الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تتبنى البرجوازية المعاصرة حقا شعار - فصل الدين عن الدولة-؟

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2011 / 4 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يكاد يكون الحديث عن فصل الدين عن الدولة ، و تحققه في أوربا والغرب حديثا يوميا عند المهتمين في مجتمعاتنا من كتاب ومثقفين و غيرهم . لكننا في ذات الوقت نشهد أن حكومات الغرب تدعم المؤسسات الدينية بالملايين من الدولارات ، و تخصص المال الوفير للبعثات التبشيرية ، و لطبع الكتاب المقدس وبلغات عديدة و بمئات آلاف النسخ لتوزيعها في العالم الجنوبي من الكرة الأرضية. وفي هذا الإطار يتم التركيز على البلدان التي يمكن تصورها أن تصبح مستقبلا جزء من أوربا. وكلنا سمعنا كيف ادعى بوش أن الله كلفه بغزو العراق وأفغانستان، وكيف تحول البابا وفتاواه إلى غطاء إيديولوجي لحروب المحافظين الجدد ضد ما يسمى بالإرهاب.وهذا بحد ذاته يرمينا في بحر من الشكوك فيما إن كان الدين حقا منفصلا عن الدولة في الغرب الرأسمالي.
إن النظام الرأسمالي منذ ترسخه يحاول إقناع الطبقة العاملة و الشرائح الاجتماعية المستغلة في مجتمعاته، بقبول حالة انعدام العدالة على أساس أنها مسألة اجتماعية طبيعية وإنها قضية مشروعة وأمر واقع ينبغي على الجميع قبوله . فالحكومات الملكية في أوربا حتى في في هذا العصر تضفي على الملك والعائلات الحاكمة والنبلاء مسحات قدسية ، و تشجع الفقراء على الهتاف بالحياة للملك ، مع أن الفقير العاقل يتساءل : من منح الملك والبارونات ملكية الأرض وخيراتها ؟. فمثلا، في السويد حيثما التفتُّ لوقعت عيني على اسم شارع أو مؤسسة تاريخية أو معلم قديم يحمل اسم قديس أو قديسة ، أكثر من أسماء القادة السياسيين وغير الدينيين ، فلا يحق لأي شخص حين يشتري حق السكن و العقار أن يشتري حق ملكية الأرض المبني عليها، بل عليه دفع الإيجار لمالكها الذي هو أحد النبلاء . ومن يرى البذخ الذي يمارسونه في حفلات عقد القران ، أو احتفالات بميلاد أحد أفراد العائلة المالكة ، أو حفلات خاصة ، وما يراه في الجانب من جوع ومرض و تشرد يفتك بعشرات الملايين من البشر ، ليس أمامه الا الذهول ، وإن كان المتأمل لا يعي قوانين الاستغلال و التراكم الرأسمالي لاعتقد أن ثمة قدرة الهية وراء هذه الظاهرة و لا حول ولا قوة للبشر في تغيير هذا الوضع المزري . والنظام الرأسمالي الأمريكي يشجع الفقراء بالهتاف «للحلم الأمريكي» الذي يعيش فيه أصحاب رأس المال وأعضاء الكونغرس والحكومة واقعاً، ولكن الفقير العاقل يتساءل: أيهما أفضل، أن أعيش جائعاً مع حلم قد يتحقق، أم بواقع متواضع دون أحلام ؟ والنتيجة إن نجاح الثورة والانقضاض على النظام الظالم لا يتحقق، ما لم تسيطر الطبقة العاملة و القوى التقدمية على منابع القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتعليمية والقضائية والصحية.
وخلال إقامتي في السويد لسنوات طويلة اعلم أن أكثر الناس الذين يغيبون عن الكنيسة، وأداء الطقوس والشعائر المسيحية الروتينية ، باحثين عن وسائل أخرى لإشباع حاجياتهم الروحية .
فالرأسمالية بحد ذاتها أمست دينا له تعاليمه وطقوسه رغم تمظهرها بالمسيحية أو الإسلام أو الأديان الأخرى المعروفة . إنها دين يقدم للفقراء في المجتمع الرأسمالي سبباً للاعتقاد بان وجودهم ضمن الطبقة الفقيرة إنما هو عقاب للأرواح العاصية ، ولذلك فإنهم لا يستطيعون الانتقال بالمرة من الطبقة الفقيرة المحكومة إلى الطبقة الثرية الحاكمة ؛ ويقدم للأغنياء سبباً آخر للاعتقاد بان وجودهم ضمن الطبقة الرأسمالية أمر ينسجم مع طبيعة الخلق والتكوين ، باعتبار أن الغنى والتوفيق متناغم ومتوافق مع الطاعة والانقياد للدين. ولا شك أن ديناً كهذا ، يسدي للنظام الرأسمالي أعظم خدمة ، لأنه يقوم بتخدير الفقراء وإبقائهم ضمن حدود الحرمان في طبقتهم الاجتماعية الدنيا ؛ وفي نفس الوقت يقدم خدمة عظمى للطبقة الرأسمالية المتنعمة بالخيرات الطبيعية والبشرية للاستمرار في ظلمها وسحقها الطبقات المحرومة في النظام الاجتماعي
وأتذكر هنا قولا للإمام الخميني بأن الله أيضا عامل، مثلما صرح عديد من منظري البرجوازية أن الله عامل في أكبر مخزن كوني ، وكلنا أي البشر مالكون لهذا المخزن مفندين بذلك الطاقة الثورية الكامنة في الطبقة العاملة ، وقدرتها على تغيير المجتمع وإقامة الاشتراكية .

