الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان و السعادة النسبيّة

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2011 / 4 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



ـ كاليفورنيا
بعد أن يتحدث عن نظرية فيبر في أن المادية تنتهي بإصابة الإنسان بصدمة كونه أدرك "بفعل الاستنارة" أن المعنى النهائي للأشياء و للموجودات هو "المادة" و لا شيء غيرها، يقول المسيري:
"و قد أدرك فيبر أيضا أن الترشيد يهدد الحرية الفردية، و يحول المجتمع إلى قفص حديدي، خصوصا و أن الفرد في المجتمع الحديث هو فرد مفتقد للمعنى، و من ثم فهو شخصية هشة من الداخل لا تشعر بالأمن و لا بالمقدرة على التجاوز، فهي لا تقف على أرضية صُلبة من المعنى" ـ العلمانية تحت المجهر ص 101
لاحظ معي عزيزي القاريء أن المسيري يحدثنا عن فيلسوف مادّي توفي عام 1920 و قارنه بجلال أمين المعاصر لكي يوهم القاريء بأن مفهوم المادية الجامد على حاله هو الذي يسود في الغرب، بينما الحقيقة هي أن مفهوم المادية تحول كليا منذ أيام ألبرت أينشتاين و نظريته النسبية التي حطمت الحواجز بين الروح و المادة، إن تقديم حركة التاريخ المفعمة بالتحولات و كأنها مجرد "قصة مملة" أو رواية سيئة الحبكة هو إساءة فعلية إلى العقل و الشعور الإنساني و حقه الكامل و الطبيعي في التساؤل و البحث، فانتزاع هذا الحق ـ و لا علاقة لنا هنا بمسألة السعادة و الشقاء في قياس الحداثة و التنوير لأن السعادة و الشقاء أمران نسبيان ـ هو انتزاع لحق المسيري نفسه بالتساؤل، و هذا يُذكرني بالغزالي الذي كان يشكك في مصداقية العقل استنادا إلى بعض استنتاجاته الخاطئة، و نحن هنا لا ندعي أن العقل يمتلك ميزانا و حكما غير قابل للخطأ في حكمه على الأشياء، فتحول الطاقة إلى جسم و الجسم إلى طاقة و اتحاد الزمان و المكان في الزمكان و غيرها مما لا يحصى من مجالات التحول العلمي الذي أتاحته نسبية أينشتاين فتح الباب على مصراعيه للوصول إلى نتيجة منطقية جديدة غير تلك التي تفصل بين المادة و الروح، و ها هو المسيري ينقل لنا عن فيبر تساؤله حول نهاية "هذه المادية" و هل أن الأنبياء سيعودون إلى الوجود؟
إن العلم بطبيعته دائم التحول و التغير و إذا ما توقع أحد ـ كما توقع الشيوعيون ـ بأن الإنسان سينتهي على هذا الكوكب إلى الاستقرار و السعادة المطلقة فهو مخطيء بالتأكيد، نستطيع أن نقول أن الإنسان يستطيع بناء أشياء "نسبية" و لكنها بالتأكيد لن تقنع الإنسان بأنه حصل على السعادة النهائية، و هب أن الإنسان الحديث أخطأ عبر المادية؟ فهل يقدم الدين حلا لقلق الإنسان؟ إن البعض يصور الله على أنه إله غاضب و غيور "كاليهود و المسلمين السنة" و بالتالي على الإنسان أن يعيش هاجس الغضب الإلهي و عذاب القبر و دخول جهنم لأتفه الأسباب، بينما يميل آخرون "كالمسيحيين و الشيعة الجعفرية و الإسماعيلية و العلويون" إلى وصف الله بالإله المحب الذي يعفو إلى جانب كونه عادلا، ففي كلا النموذجين نجد صورتين مختلفتين لإله واحد، هذا عدا النظر إلى أديان العالم ككل ـ و هي مئات من العقائد و الأفكار إن لم تكن بالآلاف ـ حيث سنجد اختلافا فكريا جذريا حتى في مسألة الخلق، و المسيري يريد أن يربط كل شرور العالم بالعلمانية، بعد أن يوهم القاريء في بداية كل بحث أنه (محايد و موضوعي و عقلاني إلى أبعد الحدود)، فالعلمانية ارتبطت بنظره بالمادية الأحادية و التي تحكم على الوجود حكما ساذجا بأنه ذو قوانين محددة جامدة حتمية و هي بهذه الصيغة تسجن الإنسان في إطار محدد لا خروج منه، و هو إطار المادة نفسها، لكن الواقع نقيض كل هذا الطرح لأن الغرب نفسه طوّر من نظرته تجاه المادة و هذا العالم الذي يبدو لا نهائيا، كما أن التراث الديني ـ و الذي كانت المادية القديمة تحتقره ـ أصبح قابلا للاستمثار الروحي و العقلي و الاجتماعي، فلماذا يصرّ المسيري إذا على أن ينعت المادية الغربية بكل التهم كانت تطابق المادية القديمة و ما قبل النسبية و تحولاتها الفكرية التي ألغت النظرية القديمة بالكامل؟ ربما للعاطفة و لمسلمات عقلية و أحكام مسبقة على الأشياء و (الرغبة) التي تتدخل في أحكامنا المنطقية دور أساسي في اتخاذه هذا المنهج.
