الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حركة النهضة التونسية: سفور المعنى

محمد نعمان

2011 / 4 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا ما تعلّقت المسألة بسبر الفضاء الفكري لحركة النهضة التونسية نصطدم بكتل دلالية تتخذ منحا لينا لطيفا مخاتلا. إن لا استقامة تصورها السياسي يبدو بيّنا وإن تسربل بالغموض، فآلية تسويق الحركة لخطابها يتشدّد في إظهار طهارتها ونقائها على نحو مبالغ. بالمواجهة يتحوّل السياسي المعارض لخطاباتها إلى مدقّق معرفي يروم تحديد البؤر المخفيّة في هذا النهج السياسي، لكن لا تسعفه المقدرة التحليلية على تمثل رجعية هذا الاتجاه. قد لا يفلح إذن، فيقتصر مبحثه على تتبّع التصريحات السافرة لقيادات الحركة، أو الرجم الغيبي في تحديد النيات. هذا الإطار ينقصه التمعّن والتدبّر، فالسطح لا يخفي إطلاقا لؤم الحركة، بل إن ظاهرها ينبئ بشكل منطقي بالنفاق والرياء السياسي.
الترجمة المحوريّة لنهج الحركة يعتمد لعبة آلية قوامها التماثل الكاذب، فيحاول السياسي منهم أن يقف على قيم الحداثة المعاصرة التي تشغل صيتا إنسانيّا مميّزا، ثم بعدها يجنح إلى البحث الدلالي داخل التراث الإسلامي عساه يجد مرادفا وهميّا أو مرجعا يستدلّ من خلاله على الأسبقيّة الاسلامية في طرح هذه القيمة، مع ممارسة تعسف المماهاة و ربما يلجأ في وقت لاحق إلى التفاضل، وكذلك السكوت عن لا تاريخية هذا النهج وانتقائيته المهينة. ما يتحقق بالفعل هو نسيج من صنف التماثل الطقوسي الهزلي بين الديمقراطيّة والشورى؛ فالأولى تحمل ثقلا دلاليا تاريخيا متحوّلا ومتجدّدا ونسبيّا، لكنّها تُرسخ داخل ثبات دلالي مبتذل يصلونها بحيلهم ساذجة مع الشورى السلفيّة فيغتالون اتساع معناها ورأسمالها الرمزي في فضائها الغربي. إنّه "التغرّب اللاواعي" تخطيط متخاذل أمام قيم العصر، عجز يتبدى وُسْعا واقتدارا. إننا نرى أنفسنا متضائلين أمام الحداثة المعاصرة فنختلق وهم أسبقيتنا الأسطورية في إبداع المفهوم.
لقائل أن يقول: ما الضير في ذلك، أنا أحمل أدلجة سلفيّة تقوم على الترويج المعاصر لسياستي؟ بالطبع، هذا مباح ما لم يغدو الأمر تحامق ممجوج لا يقوم إلّا على مغالطات توحي بالمعاصرة والإصلاح، في حين أن القصد الحقيقيّ منها، هو التستر تحت ركام من الألوان الفاقعة؛ لتُحشر تحتها قيم سلفيّة مؤذية للمجتمع والدولة. ولفهم هذا، إليك نموذج من هذا النهج التعسّفي: مسألة الحجاب. المنحى السلفي واضح في هذا الطرح، هو يقوم على التسليم بتحريم ترك الحجاب، وعبر فهمه لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشغل السياسي السلفي دورا تنفيذيا في تطبيق حكم الله. الحركة، على خلاف النهج السلفي، تنطلق من التسليم بتحريم ترك الحجاب، ثم تصرّح بأنّها لن تمارس ضغوطا على السافرات قصد إرغامهنّ على التحجّب، وتكتفي فقط بالتأثيم. ممّا يعني أن الحركة لا تخرج عن السلفية من حيث المنطلق ولكنّها تختلف، من حيث التصريح لا الممارسة، في سياسة الإلزام. لا وجود إذن، لنهج إصلاحي، بل هو مجرد تعطيل لحكم، يصمت قيادي الحركة عن مقوماته الشرعية، فلا يتحدد إلا من باب "الضرورات تبيح المحظورات"(1) أو من باب التقيّة لا غير. لنفترض بالتالي، تحقق الأمر لهم، وسقوط الضرورات أو زوال القهريّة الموجبة للركون إلى المهادنة. سنكون إذن أمام مطلب جمهور الحركة بالرجوع إلى قيم السلفيّة الحقّ. هذا هو عماد الحركة.
للمحدث، بالمقابل، أن يزعم بخلطي وسوء تدبّري، فالحركة تعتمد على الرؤيا المقاصدية بما لها من عمق إصلاحي داخل الدائرة الدينية. نعم، لا مردّ لهذا، إلّا أنك تلحظ التالي: عندما يتعلّق الأمر بالحجاب مثلا لن تجد اجتهادا مقاصديّا، فليست المسألة إذن بحث تأوّلي عن توفّر لمقاييس جديدة تفيد العفّة، بل تجد تمسّكا جوهريّا بالحجاب كدليل يتيم على العفّة. ما تطبّقه الحركة من نهج مقاصدي يشمل "الأحكام المستحيلة" أي؛ ما لا يقو المجتمع على مجرّد التفكير في تطبيقها إطلاقا، كحكم السارق (قطع اليد) والزاني (الرجم)، و مجرّد التصريح بقبول حكمها يخرج الحركة من ميزان القبول الاجتماعي لتدلف الفضاء الميت الهجين. لهذا فتقنية اللعب على حبل المقاصد انتقائية تقوم على الدفاع لا على التأسيس. السؤال هنا: ماذا لو تحوّلت هذه "الأحكام المستحيلة" إلى معنى مقبول عبر اقتحامه الإشكال الاجتماعي ولو تصنّعا وقسرا؟ ستتجلى، عندها، نزعة الحركة السلفية سافرة، وتسعى حثيثة حينها إلى تدمير وإفساد وتعديم المقاومة.
تأمّل معي هذا، وهو مقتطف من كتاب راشد الغنوشي "مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني" في سياق حديثه عن تعدّد الزوجات: «وهو ليس أصلا أي ليس فريضة من فرائض الدين و إنما هو حلّ استثنائي لضرورات لا يمكن تجاوزها إلا بأضرار أكبر سواء أكان الداعي إلى ذلك رغبة جامحة لدى الرجل أم ضرورة دفعت المرأة إلى القبول، أم وضع اجتماعي خاص كتلافي مخلفات حرب أم غير ذلك[...](2) ولأن المسلمين توسّعوا في إعمال هذا الاستثناء فظلموا، فقد رأى بعض الفقهاء إمكان الحدّ من التعدّد أو إخضاعه لشروط بما يعيد الأمور لنصابها» (3) قول نموذجي يأمّ الإطار التأليفي للشخصيات القيادية بالحركة، يجتهدون بمأمن فقهي، فلا يعدّ التعدّد هنا أصلا، وهو ما يذهب إليه أغلب الفقهاء، ولكن مع هذا هناك سياق مقاصدي يتخذه الغنوشي كمنحا تبريري يصطنع فضاء افتراضي محتمل، لا ليصل لتغاير المسوغات وبطلان الحلّ، و إنما تكتشف بأن المقصد مازال متطلبا واقعيا معاصرا. فالنهج المقاصدي هنا تحوّل من عنصر تحديثي إصلاحي إلى مجال تبريري لتواصل التعدّد راهنا. ما يصل إليه الغنوشي كنتيجة لطرحه هو إمكان الحدّ أو تقييده لاعتبار المظلمة. فإن تحقق العدل توجب العدول عن الحد والتقييد. الرجل إذن، لا ينكر تعدّد الزوجات، بل يجد له مسوغات راهنة، يبيح الحدّ ولكنه يفترض إمكان العود إلى النصاب. إذن، المبدأ الذي يعلنه على صفحات الجرائد التونسية بموافقته على منع تعدد الزوجات، ليس نزعة منه إلى الإصلاح عبر إطار مرجعي يستهجن التعدّد وإنما هو قبول بإمكان إلى حين تحقق التمكّن تحت لواء «بما يعيد الأمور إلى نصابها». موقف تعودنا تفاصيله، يعلن الثابت ثباتا، ويبيح إمكان المخالفة تصريحا، و يترك لنا مجال فضّ المعنى.
التقنّع الخفيف و إن أسدل ستارا يدرأ سفور المعنى السلفي الحقيقي للحركة فإنه لم يفلح في اتخاذ واجهة إصلاحية مقارنة مع الواقع التونسي المتحقق؛ فالشخصية التونسيّة، والحقل الاجتماعي الذي أفرزه التطوّر التاريخي للبلاد يفتح المجال لمفكري الإصلاح الديني من صنف محمد الطالبي وهشام الجعيط ومحمد الشرفي وعبد المجيد الشرفي(4) لا لقيادي الحركة تلك الثلّة السلفيّة المتقلّبة، فنظام قولها يروم النكوص وهو يعلن النهوض، غايته الأساسيّة الحاكميّة للّه تحت رداء فضفاض يلقبونه بالشورى. المبدأ الأساسي لحراكهم هو التعمية على أسبقيّة المصدر الألوهي على المصدر الطبيعي/الشعب؛ فما يحقّ التحاور ضمنه، فجر التمكّن والغلبة، هو ما لم نسترشد بنص قاطع أو سنّة أو أجماع أو اجتهاد فقيه يعلن رأيا فيه لا رجعة عنه. ديدن هؤلاء إثبات حصيلة هُويّة وهمية مأسطرة لا إثبات صالح عام ولا تنمية اقتصادية.

