الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقائدنا من صنع المحيطين بنا

واثق غازي عبدالنبي

2011 / 4 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تمهيد:

من سبقونا إلى الحياة يخطون بتربيتهم لنا أول حروف عقائدنا. فنحن ولدنا دون أن تكون لدينا عقيدة أو فكرة أو رأي، بل كنا عند ولادتنا اشبه ما نكون بالورقة البيضاء التي لم يمسها القلم بعد. فعقائدنا مكتسبة. وهي تختلف في شدة ثباتها من مجتمع إلى آخر ومن فرد إلى آخر تبعاً لظروف اجتماعية ونفسية وعقلية عديدة، ولكن في النهاية عقائدنا من صنع المحيطين بنا وليست من صنع أنفسنا، أو على حد تعبير أوسكار وايلد: (معظم الناس هم أناس آخرون، أفكارهم هي آراء أشخاص آخرين، حياتهم محاكاة، وعواطفهم اقتباسات).
ولكي يتأكد أحدنا من صحة هذا الرأي، ما عليه إلا أن يتخيل نفسه وقد ولد في مجتمع غير الذي ولد فيه. وليراجع معتقداته التي هو عليها الآن في ضوء معتقدات المجتمع الآخر المتخيل. بالتأكيد سوف يكتشف أن عقائده هي من صنع مجتمعه وأسرته وليست من صنع تفكيره الواعي. فمثلاً، هو يؤمن بالمسيحية لأنه ولد في أسرة مسيحية، ولو كان قد ولد في أسرة مسلمة لكان مسلماً ولربما من أشد المتعصبين للإسلام.
ونادراً ما تجد إنساناً أختار أو صنع عقائده، ومن يحاول أن يفعل ذلك يجابه بالمقاومة والرفض والمعاملة السيئة والعنيفة، وربما يخسر حياته مقابل محاولته تلك. أما الأغلبية العظمى فهم الذين يتبعون عقائد مجتمعاتهم التي يعيشون فيها، فهم يسيرون وفقاً لما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، وما ألفوه في مجتمعاتهم. ولا تكمن المشكلة في أنهم يعتنقون ما وجدوا عليه آباءهم، بل في إدعائهم أن ما اعتقدوه أو اعتقده آباءهم هو الحق والصواب الذي لا شك فيه، وأن المغاير لهم في العقيدة لا يملك سوى الضلال والانحراف. ويزداد الأمر سوءً عندما يبيحون لأنفسهم استخدام العنف للترويج لهذه العقيدة المكتسبة.
لعلنا لا نغالي إذا قلنا أن أي عقيدة دينية تبيح لأصحابها استخدام العنف ضد الآخر المخالف، هي عقيدة فاسدة تحتاج إلى المراجعة والتصحيح والتصويب والتنقية من العديد من الشوائب وأولها شائبة احتكار الحقيقة، التي هي مصدر لكل الشوائب العقائدية الأخرى، والتي تبدأ بالتعصب مروراً بالتطرف وصولاً إلى العنف الذي يتجلى في أقبح صوره بالجريمة التي نطلق عليها مسمى (جريمة العقيدة الدينية).

أصناف العقائد:

نستطيع القول أن العقائد في العالم تقسم إلى ثلاث أصناف رئيسة هي: العقائد الدينية، والعقائد الاجتماعية، والعقائد السياسية. وكل واحدة من هذه العقائد تستند في الغالب إلى عقيدة فلسفية تدعمها وتساندها أو تبرر لها أفعالها. ولا يمكن وضع حد فاصل بين هذه العقائد لأن كل واحدة منها يمكن أن تتحول إلى الأخرى، فمثلاً العقيدة الدينية لدى الكثير من الديانات، وعبر تاريخ الأديان الطويل، سرعان ما تتحول إلى عقيدة سياسية. وكذلك الحال بالنسبة للعقيدة السياسية التي يؤمن بها البعض كأنها عقيدة دينية لا يمكن مناقشتها. أما بخصوص العقيدة الاجتماعية فهي لا تنفصل عن العقيدتين الدينية والسياسية إلا في حالات نادرة. فالمجتمع القبلي مثلاً يستحضر الدين كداعم ومساند لعقائده، أما المجتمع المدني فالسياسة فيه قد تكون أكثر حضوراً من العقيدة الدينية. ومن الجدير بالذكر أن هناك تسميات كثيرة تستخدم كمرادف للعقيدة، منها الهوية، والثقافة، والحضارة، والتراث، والعرف وغيرها. ونحن هنا نميز بين كل تلك المسميات وبين العقيدة، ونفرق بينها معتبرين أن كل تلك المسميات هي مصادر لتشكيل العقيدة وليست العقيدة نفسها.

العقيدة والسلوك:

لقد أجمع علماء الفسلجة وعلماء النفس على أن اعقد جهاز في العالم هو عقل الإنسان، سواء في التركيب أو في الوظيفة. فمن ناحية التركيب هو يحتوي على ما يفوق العشرة بلايين خلية عصبية وهو رقم يساوي ضعف عدد سكان العالم تقريباً. أما من ناحية الوظيفة فهو يقوم بمهام كبيرة ومعقدة تبدأ بتنظيم الأفعال غير الإرادية كالتنفس ونبض القلب وحرارة الجسم والهضم وانتهاءً بالإدراك والتفكير والعواطف والتذكر والخيال والإبداع.
ويقسم علماء النفس العقل من الناحية الوظيفية إلى نوعين هما: العقل الواعي أو الظاهر، والعقل اللاواعي أو الباطن. العقل الواعي هو المسئول عن تحركاتنا الإرادية وعن عمليات التفكير ولذلك هو عقل نشط فعال. أما العقل اللاواعي فهو مسئول عن حفظ وتخزين الاعتقادات والأقوال والمشاعر الآتية من العقل الواعي، والتي تتحكم بالتالي في تصرفات وسلوكيات الإنسان الإرادية.
يرى علماء النفس أن الكثير من القناعات على المستوى الشخصي الذاتي، أو المجتمعي الشعبي، بل والعالمي حتى، هي قناعات متقبلة دون أن يدرك الكثيرون خطورتها لأن مصدرها العقل الباطن أو اللاشعور وليس العقل الواعي أو الشعور كما يعتقد الكثيرون من أصحاب المنطق العقلاني أو الاستنتاجي. ومن هنا ينشأ الناس وهم يعانون دون معرفة أسباب هذه المعاناة. إن أي سلوك عند الإنسان ـ مهما كان ـ لابد أن تكون وراءه قناعة مسببة له، فليس هناك أي سلوك يصدر من إنسان إلا وكان له دافع أو قناعة، وهذه الدوافع أو القناعات هي في أغلبها لا شعورية.
إذن، هل تتحكم عقائدنا بسلوكنا؟ الجواب باختصار نعم. وأن طبيعة السلوك من جنس العقيدة، فإذا كانت عقائدنا عدوانية وعنيفة كان سلوكنا عدوانياً وعنيفاً، أما إذا كانت عقائدنا متسامحة ورحيمة جاء سلوكنا متسامحاً ورحيماً أيضاً.

المصدر الاجتماعي للعقيدة:

إن ما تؤكد عليه العديد من الدراسات الاجتماعية، هو أن العقائد مكتسبة وليست موروثة، فلقد تبين لدى العديد من الباحثين في شؤون العقائد أن عقائدنا هي نتاج بيئتنا الاجتماعية. وهم يرون أن التفسير الاجتماعي لنشوء العقائد هو الأقرب إلى الواقع، فما يقال عن قدرة العقل المجرد على تحصيل العقائد واختبارها واختيارها ثبت أنه تفكير طوبائي لا يستند إلى الواقع. فالواقع العملي المعاش يؤكد على المصدر الاجتماعي للعقيدة. ولقد ذكرنا أن الإنسان يولد خالي من أي عقيدة، فالطفل كائن بيولوجي، ولكنه يتحول إلى كائن اجتماعي أو أخلاقي تدريجياً وبواسطة التربية التي تلقنه مبادئ العقيدة.
يقول الدكتور يوسف شلحت في كتابه (نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني): إن (الطفل حين يدخل العالم لا يحمل معه سوى طبيعة بيولوجية، غير خُلقية أو اجتماعية، تستطيع أن تتكيف بجميع الهيئات والأشكال. فهو لا يختار لنفسه لغة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها، بل هو المجتمع الذي يضطره إلى أتباع الديانة التي يشب عليها واللغة التي يتكلم بها. والواحد منا من ساعة نشأته يؤلف جزءاً من مجتمع له تعاليمه وأخلاقه ولغته وديانته وفنه وعاداته وتقاليده وتاريخه وأنظمته وخرافاته ومثله الأعلى، ولا بد له من التقيد بهذا الميراث والعمل به) [يوسف شلحت، ص 32-33]. ويضيف قائلاً: (لا نعتقد أن هذا الميراث الأدبي هو من صنع فرد معين، بل هي حكمة الأجيال يتناقلها الخلف عن السلف بتسلسل لا تُعرف غايته. وما كان للفرد أن يتقن حرفاً واحداً منها لولا وجوده في المجتمع. فقد علمه آباؤه احترامها والعمل بها، وأخذه أساتذته بعنايتهم فجعلوا منه كائناً اجتماعياً) [يوسف شلحت، ص 33].

التراثية والعقيدة:

ويمكن حصر جميع العوامل الاجتماعية المسئولة عن صناعة عقائدنا بكلمة واحدة هي (التراثية). وهو مصطلح قدمه عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في عدد من مؤلفاته كتعريب لكلمة (culture) التي عربها البعض خطئاً على أنها الثقافة أو الحضارة.
يعرف الدكتور الوردي التراثية على أنها: (مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته في مجتمعه المحلي) [في النفس والمجتمع العراقي، ص85]. ويعبر عن حالة الإنسان القابع في تراثيته بالإنسان الخاضع للتنويم الاجتماعي، وهو تنويم يشبه التنويم المغناطيسي من بعض الوجوه. وإن خضوع الإنسان للتنويم الاجتماعي يعني (أن عقل الفرد الذي ينشأ في تراثية معينة يصبح مشلولاً لا يفهم الدنيا إلا من خلال القوالب الفكرية التي أوحى بها إليه مجتمعه المحلي منذ طفولته) [في النفس والمجتمع العراقي، ص81].
ويتفق روبرت هـ. ثاولس مع الدكتور الوردي في لا شعورية العقيدة، إذ يقول: (أن الإنسان بشكل عام غير واع بأن الأساليب التي يبني عليها معتقداته هي أسباب منافية للمعقول، بل أنه يؤمن عن إخلاص بأن حججه معقولة.... وقد تثور حفيظته مخلصاً إذا ما قيل له ولو تلميحاً أن آراءه في المسألة المتنازع عليها لها مساس باعتبارات شخصية تؤثر فيه. وسبب ذلك أن الأسس الحقيقية لما يعتقده، تكون مخفية في سريرته لا يشعر بها شعوراً مباشراً. ولذا فهو ليس مرائياً، وإنما يخادع نفسه فقط) [التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، ص 161-162].
ولعل تأثير التراثية هذا على العقل اللاواعي للإنسان يلقي الضوء على حقيقة الجريمة العقائدية التي يرتكبها صاحبها ضاناً أنه يفعلها مختاراً ومؤمناً بها عن قناعة قلبية وعقلية، وهي في حقيقتها ليست سوى نتاج دوافع لا شعورية مصدرها التراثية التي ليس للإنسان دخل في صنعها، بل هي مما يفرضه علينا المجتمع الذي نشأنا فيه، فإذا كانت هذه التراثية أو القوالب الفكرية التي يخضع لها الإنسان تدعوه إلى العنف أو القتل أو تصفية الآخر، فعندئذ من السهل أن يتحول هذا الإنسان إلى مجرم عقائدي يرتكب جرائمه وهو مرتاح الضمير لأنه في حالة دائمة من التنويم الاجتماعي.

سجن العقيدة:

ليس من السهل أن تجد إنساناً استطاع الخروج من سجن عقائده التي نشأ عليها إلا فيما ندر وبصورة جزئية. فلا يمكن أن يكون التمرد على العقائد كلياً، بل هو تمرد على بعض ما جاء فيها. والسبب في ذلك يعود إلى أن هناك عدد من العوامل اللاشعورية التي تشل العقل وتمنعه من الخروج من سجن أو قفص العقيدة التي نشأ عليها. ولقد تناول عدد من الباحثين والمفكرين والكتاب هذه العوامل اللاشعورية، منهم: سلامة موسى، وعلي الوردي، وروبرت هـ. ثاوس.
ففي كتابة (حرية الفكر وابطالها في التاريخ) ذكر سلامة موسى أربعة دوافع للتعصب عدها الأسباب التي تشل العقل وتجعله قابعا في قفص التراثية، وهي: (الكسل، والمصلحة، والجهل، والخوف). وقد ذكر الدكتور علي الوردي في كتابه (في النفس والمجتمع العراقي) أربعة عوامل نرى انها لا تختلف كثيراً عن تلك التي قدمها سلامة موسى، وهي: (الجهل، والأنوية، والمصلحة، والعاطفة). أما روبرت هـ. ثاوس فقد عالج في كتابه (التفكير المستقيم والتفكير الأعوج) موضوعات الكسل والجهل والأنوية والعاطفة والمصلحة والخوف وغيرها من معوقات التفكير المستقيم بشكل تفصيلي دقيق. وفيما يلي سوف نحاول ان نُعرف القاريء بهذه العوامل بشكل مختصر جداً اعتماداً على ما ذكره هؤلاء الكُتاب الثلاث. ولكننا رغم ذلك ندعوا القارئ إلى الاطلاع على هذه الكتب الثلاث إذا شاء التوسع في أسباب ودوافع البقاء في سجن العقيدة.
وقبل أن نستعرض هذه العوامل نرى من المناسب التذكير بمعلومة أشرنا إليها سابقاً وهي أن العقل اللاواعي أو الباطن أو اللاشعور هو الذي يختزن العقائد، وليس العقل الواعي كما يعتقد أصحاب المنطق العقلاني أو الاستنتاجي. لذلك فالعوامل التي تشل العقل وتجعله قابعاً في قفص التراثية هي عوامل لا شعورية أيضاً. فضلاً عن ذلك فأن هذه العوامل تعمل سوية وبنسب مختلفة على إبقاء الفرد في سجن العقيدة.
(1) الجهل: قد يتساءل البعض عن سر تفوق بعض الأفراد وقدرتهم على تجاوز بعض المعتقدات التي نشئوا عليها. وعند البحث في سيرتهم تجد أنهم ممن تلقوا تعليماً أو معارف لم يتسنى لغيرهم الحصول عليها. وهذا يدفعنا إلى القول أن المعرفة أو العلم هي أحد عوامل خروج الفرد من سجن العقيدة أو من تأثيرات التراثية. والمعرفة أو العلم هي من اختصاصات العقل الواعي لكن تأثيرها كبير على معطيات العقل الباطن ومنها العقيدة. ومن ابرز مصادر المعرفة أو العلم الذي يعين الفرد على الخروج من سجن العقيدة أو التراثية هو الإطلاع أو التعرف على عقائد الشعوب أو المجتمعات الأخرى. وهذا الإطلاع يمكن أن يأتي من الدراسة أو السفر. فالإنسان الذي يتسنى له دراسة عقائد الشعوب الأخرى ـ سواء كانت دراسة رسمية أو غير رسمية ـ يكون أقدر على تجاوز حدود تراثيتة من ذلك الذي بقي قابعاً في جهلة. وينطبق الأمر على من سنحت له فرصة الإطلاع على مجتمعات أخرى، إذ أنه في هذه الحالة يسعى إلى المقارنة التي تعينه على التخلص من بعض ما نشأ عليه من تراثية.
(2) الأنوية: هي رغبة الانسان الذاتية في رفع مكانته بين الناس والحصول على التقدير والاحترام والاجلال. وهذا يجعله سعيداً مغتبطاً. وكلما زادت مكانته زادت سعادته وغبطته. وهو دائماً يحب أن يكون موضع فخار لا موضع عار. والأنوية نوعان: أنوية اجتماعية وأنوية فردية. الأولى تدفع بالإنسان إلى احترام التراثية والاستسلام لها. والثانية تدفعه الى التمرد عليها ومخالفتها. والانوية السائدة بين الناس هي الإنوية الاجتماعية، لذلك تجد اغلب الناس لا يرغبون بمخالفة ما وجدوا عليه ابائهم ومجتمعاتهم خوفاً من فقدان مكانتهم الإجتماعية واحترام الآخرين لهم، وخوفاً من أن يصبحوا موضع عار بدلاً من أن يكونوا موضع فخار.
مما سبق يتبين لنا الدور البارز الذي تلعبه الأنوية في حبس الإنسان في سجن العقيدة التي نشأ عليها، فهو يرفض التمرد على عقيدته أو حتى دراستها والنظر فيها، خوفاً من هبوط مكانته الاجتماعية، حتى ولو كانت هذه العقيدة مليئة بالخرافات والأساطير والظلم والطغيان. ولمزيد من الإيضاح نقول، أن الأنوية تساند التراثية وتدعمها. فالمجتمعات البشرية تختلف فيما بينها في نوع المكانة العالية التي يسعى الأفراد نحوها، أي في الأنوية التي يسعى لتحقيقها الفرد وذلك تبعاً للتراثية السائدة في ذلك المجتمع. فإذا كانت التراثية تمجد القسوة والعنف فالأنوية في الفرد عندئذ تدفعه إلى أن يكون قاسياً وعنيفاً حتى يحصل على الاحترام والتبجيل. وإذا كان العكس، أي إذا وجد مجتمع يمجد التسامح والتراحم فان الفرد يسعى لأن يكون متسامحاً رحوماً حتى يحصل على الاحترام والتبجيل. لذلك قيل إن المرء يسمو بسمو عقيدته وينحط بانحطاطها.