يقول المسيري:
"و قد طور كثير من المفكرين هذه الظاهرة (أي ظاهرة الترشيد في الإطار المادي) و ربطوها بظواهر حديثة أخرى، من أهمها ظاهرة الإبادة النازية، ففي كتابها أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشّر (1963) تشير حنا أرندت إلى "السّـفـّـاح" أيخمن فتبين أنه لم يكن سوى بيروقراطي تافه عادي، يؤدي ما يوكل من مهمات مثل أي موظف في بيروقراطية حديثة، فهو من منظور الترشيد المادي، لم يكن سوى نتيجة منطقية (أو ربّـما حتمية) لعملية الترشيد المتصاعدة، التي تؤدي إلى نزع السمات الشخصية و تقويض الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية الشخصية". ـ العلمانية تحت المجهر ص 104 ـ 105
إن كون أحزابا و تيارات سياسية و في شتى أصقاع العالم أساؤوا إلى العقلانية و التنوير و العلم عبر اقترافهم جرائم و تأسيس نظريات عنصرية و عرقية ـ كما حصل مع النّازية و البعث العربي ـ لا يعني بالمطلق أن هذه المصطلحات و ما تحويه من معرفة و تطور هي شر و سوء و أنها سلبية، فالمسيري نفسه سيرفض تعليل البعض عن عدم إيمانهم بالله لأن هناك من ارتكب الجرائم باسم الله و هو ما سيعني أن مجرد وجود نوع من التشوه و استغلال شعار المعرفة لأغراض سياسية لا يكفي حجة لكي نقول أن العِـلم و المعرفة هي شرّ، فإذا كانت المعرفة شرّا فإن الجهالة و التمسك بالخرافة و الأسطورة هي أم الشّرور.
كما أن الفقرة التي انتقاها من كتاب حنا أرندت لا تعكس إلا المنهج الإنتقائي في التعامل مع النصوص، فوجود شخصية مثل "أيخمن السّــفـّاح" لا تعكس إلا العدمية و اللا عقلانية التي امتلكها النازيون، و إذ كنا بالفعل نعتبر النازية شرّا و كذا الحال مع المادية الماركسية التوتاليتارية فإن الأنظمة التي ترتكب الجرائم باسم الله و الدين هي أسوأ من تلك الأنظمة المادّيّة لأنها تضفي قدسية على أحكامها الظالمة، و مرة أخرى نكون قد تجاهلنا كل الأنظمة الإنسانية الغربية التي وقفت في وجه النازية مثل فرنسا و بريطانيا و الدولة الأقوى الولايات المتحدة، فجنود هذه الدول ضحوا بأرواحهم لتحرير الإنسان من دجل و كذب لبس لبوس العلم و التنوير و الحداثة، لذلك نجد أن الغرب شهد بالفعل تيارين أحدهما يتبنى النازية و مثيلاتها العنصرية و أخرى ـ و هم الأغلبية ـ يتبنون الإنسانية و الحرية و تقديس الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى الاستاذ المحترم جدا سهيل احمد بهجت1
شاهر الشرقاوى ( 2011 / 4 / 16 - 12:59 )
نستطيع أن نقول أن الإنسان يستطيع بناء أشياء -نسبية- و لكنها بالتأكيد لن تقنع الإنسان بأنه حصل على السعادة النهائية، و هب أن الإنسان الحديث أخطأ عبر المادية؟ فهل يقدم الدين حلا لقلق الإنسان؟ إن البعض يصور الله على أنه إله غاضب و غيور -كاليهود و المسلمين السنة- و بالتالي على الإنسان أن يعيش هاجس الغضب الإلهي و عذاب القبر و دخول جهنم لأتفه الأسباب، بينما يميل آخرون -كالمسيحيين و الشيعة الجعفرية و الإسماعيلية و العلويون- إلى وصف الله بالإله المحب الذي يعفو إلى جانب كونه عادلا، ففي كلا النموذجين نجد صورتين مختلفتين لإله واحد
*****************
اسمح لى بداية ان اعبر لك عن عظيم اعجابى بشخصك الكريم وبافكارك المحترمة
سوى ان لى بعض الملاحظات على الجزء المقتبس عاليه من مقالتك الرائعة

