الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يصنع العرب ثقافتهم الحيوية؟

محمد نضال دروزه

2011 / 4 / 24
المجتمع المدني


إن انطلاق الانتفاضات الشعبية الثورية العربية في بدايات هذا العام 2011م، بدءا من تونس ومصر، استمرارا بليبيا واليمن والبحرين وسوريا، ولاحقا في دول عربية أخرى. تعني إن الشعوب العربية قد استيقظت من سباتها العميق. وبدأت تكتشف ذاتها وتعي أوضاعها الإنسانية المقهورة، فانتفضت ضد الذل والفقر والفساد والاستبداد. وأخذت تؤكد حضورها على أرض الواقع لتغييره. فهل تتحرر هذه الشعوب من ثقافتها الماضويه الجامدة التي تصنعها وتصنع أجيالها وتقعدها عن التطور؟ وهل تستطيع العمل على صناعة منظوماتها الثقافية الحيوية: الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ ولاستشراف الإجابة على هذا السؤال لابد من قراءة متفحصة للثقافة التي يصنعها المجتمع المنفتح. وقراءة للثقافة التي تصنع مجتمعا منغلقا وأجيالا معاقة ثقافيا ومتخلفة عن التطور.
تمكن الإنسان بعقله الذي يميزه عن باقي الكائنات الحية من صناعة ثقافته من خلال صراعه مع الطبيعة التي يعيش فيها، ومن خلال صراعه الاجتماعي. ففي صراعه مع الطبيعة صنع الأدوات والوسائل التي أنتج بها حاجاته وثرواته الضرورية لاستمرار حياته والمحافظة عليها. وأخذ يطورها على مر العصور. وهي تكاد تكون متشابهه بين جميع المجتمعات حتى القرن السادس عشر الميلادي . ومن خلال صراعه الاجتماعي ضمن صراعه مع الطبيعة. أنتج اللغة والمفاهيم والمعتقدات والقيم الفردية والنظم الاجتماعية. وتمرس على طرق في التفكير وكرس عادات وتقاليد لتنظيم التواصل الاجتماعي والمحافظة على الحقوق بين أفراد المجتمع وصراع القوى الطبقية فيه. ومما لاشك فيه أن المجتمعات لا تعيش في مناطق متشابهه المناخ والتضاريس والثروات المائية والطبيعية الأخرى.
فهناك مجتمعات تعيش في مناطق معتدلة المناخ وغنية بالثروات المائية والطبيعية التي تكون طيعة للتحويل والتصنيع بأيدي أفرادها. كما في جنوب ووسط القارة الأوروبية. حتى أن الإنسان الفرد فيها كان يستطيع أن يبني بيتا ليعيش فيه ويحيطه بمساحة من الأرض يزرع فيها ما يحتاجه من الغذاء النباتي بالإضافة إلى حظيرة يربي فيها بعض الحيوانات الداجنة التي يحتاجها. هذه المجتمعات أنتجت ثقافة ثرية بالمعارف الطبيعية، مما جعل إيمان الفرد والمجتمع بنفسه وبمعارفه أقوى من إيمانه بأي معتقدات تكون قد تكونت لديه أثناء صراعاته، لان انتصاراته التي كانت تغلب هزائمه في صراعاته أهلت عقله ووعيه لان يكون حرا وجريئا في العمل الواقعي والبحث التجريبي المثمر في غالب الأحيان في فهم المزيد من المعارف الطبيعية عن بنية الكائنات الحية وقوانين تطورها لتحسين أوضاعها وحمايتها من الآفات والأمراض والأخطار. ولفهم قوانين الظواهر الطبيعية والسيطرة عليها للحصول على المزيد من ثرواتها لاغناء حياته. فتمكن الإنسان في هذه المجتمعات بجهوده المتواصلة هذه من إنتاج ثقافة المعرفة العلمية والنقدية ضمن ثوراته الثلاث التي ظهرت خلال ثلاثة قرون تقريبا منذ بداية عصر العولمة حوالي القرن السادس عشر الميلادي حتى القرن الثامن عشر الميلادي والتي ما زالت مستمرة في التطور والتحديث حتى هذا العصر.
وهذه الثورات هي:
1- الثورة العلمية بتفوقها المعرفي الطبيعي العلمي على المعارف الوهمية والعقائدية والخرافية بفضل منهجها التجريبي النقدي في البحث والتفكير. بعيدا عن المنهج المثالي والخيالي البعيد عن التفكير الواقعي. هذه الثورة التي فتحت الطريق للثورة الصناعية.
2- الثورة الصناعية التي ضاعفت الإنتاج السلعي وبلورت الصراع الطبقي الجديد بين الطبقية الرأسمالية المستغِلة المالكة للمصانع ( وسائل الإنتاج ) وطبقة العمال المستغَلة، المنتجة للسلع وفائض القيمة، مما أدى إلى ظهور ثقافة التمرد لدى الطبقة العاملة والفئات المهشمة والفقراء في المجتمع ضد الطبقة الرأسمالية. وكانت أنظمة الحكم في تلك المجتمعات أنظمة قمع واضطهاد واستبداد. وكان هذا التمرد يظهر على شكل إضرابات وانتفاضات شعبية تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. مما هيأ إلى انتشار ثقافة التحرر والتمدن في الوعي الشعبي. وقد أدت هذه الحركات الشعبية إلى انطلاق الثورات السياسية والاجتماعية.