وحسب منظري البرجوازية و الديانة البروتستانتية أن الأساس الفكري الرأسمالي ينسجم مع طبيعة الإنسان في الجد والعمل. وما الفقير إلا فرد متقاعس عن العمل، مستسلم لقبول الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وهذا الإسقاط النفسي بلوم الفقراء على فقرهم، وتشجيعهم على الإيمان بالحظ والمصير المكتوب، وحتمية القدر يخدم بالطبع النظام الرأسمالي؛ لأنه يحاول تخدير العمال والكادحين إلى أمد غير محدود. ولذلك فإن شعارات أية حركة فكرية تحاول إيقاظ الغافلين من غفلتهم ونومهم تواجه بأقذر وسائل التضليل والتمويه.
لم يعد شعار " فصل الدين عن الدولة" شعار البرجوازية في أوروبا بعد أن تحولت إلى سلطات حاكمة سياسية . إنه كان شعار مرحلة لم تشكل فيها بعد الطبقة البرجوازية جهاز حكم منظم و متكامل من كل المناحي، و لم تتحول الحكومة بعد إلى مؤسسة منظمة إنتاجية وسياسية و مدنية تحتاج إليها الرأسمالية. فالبرجوازية بطرحها هذا الشعار عبرت عن نيتها الواقعية لفرض سيادتها الطبقية ، إذ طمحت إلى حكم رأسمالي منظم ومتكامل ، و شامل.
كانت سلطة الكنيسة والدين إبان صعود البرجوازية عقبة كأداء أمام هذا الطموح، إذ أطلق ماركس على حكومة هذه الفترة "باللاحكومة " وكان يقصد أن هذه الحكومات بسبب افتقارها إلى منظومات راسخة كانت بحاجة إلى الدين لكي تكتمل حيث لم تكن الكنيسة والدين في تلك الفترة تمثل رأس المال و المدنية و الحكومة و العلاقات الاجتماعية الرأسمالية التي كانت تتعارض معها ، لذلك كانت البرجوازية بحاجة إلى شعار فصل الدين عن الدولة. وقد رحبت الطبقة العاملة بهذا الشعار إيمانا منها بضرورة توفر حياة مدنية آمنة لتتقدم إلى أمام و تناضل من أجل تحقيق أهدافها . وقد تراجعت البرجوازية بعد تجاوزها هذه المرحلة و تحولها إلى سلطة اقتصادية وسياسية عن تبني هذا الشعار، و أخذت تستخدم الدين والكنيسة والخرافات الدينية و سلطات الباباوات و رؤساء الكنيسة سلاحا فعالا إلى جانب ألأسلحة الأخرى، ضد حركات العمال المناهضة للعلاقات للرأسمالية، كما أشرت في بداية المقال . والتاريخ سجّل لنا كيف قامت البرجوازية الفرنسية بحماية الكنيسة و سلطات القساوسة حين أصدر ثوار كومونة باريس قرار حل الكنائس و تدمير الجهاز الديني المكرس لقمع العمال والكادحين. وبمرور الزمن غدا الدين عصا بيد الرأسمالية وفق الحاجة و بالتناسب مع الظروف و مقتضيات الصراع الطبقي .

