الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دهوك بلورة الجبال الخضراء

حسين رشيد

2011 / 5 / 31
المجتمع المدني



المدن التي تبقى بالذاكرة لها مواصفات وصفات، تجعلها تحجز مكانها بين كل الاشياء الساكنة في الذاكراة بسهولة، وقد تكون دهوك واحدة من هذه المدن التي تتمتع بكل صفات وموصفات المدينة الحضارية المتقدمة والمتجددة بشكل دائم. الحركة العمرانية متسارعة حتى انك بين زيارة واخرى تجد هناك فرقا كبير، فالشوارع الجديدة تشق بين الجبال، الحدائق والباركات والمتنزهات تنشأ في كل ارجاء المدينة، من غير ان تتدخل في معالم المدينة الشعبية وعمارتها التراثية، فثمة الكثير من الاحياء التي حافظت على طابعها التراثي والشعبي، اضافة الى الزي الكردي الذي لم يغب عن الشارع فخلال التجوال في ارجاء المدينة لابد ان يصادفك احد الشيوخ او النساء وهو يرتدي الزي الكردي الشعبي.
من الاشياء الجميلة التي صادفت زيارتي الاخيرة لدهوك تزامنها مع جني محصول اللوز، حيث كانت البساتين منتشرة في داخل بعض الاحياء او ان الحي انشئ على حساب اقتطاع جزء من البستان فتجد تداخل في غاية الروعة بين الاحياء والبساتين والمتنزهات.
شوارع المدينة الداخلية والمرتبطة ببعضها بشكل سهل وبسيط وكانها شبكة الالكترونية، نظيفة اذ لا تجد أي شيء مرمي خارج سلة النفايات التي لا تبتعد الواحدة عن الاخرى سوى امتار، وهذا يدل على رقي وتحضر اهل المدينة، الذي لابد لأي زائر او السائح ان يتطبع بتلك الطباع، والا اصبح حالة شاذة. في كل ارجاء المدينة من محلات ومطاعم ومقاه وخلال التعامل مع الباعة الذين اخذوا يتحدثون العربية ولو بشكل (مكسر) والذي يضفي على التعامل نوعا من الودية والحميمة، وخاصة حين تطلب شيئاً تسمع (سه ر سه رى من) المرادفة ل (على راسي) أو (إتدلل) البغدادية المدنية،أو (بخدمتك) المشاعة الان في اغلب مناطق بغداد وخاصة الشعبية منها.
سائق التاكسي لا ياخذ اكثر من اجرته المحددة من قبله، حتى ولو كان الراكب لا يعرف المكان بشكل جيد، اذ لم اصادف حالة استغلال واحدة من قبل سائقي التاكسي، عكس ما يوجد في باقي المدن العراقية، وعلى سبيل الذكر استأجرت سائق تاكسي ليوصلني الى مول يدعى كشمير يقع على الطريق السريع وانطلقنا، دقائق ووصلنا الى المكان الذي ظنه السائق انه المقصود، وهو غير الذي اردت قصدها فكل مول يقع في جهة من المدينة، حين اعدت عليه الاسم والذي كان مقارباً للمول الذي قصده لم يبد أي تذمر او انزعاج بل بالعكس اعتذر. واعاد الاعتذار مرة اخرى حين اوصلني الى ما اريد، اعطيته الاجرة ونزلت، لكنه عاد ونادى علي باستلام المتبقي من الخمسة آلاف دينار، وحين اخبرته ان هذا عوض عن الطريق، رفض بشدة وقال انه ذنبي وليس ذنبك. ولم ياخذ سوى اجرة التوصيلة المقصودة ثلاثة الالف دينار فقط!!.
اما الطرق الخارجية وخاصة المؤدية الى المصايف فالحديث عنها له طعم اخر طعم بحلاوة التين الشمالي. بين دهوك وسولالف ثمة حكايات وحكايات، تشعر وكان الطريق بطوله مصيفاً، الجبال الخضراء، وهي ترتطم بالغيم اذ كانت السماء محملة بالامطار، لكنها امطار اليفة كانت تتساقط بخفة وهدوء. على مقربة من مصيف سولالف تلوح بالافق مدينة عائمة في الهواء، وكأن ريشة معماري ماهر رسم حدودها وافقها وعماده الذي يناجي كل بعيد، انها العمادية المدينة المعلقة.