3- الثورات السياسة والاجتماعية: أطاحت هذه الثورات بنظم حكم الاستبداد. وأعلنت فصل السياسة عن الدين والمعتقدات، واتفقت على إطلاق حرية الاعتقاد وحرية التعبير في المجتمع. وأرست دعائم نظام الحكم المدني الديمقراطي القائم على الدستور المدني وسيادة القانون وفصل السلطات، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطه. وفي ظل ذلك نشأت النقابات للدفاع عن حقوق العمال وأصحاب المهن. وتكونت الأحزاب اليمينية واليسارية للمحافظة والدفاع عن الحقوق الطبقية. وانتخبت المجالس التشريعية والنيابية في تلك المجتمعات لوضع القوانين وتطويرها بما يناسب حركة التمدن والتحرر الاجتماعي ولحماية حقوق الإنسان. وتطورت المعرفة في القرن التاسع عشر الميلادي تطورا ثوريا، حيث ظهرت الفلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية بمنهجها المادي الجدلي في تحليل حركة التاريخ الاجتماعي في صراعه الطبقي وفي صراعه مع الطبيعة وفهم قوانين تطوره وإخفاقاته بفضل المفكر المبدع كارل ماركس. وظهرت نظرية التطور والنشوء والارتقاء في علم الكائنات الحية التطوري بفضل المفكر والباحث المبدع تشارلز دارون.
استفادت الكثير من المجتمعات من هذه الثورات ومنجزاتها وثقافتها العلمية والنقدية في دراسة موروثها الثقافي ونقده وإنتاج ثقافتها وحضارتها المعاصرة مثل اليابان والصين وكوريا وماليزيا وغيرها. والسبب في ذلك أن إيمانها بنفسها ومعارفها الطبيعية يغلب إلى حد ما إيمانها بمعتقداتها وقيمها الجامدة . مما هيأ عقلها ووعيها لهذه الاستفادة.
أما المجتمعات التي لم تستطع الاستفادة من تلك الثورات فهي مجتمعات تعيش في مناطق جغرافية شحيحة الثروة المائية والموارد الطبيعة الأخرى، مع قسوة تضاريسها الصحراوية القاحلة أو الجبلية الوعرة. ومناخها الشديد الحرارة أو الشديد البرودة. هذه المجتمعات في صراعها معها أدركت صعوبة تطويعها وندرة الحصول منها على الحد الأدنى مما يشبع حاجاتها الضرورية. فشعرت بالعجز والخوف والحرمان، فكبتت حرمانها المتواصل، وحتى تحصل على بعض الطمأنينة والتوازن النفسي انكفأت للإيمان بقوى غير طبيعية، وتجنبت مقاومة قوى الطبيعة العصية على التطويع، وأصبحت بحكم عجزها وخوفها منها طيعة أمامها وأمام قوى الطغيان في المجتمع لأنها تعودت على هذا التطويع والتدجين بهذا تكونت المعتقدات والثوابت القيمية المثالية في المجتمع مثل الحرام والحلال والثواب والعقاب في نفسية وعقلية أفراده على حساب الإيمان بالمعارف الطبيعية لندرتها. وأصبحت هذه المعتقدات والثوابت القيمية بمرور الزمن وتعاقب الأجيال من المقدسات التي تغيب العقل وتقيده حتى أصبح عاجزا عن التفكير في البحث عن المعارف الطبيعية. لان ذهنيات الكبت والخوف والحلال والحرام والاتكاليه والقمع قد أصبحت المكون الأساس له في نشاطه الفكري والسلوكي على ارض الواقع. وهذه هي ذهنيات العبيد في مجتمع العبيد الذي يعيد إنتاج التخلف بثقافة الخرافة والجلافة والجهل والتخمين والاستبداد بالرأي وإقصاء الرأي الآخر المختلف الغير مدجن والغير مطيع. كما يعيد إنتاج هذه الثقافة بكيفيات رجعية وتلقينية متشددة عبر الأجيال المتعاقبة حتى طغى العقائدي الطوباوي فيها على المعرفي الطبيعي، فأصبحت تأخذ من المعرفة العلمية ما يخدم مصالحها وعقائدها . ورافضة منهجها في إنتاج المعرفة. وبدلا من أن يصنع أفراد هذا المجتمع ثقافتهم بأنفسهم وعقولهم، أصبحت ثقافتهم الماضوية الأصولية هي التي تصنعهم وتنتج أجيالا مكبوتة الرغبات ممسوخة العقل، تعاني من الإعاقات الثقافية التي تقعدها عن التفكير العلمي وصناعة التغيير والتطور والتحديث. ومن الإعاقات الثقافية تقديس الكثير من المفاهيم والأعراف والعادات والتقاليد الموروثة ومنها الحرام والعيب وتحقير المرأة واعتبارها عورة ناقصة العقل يجب سترها خلف الحجب والحكم عليها بالوأد الاجتماعي المتواصل. كما أن أفراد هذا المجتمع يحاكمون بعضهم البعض بمعايير الحلال والحرام والثواب والعقاب، يخيفون بها بعضهم البعض، وإذا اقترف بعضهم الآثام والمعاصي يختبؤون خلف المفهوم التراثي :(إذا بليتم فاستتروا). فأصبحوا ضحايا استسلامهم لمستنقعات التخلف. إن هذا الخطاب الثقافي السائد في المجتمعات العربية لا يعول عليه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المستدامة لأنه يعيد إنتاج التخلف. ومنذ قرون وذوي النفوذ والسلطان في هذه المجتمعات، يعملون على قمع الحريات واضطهاد المجتمع واستغلال ثرواته لمصالحهم. فتفشى الفساد والإفساد وازداد الفقر والإفقار، وعمت ثقافة النفاق، ومن شدة قسوة هذه الأوضاع المذلة والخانقة، اندفعت الشعوب العربية في مطلع هذا العام بانتفاضات جماهيرية ضد الذل والفقر والظلم والاضطهاد والاستبداد، والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