شعار " فصل الدين عن الدولة" أودعته البرجوازية في متحف التاريخ منذ إقامة سلطاتها الرأسمالية، فرفعه أشباه الشيوعيين وقوى اليسار القومي و التقليدي وخاصة في " العالم الثالث". هذه التيارات التي لم تكن تهدف إلى إلغاء النظام الرأسمالي والعمل الأجير و الاستلاب الإنساني ، بل دعت إلى بناء الصناعة الوطنية ودعم " البرجوازية الوطنية" و الطريق اللا رأسمالي للتطور، ومعاداة "الامبريالية والصهيونية" . و كانت أكثر راديكاليتها تعمل على صياغة نوع خاص من برمجة أنظمة الإنتاج والسياسة و المدنية للرأسمالية وغيرها من شعارات تتفق مع رأسمالية الدولة التي أوهمونا بأنها اشتراكية واقعية.
هذه الحركات في الجوهر كانت غارقة في الدين، و كانت تغازل الكنيسة في أوربا ، وبايعت الإسلام السياسي في شرقنا في سوق معاداة الامبريالية والصهيونية .
واليوم تغيرت الظروف كثيرا عن ظروف قبل جريمة 11 سبتمبر 2001 و باتت القوى الرجعية والإرهابية تتحكم بالعالم ، ويتم سحق الجماهير المحرومة تحت وابل قنابلها و أسلحتها الفتاكة وما على الشيوعيين واليسار التقدمي و العلمانيين التقدميين والإنسانيين إلا الكفاح المرير لوضع كل الحقائق أمام الجماهير. إن حركة الطبقة العاملة بقيادة الشيوعيين لا تهدف إلى إزالة الدين،بل إلى تغيير العلاقات الرأسمالية التي تستخدم سلاح الدين في الدفاع عن وجودها .. هذه الدولة التي لم تكن إلا أداة قمع واستغلال العمال والكادحين. وهذا لا ينفي صحة شعار فصل الدين عن الدولة إن رفعته الطبقة العاملة والشيوعيون ، كشعار مرحلي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - موضوع مشوق وحيوي
حميد خنجي ( 2011 / 4 / 15 - 14:02 )
مقال يحتوي على موضوع نظري وحيوي ذي اهمية حاسمة للمنظومة العالمية المعاصرة والتجليات المأمولة القادمة ،، اتمنى أن يثير هذا المقال نقاشات جدية بعيدة عن المهاترات! لعل ما يهمنا نحن معشر المسلمين والشرقيين أن نحاول تحديد خصوصيات البرجوازية الشرقية - العربية والشرق اوسطية-ونصل الى استنباط القوانين الخاصة المتحكمة في سيرورة مجتمعاتنا


2 - الارهاب الديني في العراق
هنادي محمود ( 2011 / 4 / 16 - 08:02 )
هذا الموضوع يتوارى تحت سحاب الاعلام المملوك للبرجوازية وهذا الفديو لهو دليل على صدق تحليلك اخي الكاتب للموضوع

http://www.youtube.com/watch?v=E35Kqrg2oKM

مع انه لم يعد مخفيا على احد ان التعصب الديني او بالاحرى الاستغلال للدين يجرى بشكل اذكى في الغرب وذلك لان المتلقي الغربي هو في موضع متقدم من التعليم والتطور الذهني اما في الشرق فان استغلال الدين في السياسة له اسلوب مبتذل بما يحتويه من افكار عدوانية صارخة ولم تعد تنطلي تلك الافكار بعد الان على معظم شباب الثورات العربية


3 - إلى العزيز حميد خنجي
حميد كشكولي ( 2011 / 4 / 16 - 10:23 )
العزيز حميد خنجي المحترم
اشكرك على مداخلتك واهتمامك الكبير بقضايا مجتمعاتنا الهامة وأنا اتفق معك تماما فيما جاء في تعليقك ولكن للاسف لم يثر مقالي هذا النقاشات الساخنة كما توقعت ويحتمل ان السبب تصادف نشره في الويك ايند حيث الناس مشغولين بهموم شخصية وعائلية أخرى اضافة الى ربما انني انشر مقالات بين فترات مطولة اذ اصبح منسيا عند المهتمين بهذه القضايا الخطيرة
والحل في رأيي المثابرة على اثارة هذه القضايا و البحث عن معالجات وفق منهجنا الماركسي
تحياتي الرفاقية المخلصة
حميد كشكولي


4 - الى هنادي
حميد كشكولي ( 2011 / 4 / 16 - 10:42 )
شكرا لتعليقك و الفلم
فالمتعصبون في كل الأديان لهم هدف متشابه انهم يستهدفون الغير لالغائهم وبين الفلم كيف يؤيد هذه الطائفة المسيحية حرب بوش على العراق والعالم الاسلامي وهذا ذكرته في مقالي.
هذه الطائفة هي النسخة المسيحية للقاعدة و ابن لادن
وللاسف الشديد بامكانهم التاثير في البعض و جرهم الى مواقع العصبية و العداء للاخر
مع مودتي
حميد


5 - إن الله أيضا عامل
سالم الشيخلي ( 2011 / 4 / 17 - 07:31 )
أكثر ما لفت انتباهي القول الذي سردته عن الخميني إن الله أيضا عامل و ادعاء منظرين رأسماليين بأن الله عامل في أكبر مخزن كوني وإن البشر هم الملاكون لهذا المخزن.. لنرى ان الاسلام هو نفسه رأسمالي و ان كل محاولات الطريق الثالث مثلما حاولها الصدر وأمثاله انما هي أوهام أو لي لعنق الحقيقة
وشكرا على مقالك الرائع


6 - إلى سالم الشيخلي
حميد كشكولي ( 2011 / 4 / 17 - 16:43 )
شكرا لمرورك الكريم وأنا متفق مع ما جاء في تعليقك

اخر الافلام

.. 116-Al-Baqarah


.. 112-Al-Baqarah




.. سي إن إن تكشف عن فظائع مروعة بحق فلسطينيين في سجن إسرائيلي غ


.. نائب فرنسي: -الإخوان- قامت بتمويل الدعاية ضدنا في أفريقيا




.. اتهامات بالإلحاد والفوضى.. ما قصة مؤسسة -تكوين-؟