(3) المصلحة: إن الإنسان حين تكون له مصلحة في شيء معين فأنه يركز تفكيره كله على ابتكار الوسائل التي تمكنه من الحصول على ذلك الشيء، وبالتالي البحث عن الادلة العقلية والنقلية التي تدعم مصلحته تلك. فالمصلحة تجعل صاحبها ينتقل من التفكير الموضوعي إلى التفكير الذاتي. أو بتعبير آخر، ينتقل من الحياد إلى الانحياز. فالمصلحة تعمي صاحبها عن النظر في حقائق الامور من وجهات نظر مختلفة وتجعله احادي الرؤيا. فيصبح منحازاً إلى الفكرة أو العقيدة التي تحقق مصلحته مهما كان فيها من تخريف وتجديف وغباء. وإذا علمنا أن المصلحة المالية أو المعاشية كثيراً ما تكون متعلقة بالعادات والاعراف والتقاليد وبالتالي التراثية التي تشكل العقيدة، ادركنا ان تغير العقائد أو تبديلها يضيع على الكثير من الناس مصالحهم، وربما ينقلهم من حال إلى حال. لذلك تجدهم يحاربونها ويعارضونها بكل ما اوتوا من قوة.
(4) العاطفة: الإنسان إذا أحب شيئاً أخذ عقله يركز على محاسن ذلك الشيء ويغض النظر عن مساوئه. وعندما يتحول من الحب إلى البغض نحو ذلك الشيء تنقلب محاسنه إلى مساوئ طبعاً. إن الحقيقة بالنسبة للإنسان كالهرم ذي الجوانب المتعددة. والإنسان تحت تأثير عواطفه يصعب عليه أن ينظر إلى الحقيقة من جميع جوانبها بل هو يركز نظره على جانب واحد منها ويغض النظر عن الجوانب الأخرى. وبذلك فأن العاطفة تقود إلى التحيز، أو أنها التحيز نفسه، وهي لا تختلف بين المتعلم وغير المتعلم، بل أن المتعلم أقدر على إخفاء تحيزاته أو أثباتها بالحجج المنطقية من غير المتعلم، وهذا ما يجعل تحيز المتعلم أكثر خطراً من تحيز غير المتعلم، لأن تحيز غير المتعلم هو تحيز مكشوف وغير مدعم بالحجج المنطقية. إن التعليم (يجب أن يساعدنا على التخلص من التحيز، ولكنه في الواقع لا يفعل ذلك بحكم الضرورة. فغالباً ما يكون المتعلمون المثقفون مقيدين بتحيزاتهم كغيرهم من الناس. وقد يدافع الرجل المتعلم المثقف عن تحيزاته المنافية للمعقول بحجج في صور وقوالب منطقية صحيحة، في حين أن الرجل غير المتعلم يدافع عنها بحجج غير منطقية) [التفكير المستقيم والتفكير الاعوج، ص 156].
يضرب لنا الدكتور علي الوردي مثالاً عن تأثير العاطفة أو التحيز على العقل بالمجادلات طويلة الأمد التي تنشب بين الجماعات والفرق الدينية والذين يسميهم الوردي بالمفكرين العقلانيين أصاحب المنطق الاستنتاجي. فكل فريق منهم يلتقط الكليات العقلية التي تلاءم مقصده ثم يستنتج منها الآراء التي يشتهيها. وكذلك يفعل خصمه. ولذا فان المجادلات التي حدثت بينهم وما زالت تحدث لا نهاية لها وكل فريق منهم يعتقد أن الحق معه وان الباطل مع خصمه.
(5) الخوف: أحد العوامل المهمة التي تشل العقل وتجعله حبيس في سجن العقيدة هو الخوف. فالمجتمعات التي تعاني من الأرهاب الفكري أو الديكتاتورية هي مجتمعات عاجزة عن التفكير ومسجونة في قفص عقائد يقدمها صاحب القوة والسلطان على انها حقائق لا تقبل النقاش أو الجدل حتى ولو كانت هذه العقائد سخيفة وغبية. وهذا الكلام ينطبق على جميع انواع العقائد التي تطرحها الانظمة الديكتاتورية سواء كانت دينية أو غير دينية. ولعل من عاش في العراق خلال الربع الاخير من القرن العشرين يدرك جيداً حقيقة هذا القول. فضلاً عن ذلك، فأن الخوف الذي تزرعه بعض المعتقدات الدينية في عقول معتنقيها تجعلهم غير قادرين على التفكير. يقول سلامة موسى: (إن العجوز مثلاً قد تؤمن بالأولياء والقديسين وتتشفع بهم. ولا يمكن وهي في هذه الحال أن تطالبها بحرية المناقشة في ما يعزى إلى هؤلاء الاشخاص من الكرامات لأن خوفها يمنعها من أن تطلق لذهنها هذه الحرية) [حرية الفكر وابطالها في التاريخ، ص 18].
هذه هي العوامل الخمسة التي تشل العقل وتجعله منحاز إلى عقيدة ما ورافضاً مشمئزاً من عقيدة أخرى، بل أيضاً تجعله يعمل وفقاً لعقائد معينة دون غيرها.