تمكن الشعب التونسي والشعب المصري بفضل انتفاضاتهم الشعبية الثورية من إسقاط أنظمة حكم القهر والاستبداد التي كانت مسيطرة في كل منها. وما زالت قوى الشعب فيهما تعمل للقضاء على قوى التخلف والظلم والفساد والاستغلال وإعادة بناء نظام حكم مدني ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية. ومازالت جماهير الشعب الليبي تناضل وتكافح وهي تقدم الشهداء لإسقاط الطاغية القذافي ونظام حكمه الفاسد المستبد. وكذلك انتفاضة الشعب اليمني المستمرة التي تكاد تسقط الطاغية علي عبد الله صالح ونظام حكمه الفاسد المستبد.
وتتوالى الانتفاضات الشعبية في الدول العربية في البحرين والأردن وسوريا. وهي تطالب برحيل الحكام الطغاة وبإسقاط أنظمتها الفاسدة المستبدة. وهي تطالب بالتغيير والإصلاح السياسي وإطلاق الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الكرامة الإنسانية من أي انتهاك.
إن هذه الانتفاضات الشعبية الشبابية الجسورة المتسلحة بالعلم والثقافة المدنية والتي تثبت أنها تملك إرادة التغيير، إذا بينت أهدافها ونظمت صفوفها فهي مؤهلة لتصنع لشعوبها ثقافتها الحيوية حتى تستطيع هذه الشعوب صناعة ثقافة حاضرها ومستقبلها.
ان هذه الانتفاضات الثورية تشبه الانتفاضات الثورية في كثير من الدول في العصر الحديث من الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، والثورة الروسية والصينية في النصف الأول من القرن العشرين وقيام الجمهورية التركية. وغيرها من الانتفاضات والثورات التي أسقطت حكامها الطغاة وأنظمتها الفاسدة المستبدة وغيرت ثقافتها المتخلفة الراكدة، وصنعت ثقافتها الحية وأنظمة حكمها المدنية الديمقراطية. وقد تم لها ذلك بإرادة شعوبها التي أنتجت الأحرار في أحزابها ومؤسساتها التعليمية والتربوية والمدنية الذين قادوا مجتمعاتهم لصناعة ثقافة المعرفة العلمية والنقدية وثقافة التحرر والتقدم والتحديث. فالصراع الأساس في كل المجتمعات هو الصراع بين ثقافة المعرفة العلمية والنقدية وثقافة الإيمان بقيم مثالية وخرافية والتعصب لها. أن هؤلاء الثوار الأحرار في كل مجتمع اعتمدوا عدة خطوات ومبادئ لتحقيق أهدافهم. ومن هذه الخطوات:
1- دراسة تراثهم وتاريخهم بمنهج علمي وتحليلي ونقدي وتحريره من الأكاذيب والخرافات والتعصب والاستبداد. والإقرار بأهمية القيم الإنسانية الموجودة فيه، واعتماد المنجزات والمفاهيم التي تناسب المعاصرة من هذا التراث في صناعة ثقافة حاضرهم ومستقبلهم.
2- نشر ثقافة المعرفة العلمية والنقدية في المجتمع بكل الوسائل والأساليب الممكنة.
3- فصل السياسة عن الدين والمعتقدات والتعصب بكل أشكاله.
4- اعتماد حرية الاعتقاد وحرية التعبير في المجتمع وحمايتها في نص الدستور والقانون.
5- اعتماد المساواة بين المرأة والرجل في الدستور والقانون ومكافحة ثقافة الوأد الاجتماعي للمرأة.
6- اعتماد المواطنة أساس الانتماء والولاء للوطن في الدستور والقانون.
7- اعتماد حقوق الإنسان في دستور مدني ديمقراطي قائم على سيادة القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة في مجتمع التعددية والأحرار.
بهذا يستطيع الشباب العرب الثوار المنتفضين الاستفادة من تجارب هذه الشعوب وخطواتها نحو التحرر والتحديث، بوضع البرامج المرحلية المناسبة لمجتمعاتها حتى يمكنها الخروج من مستنقعات التخلف والتعصب إلى فضاءات الحرية وثقافة المعرفة العلمية والنقدية لتصنع ثقافة حاضرها ومستقبلها.
محمد نضال دروزه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - البدايه
منذر الخليلي ( 2011 / 4 / 25 - 17:43 )
البدايه هو ايمان هذه الثورات بالدوله المدنيه الديمقراطيه التي يتساوى مواطنيها بالحقوق و الواجبات و احترام الراي و الراي الاخر


2 - المقال المبتور
رائد الحواري ( 2011 / 5 / 10 - 15:35 )
فاجأنا نضال دروزة في مقالاته السابقة والتي تحدث فيها حول الحالة العربية ، وما تحمل من علائق البداوة والقبيلة،في زمن يتطلب منا استخدام الافكار النيرة والتخلي عن الكثير من مفاهيمنا البائدة في هذا العصر، لكن هذا المقال ـ باعتقتدنا ـ يمثل التحليل الماركسي المجرد الذي يبتعد كثيرا عن روح وحيوية الواقع، وهذا من ابسط القواعد التي تعتمدها الماركسية في تحليلها لاي حالة اجتماعية ولاي شعب من العالم، فهناك امور لا تخطع بتاتا للمصالح الاقتصادية التي اعتمدت عليها الماركسية وانما امور اخرى مثل المعتقد الديني الذي له الاهمية الكبرى في المجتمعات العربية والاسلامية، والذي يمثل اهم محرك عندها، ومن اطلع على كتاب حسين مروة ( النزعات المادية في التاريخ العربي الاسلامي) يجد عدم الدقة العلمية عندما حاول المؤلف وضع الحالة العربية في اطار النظرية الماركسية، فهي ذات وضع وظروف تتبابن كثير عن الظروف الاخرى،واذا عدنا الى القرن الماضي وما صاحب الحالة العربية من احداث وحروب نجد بان هناك عمل واضح وصريح ضد العرب، يحول دون تطورهم نحو الافضل، ويمنعهم من الحصول على مصادرر القوةالعسكرية، ويضع العقبات امام توحدهم ل

اخر الافلام

.. لبنانيون ولاجئون هجّرتهم الغارت الإسرائيلية يروون معاناتهم و


.. طلاب جامعة السوربون بفرنسا يتظاهرون من أجل غزة ولبنان




.. شاهد| دبلوماسيون يغادرون قاعة الأمم المتحدة بعد بدء خطاب نتن


.. نزوح من مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان




.. خطاب أمام الأمم المتحدة وتصعيد للقصف على بيروت.. كيف يفسر سل