السعادة فى الاسلام هى نتيجة ..جائزة ..وليست غاية فى حد ذاتها..نتيجة ينالها العبد كدليل على رضا الله عليه لانه حل مشكلاته وحقق اهدافه فى الحياة دون ان يحيد عن منهاج الله فى الحياة وهو الحق والعدل والمساوة وعدم ظلم عباد الله
اعتقد يا اخى الفاضل ان منهاج كهذا فى الحياة حرى ان يجعل الانسان فى حالة سعادة دائمة
يتبع


2 - تكملة 2
شاهر الشرقاوى ( 2011 / 4 / 16 - 13:16 )
وان يبعده تماما عن اى شعور بالقلق ...فلماذا يقلق وقد فعل كل ما عليه .والتزم بالصدق والامانة واخذ بالاسباب .واستخدم علمه وعقله ..وبذل الجهد واتقن ادائه..وارضى ضميره؟
وأيا كانت النتائج بعد ذلك فهو يعلم بحكم ايمانه .ان الله سيجازيه خيرا حتما ان عاجلا او اجلا
لكن لا ادرى حقيقة من اين اتيت بان المسلمين السنة يعتبرون الله اله غاضبا وان الشيعة يعتبرونه اله عفوا متسامحا؟؟؟
الله يا اخى له الاسماء الحسنى الدالة على صفاته المطلقة ..يحققها وقت يشاء ويتجلى بها على من يشاء من عباده وفق عدله وحكمته وخبرته ور حمته وعفوه وانتقامه..
هو يغضب على الظلمة والطغاة ..ومستعبدى البشر .والظالمين لانفسهم ولا يغضب لنفسه فالكون كله لا يساوى شئ بجانب عظمته وجبروته ..لكنه ينتقم لعباده المظلومين من الطغاة والجبارين ...ولنا فيما يحدث فى بلدنا الان اية وعبرة
اما كوننا ننظر الى الله على انه غاضبا فقط او متسامحا فقط فهذا نقص لا يليق بجلاله .سبحانه وتعالى
الله يحب عبده المضيف الى الحياة ..المحسن لها ..المحب لعباده ..ويغضب على المفسد الظالم للناس والمهين لنفسه والمذل لها
يريد عبده حرا كريما عزيزا ..دائما
وتقبل تحياتى


3 - فهم عميق
حسين علي ( 2011 / 4 / 17 - 09:00 )
(إن كون أحزابا و تيارات سياسية و في شتى أصقاع العالم أساؤوا إلى العقلانية و التنوير و العلم عبر اقترافهم جرائم و تأسيس نظريات عنصرية و عرقية ـ كما حصل مع النّازية و البعث العربي ـ لا يعني بالمطلق أن هذه المصطلحات و ما تحويه من معرفة و تطور هي شر و سوء و أنها سلبية) رائع استاذ سهيل

اخر الافلام

.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ


.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا




.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل