الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كيف تسلطت تكريت على العراق
محمود الشمري
2011 / 5 / 18دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كانت تكريت قرية صغيرة فقيرة, وكانت في بدأ تأسيس الدولة العراقية مركزآ لناحية تكريت الأدارية, التابعة لقضاء سامراء التابع للواء (محافظة) بغداد. وكانت الوسيلة الرئيسية لمعيشة سكانها, بالأضافة الى الزراعة ورعاية الاغنام, نقل مختلف منتوجات منطقة العراق الشمالية الى بغداد بواسطة نهر دجلة وكانت واسطة النقل "الاكلاك" (جمع كلك) المؤلفة من جذوع الاشجار التي كانت تقطع من غابات المنطقة الجبلية. وكانت هذه الجذوع تُشدّ بعضها الى بعض وتعوم على القرب المنفوخة وتوضع فوقها مختلف المنتوجات (من فحم وفستق و...) وتنحدر مع الماء الى بغداد في رحلة قد تستغرق عدة اسابيع. وبعد وصول الأكلاك الى بغداد يباع ما عليها من منتوجات ثم تُفسٌخ فتباع الجذوع التي كانت تُستعمل وقتئذ في بناء سقوف المنازل البغدادية, وكذلك تباع القرب. وبعد ان يصفَي الناقلون أعمالهم يقفلون راجعين الى تكريت بعد ان يتزودوا بمختلف البضائع والحاجات من اسواق بغداد بانتظار السنة القادمة ليعيدوا الكرَة من جديد.
وكان بعض رجال هذه القوافل النهرية يتخلَفون عن الرجوع الى تكريت ويفضَلون البقاء في بغداد ويستقَرون على الاغلب في الجانب الغربي منها- الكرخ-. وبمرور الزمان؛ تكونت جالية تكريتية ونشأ في الكرخ حيٌ سمي بأسمهم- حي التكارتة-. وبطبيعة الحال استفاد ابناؤهم من قرص التعليم التي كانت توفرها مدينة بغداد. وبالنظر لأنهم من ابناء السنة, فلم يجابهوا أية صعوبة في الأنضمام الى المدارس الحكومية- الرشدية ثم العسكرية, وغيرها من المدارس الأخرى التي كانت وقتئذ- اي في العهد العثماني- محرَمة على ابناء الشيعة.
وكان حال هؤلاء التكارتة حال سائر الوافدين الى مدينة بغداد من الريف والقرى الواقعة فيما كان يسمَى "سنجق دجلة" وهي المدن والقرى التي كانت تقع على سواحل نهر دجلة امتدادا من مدينة بغداد شمالا الى سامراء (بأستثناء مدينة بلد الشيعية), فالدور, فتكريت, فالشرقاط, فالموصل, وكذلك في ما كان يسمَى "سنجق الفرات" وهي المدن والقرى التي تقع على سواحل نهر الفرات الى الشمال من بغداد ابتداء من الفلوجة, فالرمادي, فهيت, فكبيسه, فراوه, فعانه.. الخ وقد كان لهذه الهجرة من السنجقين الآنفي الذكر الى بغداد اكبر الاثر على مصير الحكم في الدولة العراقية, كما سنرى. ولكن الذي ميَز تكريت عن غيرها من المدن والقرى الآنفة الذكر, حادث لم يتمكَن سكان تلك المدن والقرى من الاستفادة منه بالمقدار الذي استفاد منه ابناء تكريت.
بعد تأسيس الدولة العراقية, برز من بين التكريتيين الموجودين في بغداد ثلاثة اشخاص لعبوا دورا اساسيا في تحقيق التسلَط التكريتي على العراق وفي تأسيس ما أصبح في الواقع "حكما تكريتيا"؛ تطور حتى اصبح بعد ذلك "حكما صداميا". ويأتي في مقدمة هؤلاء الاشخاص الثلاثة مولود مخلص الذي لعب دورا اساسيا في تحقيق هذا التسلَط. اما الشخصان الآخران فهما سعيد التكريتي؛ ويوسف عز الدين الناصري.
لقد كنت اعرف واحدا من هؤلاء الاشخاص الثلاثة معرفة شخصيَة, هو يوسف عز الدين الناصري. اما الشخصان الآخران اعني مولود مخلص وسعيد التكريتي, فلم تكن لي معرفة شخصية بأي منهما. لقد كان مولود مخلص ضابطا عسكريا في العهد العثماني, وكان زميلا لنوري السعيد في كلية اسطنبول الحربي (1903-1906) وقد اشترك في الثورة العربية التي اندلعت في الحجاز في سنة 1916 وابلى فيها بلاء حسنا وجرح ثماني مرات وكان من المقربين من الملك فيصل الاول ويتمتع بعطفه. وقد عُيَن بعد تأسيس الدولة العراقية, متصرفا (محافظا) للواء (محافظة) كربلاء, ثم اُنتخب نائبا في مجلس النواب, ثم اُنتخب رئيسا له, ثم عُين عضوا في مجلس الأعيان. وكان عضوا في الحزب الوطني الذي كان يرأسه الزعيم الوطني جعفر ابو التمن(1922-1925).