(1) ألم يقل راشد الغنوشي في معرض تبريره لإمضائه الميثاق الوطني زمن الرئيس المخلوع بأنه كان "تأسيسا على فقه المصالح والضرورات". من تجربة الحركة الاسلامية في تونس، راشد الغنوشي، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن، ص 127
(2) داخل هذا الإطار، قمت بحذف هذا: «وفي الأحوال العاديّة لم يتجاوز الاستثناء إحصائيّا 2%» لكم أن تتصوروا مستقبلا، بعد خلاص التونسيين من إحصائيات مختلقة قوامها التضخيم التنموي للطاغية المخلوع، ظهور إحصائيات مختلقة قوامها الدعوية السلفية. الرجل في المؤلف المذكور لم يسعفنا بالمرجع الإحصائي وترك لنا سبيلا واحدا هو التصديق.
(3) مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، راشد الغنوشي، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن، 1999، ص77.
(4) المفكرون الجدد في الإسلام، رشيد بن زين، نقله عن الفرنسية حسان عبّاس، سلسلة معالم الحداثة، دار الجنوب للنشر، تونس، ص201-226.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل الاحتفال بعيد القيامة المجيد.. تعرف على تاريخ الطائفة ال


.. رئيس الطائفة الإنجيلية يوضح إيجابيات قانون بناء الكنائس في ن




.. مراسلة الجزيرة ترصد توافد الفلسطينيين المسيحيين إلى كنيسة ال


.. القوى السياسية الشيعية تماطل في تحديد جلسة اختيار رئيس للبرل




.. 106-Al-Baqarah