اللحظة الاولى لدخول العمادية تشعر انك على اعلى مكان في العالم، اذ يتبادر الى الذهن، ان كل شيء الان بالاسفل، الجميل بالامر ان الزيارة صادفت مع الاول من ايار ونحن نتجول في شوارع العمادية الدائرية والملتفة حول المدينة، واذا بلافتة جميلة مزينة بمنجل وجاكوج تهنئ عمال كردستان والعراق والعالم بعيدهم العالمي. وهي على مقربة من مقبرة حكام امارة بهدنان. اما سولالف فالحديث عنها شيء اخر، لحظة الوصول ولا ادري اذ كانت صدفة او تعمد، ثمة كازينو مشيد على سفح جبل، يذيع اغنية فريد الاطرش ( فوق غصنك ياليمونة) وكاننا في ذات الاجواء التي غنيت وصورت فيها الاغنية الامر الذي اطرب الروح واخذنا نردد الاغنية، مع اغنية ياس خضر (تعال الحبك انا اشتاك).
قطرات المطر اصبحت اكثر واكثر والطريق الى كهف انشكي بغاية الروعة والجمال، والكهف معتدل الحرارة، وسر الماء المتساقط من الاعلى مجهول، متحف صغير يحوي تمثالاً محنطاً للماعز الجبلي، وسنجاب صغير معلق على مقربة من موائد المطعم والكازينو. الكهف يخالف الاجواء الطبيعية، فهو في الشتاء دافئ جدا، وفي الصيف من اكثر المناطق برودة، وهذا سر اخر يلف هذا الكهف. في طريق العودة كان المرور على سرسنك وهي دهشة اخرى، فمن مدينة معلقة في السماء الى اخرى بين الوديان والجبال، وهي لا تختلف عن مركز مدنية دهوك من حيث الاعمار والنظافة والترتيب العمراني.
على طوال الطريق بين المصايف ومركز المدينة ثمة مراع وحقول تمرح بها قطعان الاغنام الآتية من مناطق غرب العراق، حيث كان العقال العربي بجانب السروال الكردي، مع هذه المراعي كانت محال حديثة تبيع كل الاشياء بما فيها الكحول.
بعد جولة المصايف ومدينة العمادية وما شاهدناه فيها من اثار بدءاً من مقبرة امراء امارة بهدنان حيث كانت العمادية عاصمة الامارة، الى لمسنا التآخي والتسامح الديني في المدينة المسكونة من قبل المسيحيين والمسلمين بطوائفهم ومذاهبهم المتعددة، كما سكنها ليهود وهذا ما دل عليه اهم اثارهم فيها بقايا قبر النبي (حزرقيل) ويسمى احيانا لدى العامة مقام (حزاته). اذ يعود هذا القبر الى ايام النفي البابلي لليهود، اضافة الى وجود دير مسيحي وهو دليل على ان المدينة كانت وما تزال لجميع الديانات والمذاهب. كما ان للمدينة تاريخاً سياسياً ونضالياً طويلاً حيث كانت معقلاً مهما لقوى واحزاب اليسار التقدمية والاحزاب الكردية.
وللعمادية الكثير من الابواب والقلاع والاثار التراثية والتاريخية والتي يعود جزء منه الى مئات السنين، وربما الى آلاف السنين، وهذا يدل على عراقة المدينة وتاريخها الضارب بالقدم عبر العصور، حيث عدها اصحاب الاختصاص واحدة من اهم المدن الاثارية في اقليم كردستان. في طريق العودة من المصايف الى المدينة، مررنا بمقبرة العمادية، وهنا شيء يستحق الوقف فمن ينظر اليها من بعيد لن يتصور ان هذه مقبرة، بل حديقة، او متنزه. فالسياج والباب الخارجي والاشجار المنتشرة فيها توحي بذلك. اضافة الى النرجس البري الطبيعي، والورود الصناعية الموضوعة على القبور.في مدخل المقبرة ثمة شجرة كبيرة وعالية، مليئة بقطع القماش الاخضر والابيض (العلك) او النذور. وبالطبع تختلف النذور من نذر ام تحلم بعودة ابنها، الى زوجة تنتظر رجوع زوجها الغائب، وحبيبة تامل ان يعود اليها حبيبها. ووو اذ تتعد النذور بتعدد المحن والاوجاع التي عاشه اهل كردستان خاصة والعراق بشكل عام. الشيء الجميل في الشجرة والنذور هو تباين الوان (العلك) الذي اعتدنا ان نراه اخضر، لكن الامر في دهوك مختلف فثمة الالوان اخرى زينت اغصان شجرة النذور، لكن بالطبع الاخضر هو الطاغي على الالوان.في المقبرة قبر قبالة الشجرة، اذ يقع في الجهة اليسرى من مدخلها الرئيس، مزين بالواح المرمر، سقفه اخضر طبيعي، مع بعض ازهار النرجس. كان هذا قبر المطرب الكردي تحسين طه والذي يعد محدثا الاغنية الكردية.