اما سعيد التكريتي, فقد كان ضابطا عسكريا وكان في وقت من الاوقات سكرتيرا لوزارة الدفاع. اما يوسف عز الدين الناصري فقد ربطت بيني وبينه في وقت من الاوقات معرفة شخصية بسبب الوظيفة التي كان يشغلها كل منَا. فقد كنت اشغل وظيفة سكرتارية وزارة المعارف (1931- 1934) عندما كان يوسف عز الدين الناصري مديرا لمنطقة معارف بغداد. وكان رجلا متواضعا دمث الاخلاق طيَب المعشر محمود السيرة. وقد خدم هؤلاء الثلاثة قرية تكريت التي يرجع اليها اصلهم خدمة صادقة لا تقدَر.
كان فقر تكريت الحافز الذي مكنها من تبوأ المكانة التي تبوأتها فيما بعد. فقد تأسست فيها مدرسة اولية تكاملت بمرور الزمان حتى اصبحت مدرسة ابتدائية كاملة ذات ستة صفوف. وكانت هذه المدرسة موضع رعاية الاشخاص الثلاثة, ولاسيما منهم يوسف عز الدين الناصري, الذي كانت المدرسة تابعة لمنطقته-منطقة معارف بغداد- وقد كان يهتم لامرها ويوفر لها كل ما تحتاجه. وبمرور الايام ضاقت صفوفها بعدد التلاميذ المسجلين فيها, وازداد عدد المتخرجين منها زيادة كبيرة, ولم يكن في وسعهم متابعة دراستهم في بغداد بسبب الفقر والعوز الذي كان يعاني منه اباؤهم. وام يكونوا مستعدين للرجوع الى مهنة الزراعة والرعي. واصبحوا في حيرة من امرهم وبدا لهم واكانهم يواجهون طريقا مسدودا.
وفي يوم من الايام خلال العشرينات, قررت وزارة المعارف تاسيس دار في بغداد لتهيئة معلمين للتعليم في المدارس الاولية او الريفية التي كانت عازمة على تاسيسها في مختلف قرى الريف العراقي. وكانت في حاجة ماسة الي المعلمين لها, وقررت ان يقبل في هذا الدار خريجوا الدراسة الابتدائية فيمضون فيها ثلاث سنوات يفوزون عند تخرجهم في نهايتها بشهادة تعتبر قريبة في مستواها من شهادة الدراسة المتوسطة. وكان المقبولون, كما سبق وقلنا, يتعهدون عند قبولهم فيها ان فيخدموا بعد تخرجهم منها التعليم في المدارس الاولية الريفية ضعف مدة الثلاث سنين التي يمضونها في دراستهم, اي ست سنوات, وذلك مقابل انفاق الحكومة على تعليمهم واسكانهم والباسهم واطعامهم. وهكذا تدفق عدد كبير من خريجي مدرسة تكريت الابتدائية على الدار المذكورة التي كانت في الواقع مخرجا لهم وحلا لمشكلتهم.
وكما قلنا سابقا؛ قرر الملك فيصل الاول في اواخر العشرينات؛ في سنه 1927, او بعدها (لا اعرف التاريخ بالضبط) ان يفتح قسما تمهيديا (احتياطيا على حد تعبيرالملك فيصل) في الكلية العسكرية لابناء العشائر او غيرهم ممن اكملو الدراسة المتوسطة او مايعادلها ولم يكملوا الدراسة الثانوية لعدم توفر مدرسة ثانوية في مناطقهم (محافظاتهم), على ان تكون مدة الدراسة فيه, اي القسم التمهيدي, سنتين, يفوز الناجحون في نهايتهما بشهادة الدراسة الثانوية او ما يعادلها, وذلك بغية اعدادهم للدخول في الكلية العسكرية. وكان التلميذ يلتحق خلال السنتين في قسم داخلي اسوة بطلاب الكلية العسكرية. وكان هدف الملك فيصل من فتح هذا القسم التمهيدي, ربط العشائر, ولاسيما الشيعية منها- بالجيش. ولكن هذا المشروع مات بموت الملك فيصل. فلم يُقبل في هذا الصف من ابناء العشائر إلا عدد محدود جدا ربما لا يتجاوز اصابع اليد, الأمر الذي ازعج الملك فيصل في وقته, كما يتبين بوضوح من كتابه الموجه الى وزارة الدفاع: ماهو السبب في فشل المشروع؟ هل كان السبب لان المشروع لم يلاق ترحيبا في اوساط ضباط الجيش فتلكأوا في قبول ابناء العشائر في ذلك القسم؟ لا ندري.