الخلاصة:

خلاصة القول هي أن عقائدنا من صنع المحيطين بنا، وأن القليل منا من استطاع أن يصنع أو يختار عقيدته. وأن مصدر عقيدتنا هو المجتمع الذي نشأنا فيه بما يحمل من قيم وعادات واعراف وغير ذلك الكثير الذي يمكن تلخيصة بكلمة واحدة هي التراثية. وأن مصدر الايمان بالعقيدة هو العقل الباطن أو اللاشعور وليس العاقل الواعي أو الشعور. وأننا نخضع لهذه العقائد ونصبح حبيسين لها لأسباب خمسة رئيسة هي: الجهل، والانوية، والمصلحة، والعاطفة، والخوف. ولأن عقائدنا تتحكم بطريقة تفكيرنا فأنها بالتالي تتحكم بسلوكنا، وتجعلنا متسامحين ومحبين أذا كانت عقائدنا متسامحة ومحبة، أو تجعلنا متعصبين ومتطرفين وعنيفيين أذا كانت عقائدنا تدعي لنفسها أحتكار الحقيقة وتبيح لصاحبها استخدام العنف ضد الآخر المخالف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أهلا بكاتب رائع ومتميز
سامى لبيب ( 2011 / 4 / 22 - 20:50 )
تحياتى عزيزى واثق
مقال وبحث رائع ينبأ عن وفود كاتب رائع ومتميز لموقع الحوار المتمدن ..
تحليلك وتشخيصك لحالة الإيمان والإعتقاد دقيقة وواضحة ومتماسكة وتثبت مقولتى بأن الإيمان هو حظ الإنسان من التاريخ والجغرافيا أو بمعنى آخر أن الإيمان هو نتاج تخصيب حيوان منوى ما ..لبويضة ما ..تم فى زمن ما ..ومكان ما .

