بائساً ومكشوفاً، لأن شعب سوريا استفاق، ووحدة أبنائه تتشكل على الأرض، وتتعمد بالتضحيات. ولن ينسى شعب سوريا من يقف إلى جانبه في هذه الأوقات الصعبة، ولا من يتناساه من جوقة التزييف المقاوم والممانع. لم أعد أشك في أن سورية أيضاً تولد من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيه
ابراهيم الحمدان ( 2011 / 4 / 13 - 12:04 )
انا لا اشكك بعشقك للحرية
ولا اشكك بمن يتظاهر للاصلاح
لكن اسالك من الذي اطلق النار على الجيش بكمين بانياس
ومن اطلق النار على مقر للجيش الشعبي في الصنمين
مع تحياتي

اخر الافلام

.. مظاهرات واعتقالات في الولايات المتحدة الأمريكية.. حراك جامعي


.. الأمم المتحدة: هناك جماعات معرضة لخطر المجاعة في كل أنحاء ال




.. طلاب معهد الدراسات السياسية المرموق في باريس يتظاهرون دعمًا


.. الأمم المتحدة: الهجوم على الفاشر بالسودان سيكون له عواقب وخي




.. مصر تعرض على إسرائيل عدة أفكار جديدة كقاعدة للتفاوض حول الأس