غير ان الفرصة الذهبية التي اتاحها فتح هذا القسم في الكلية العسكرية, لم تفت على معلمي المدراس الريفية من ابناء تكريت. وكيف تفوت عليهم وبواسطتها ينتقل الواحد منهم من معلم منسيَ في قرية نائية الى ضابط في الجيش العراقي, فتفتح امامه افاق لا حد لها, كما حصل بالفعل, فأصبح احدهم رئيسا للوزراء واخرا رئيسا للجمهورية. وهكذا سارعوا الى اغتنام هذه الفرصة فتقدَموا بعرائض الى وزارة المعارف يطلبون فيها اعفاءهم مما كان قد بقي عليهم من مدة الست سنوات التي كانوا قد تعهدوا ان يخدموا خلالها في التعليم في المدارس الاولية الريفية. وامتنعت وزارة المعارف في بادئ الأمر عن الاستجابة لطلباتهم لسبب وجيه هو انهم كانوا يدَرسون في مدارس اولية ريفية معظمها ذات معلم واحد. فاذا اعفي المعلم من تعهدُه تضحى المدرسة الريفية بدون معلم وعندئذ, تضطر ادارة المعارف الى اغلاقها حتى تجد معلما يحل محل المعلم المعفي من مدة تعهده. ولكن جهود العين مولود مخلص لدى وزير المعارف ولدى رئيس الوزراء, تمكّنت من التغلب على معارضة وزارة المعارف التي وافقت في نهاية الأمر على اعفاء المعلمين الآنفي الذكر من المدد المتبقية من تعهّداتهم. وهكذا انضموا الى القسم التمهيدي (الاحتياطي) والتحقوا بالقسم الداخلي يتعلمون ويعيشون على حساب الحكومة وبعد نجاحهم في نهاية السنتين اللتين امضوهما فيه, اي القسم الداخلي, دخلوا الكلية العسكرية وتخرجوا منها ضباطا في الجيش العراقي. ولا اعرف بالضبط عدد الذين اغتنموا هذه الفرصة ولكن اعتقد انه كان كبيرا أوجد لهم وزنا ونفوذا في اوساط هيئة ضباط الجيش العراقي. ولا بد انه كان من بينهم طاهر يحيى واحمد حسين البكر ورشيد مصلح وغيرهم. وهكذا اراد الملك فيصل شيئا وتحقق شيئ آخر.
في سنة 1952 اسس حزب البعث العربي الاشتراكي فرعاً له في بغداد وأخذ يبث دعوته بين العراقيين وانتمى اليه عدد منهم من مختلف الفئات الدينية والمذهبية والاقليمية. ولم يكن يغلب عليه في بادئ الأمر طابع أيّة من الفئات الآنفة الذكر. وتم انتخاب فؤاد الركابي, وهو شاب عربي شيعي من مدينة الناصرية في لواء المنتفك سكرتيراً للحزب. وكان اكثر المنتمين اليه من المدنيين. ثم اخذت دعوته تنتشر بين ضباط الجيش العراقي فانتمى اليه عدد منهم كان من بينهم احمد حسن البكر وحردان عبد الغفّار, وهما من تكريت, وصالح مهدي عماش وحسن النقيب وعبد الستار عبد اللطيف ومنذر الونداوي ومحمد علي السباهي وغيرهم وعدد آخر من الضباط الشبان وكثير منهم من ابناء تكريت.
وقد غير انتماء الضباط العسكريين الى الحزب في وضعه تغييرا كبيرا. فأصبحوا, اي الاعضاء العسكريون, بمرور الوقت, هم اصحاب الكلمة النافذة فيه. ثم اندلعت ثورة 14 تموز 1958 التي استولى بواسطتها على الحكم في العراق الضباط العسكريون الذين فجروها, الأمر الذي زاد في نفوذهم في كل مكان في العراق وفي جميع المؤسسات, ومنها حزب البعث. وهكذا تسلّط بمرور الوقت الاعضاء العسكريون, وقسم غير قليل منهم, ولا سيما البارزون منهم, كأحمد حسن البكر, من ابناء تكريت. وقد تجلّى تسلّط التكريتيين على الحزب في ثورة 8 شباط 1963, اذ أصبح أحدهم- احمد حسن البكر- رئيسا للوزراء. واخيراً تم استيلاؤهم في 18 ثم في 30 تموز 1968 على الحكم استلاءٌ تاماً بصيرورة احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة.
اما كيف استولى صدام على الحكم فتلك قصة اخرى.
المصدر:-
كتاب مشكلة الحكم في العراق / من فيصل ألأول الى صدام – تأليف عبد الكريم الأزري
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. نتانياهو يتوعد الحوثيين بالتحرك -بقوة وتصميم-
.. مالذي ترمي إليه إسرائيل في جنوب سوريا؟ • فرانس 24 / FRANCE 2
.. صواريخ الحوثيين في باطن جبال اليمن
.. الجزيرة تحصل على وثائق تكشف دفن جثث 1200 معتقل في حمص وكيفية
.. بهدف طمس الأدلة.. النظام السوري السابق كان يعطي رمزا لكل جثة