تحليك صحيح فى تشخيص الإيمان بالمعتقدات حاليا ولكن للبحث عن سبب ظهور الأديان فى البدايات الأولى سنجد بعض الإضافات والتى تتمثل فى البحث عن هوية إجتماعية وإنتماء لجماعة بشرية محددة لها أحلام ومشروع للتواجد والبقاء والتميز ولا يخفى مصالح نخبوية محددة ومشروع سياسى محدد يتمثل فى مشروع قومى .
العقائد والأديان ليست مشروع معرفة إنسانية للوجود والحياة كما يعتقد البعض فالفلسفة جديرة أن تقوم بهذا الدور ولكنها تقدم هذه الرؤية المعرفية فى سياق مشروعها الإجتماعى والسياسى الوحدوى حتى تطفى عليها القداسة .
وأرى بأن هذا العامل يمكن أن يضاف لأسباب الإعتقاد فى الوضع الراهن أيضا فمازال الدين يقوم بدور الحضانة الإجتماعية لمجتمعات مازالت فى دور التشرنق فى جماعة إنسانية محددة .

خالص مودتى


2 - اضافة مهمة جداً
واثق غازي عبدالنبي ( 2011 / 4 / 23 - 14:26 )
تحية طيبة عزيزي سامي لبيب
إن ما ذكرته عن اسباب ظهور الاديان ومحاولتها اضفاء صفة القداسة على مشروع يهدف بالاساس الى الهيمنة الاجتماعية والسياسية وليس البحث عن المعرفة واسرار الوجود هو صحيح تماماً. انا اتفق معك. اشكرك جزيل الشكر على هذه الاضافة. وبالمناسبة لقد ناقشت مفهوم المقدس في مقالة لي عنوانها (نقد فكرة المقدس) ، سوف احاول نشرها قريبا على هذا الموقع
مع خالص تحياتي


3 - الحوار كسب قلما مبدعا فهنيئا له
رويدة سالم ( 2011 / 4 / 23 - 19:37 )
سيدي واثق المحترم تحياتي واحترامي لك. ما قدمته هنا عمل رائع
بالفعل الاديان كلها صناعة بشرية صرفة صنعها الضرف الموضوعي للأفراد في احتكاكهم بالمجموعات التي ينتمون لها وليست أمرا فطريا كما يدعي المؤمنون
ضرفنا هو من يجعلنا ننتمي لهذه العقيدة او تلك ويكون تعصبنا للفكرة بقدر تعصب المحيط الذي نشأنا فيه
طرحك جيد وقلمك رائع وها أن الحوار قد كسب قلما سيكون له تأثير كبير
متابعة لكل ما ستتفضل بتقديمه

لك كل الاحترام سيدي


4 - التفسيرات البشرية المقدسة
Amir Baky ( 2011 / 4 / 23 - 23:09 )
لو هناك آية بتقول 1+1=2 وقال المفسرون أن تفسير هذه الآية بناتج يساوى 3 سيقرأ الناس هذه الآية مع تفسير المفسر دون الإجتهاد فى فهم نص الآية. وعمليا هناك مئات النماذج التى تؤكد على هذه الظاهرة الغريبة التى تتميز بها مجتمعاتنا

اخر الافلام

.. زفة الأيقونة بالزغاريد.. أقباط مصر يحتفلون بقداس عيد القيامة


.. عظة الأحد - القس باسيليوس جرجس: شفاعة المسيح شفاعة كفارية




.. عظة الأحد - القس باسيليوس جرجس: المسيح متواجد معنا في كل مكا


.. بدايات ونهايات حضارات وادي الرافدين




.. شاهد: المسيحيون الأرثوذوكس يحتفلون بـ-سبت النور- في روسيا