فحين تستمع الى اغانيه والحانه، من غير وعي تسحب الى روح الاغنية البغداية، وكأن جميل عباس او رضا علي هو من لحن الاغنية لتحسين طه، الذي وهبته طبيعةُ كردستان الجبلية صوتا متميزا عذبا، اذ جمع كل الأضداد اللغويةِ والمعنويةِ من حيث الرقة والقوة, الشجن والفرح,الألم والأمل, الطفولة والشباب، برغم كل ما تعرض له من الآلام والمحن التي توالت عليه من هنا وهناك، سوى الاجتماعية او السياسية، لانتمائه اليساري ضمن القوى الوطنية التي كانت تدافع عن قضية كردستان، اذ تعرض الى السجن والاعتقال لكنه ظل يعشقها أي كردستان ويعشق جبالها وشلالاتها واشجارها وثمارها وحتى نسمات الهواء التي تعبق روحه، كما ظل ينسج لها أعذب الأنغام على الرغم من كل ما حصل له، فغنى لطبيعةِ كردستان السخية بالجمال والروعة والفتنة، كسخاءِ فكره وروحـــه وجمالهما، فامتزجت شلالات صوته مع شلالات كردستان المتألقة والمتدفقة من اعالي الجمال والحبال، اذ عانقَ صدى صوته تغريد البلابل والعصافير والطيور, فغنى للعامل في عيده وللفلاح لأرضه , وغنى للمرأة أم وحبيبته وزوجة وشقيقة ورفيقة.
شكّل مع الفنانة (كُلبهار) ثنائًيا مبدعا ً اغنى مكتبة الغناءِ الكردي بأغان شجية ممتعة، كما غنى مع الفنانة ( عيششان) في نهاية السبعينيات عندما زارت كردستان.
ولدَ تحسين طه في مدينة العمادية في كردستان العراق في عام 1942, درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد ولكنه قبل ذلك بعامين أي في عام 1959 سجل عدة أغانٍ للإذاعة الكردية في بغداد, ما يدل على ميله للغناء والفن وممارسته لهما في سن مبكرة ما جعل مختلف الشعراءِ والملحنين الكرد يتنافسون على منحه أفضل أشعارهم وألحانهم .
توقف قلبه الذي كان ينبض بالحب والجمال والفن 28-5-1996 في هولندا لينقلَ فيما بعد إلى حضنه وطنه ولتحضنه مدينته الوفية التي لم تنسه لحظة مثلما كانت هي في عينيها وقلبه وروحه.
هي ذو مقاطع من جمال كردستان عامة ودهوك خاصة، فالحديث يطول والوصف يغرق بالجمل والكلمات والايجاز يعجز عن قول كل شيء، فللمدينة روحا اولى تحيي من امتداد روحها الثانية روح السهر والسفر والتجوال في جبالها ومصايفها، فتجد ساعات الصباح الاولى وحركة العمل والتظيف في كل ارجائه، مع حركة السوق والتبضع، وحركة البناء والاعمار والتجديد، لتنطلق في المساء روحها الثانية حيث تمتد الى ساعات انطلاق الروح الاولى.ختاما في طريق العودة كنت انتظر واحسب ساعات اللقاء القادم مع دهوك والمصايف والعمادية وانشكي وكل كل الاشياء التي مرت علينا وعشناها ايام سوف تبقى تحفر بالذاكرة لمدينة عصرية تاريخية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا اخي حسين
امين يونس ( 2011 / 6 / 1 - 09:09 )
سيدي ... معلمة في احدى رياض الأطفال في بغداد ، كانت تشرح للأطفال ، عن روعة بغداد ، وحدائقها الغّناء وشوارعها الفسيحة وطيور الحمام المنتشرة وملاهي الاطفال والأمان والأستقرار الذي فيها، والهدوء العذب ...الخ ، فسمعت المعلمة بكاء طفلةٍ صغيرة ... فسألتها : ماذا بكِ حبيبتي ؟ أجابتْ الطفلة من خلال دموعها : خذيني الى بغداد !
ياسيدي .. انا اعيش في دهوك ، وانا من العمادية بالذات .. اشكرك جزيل الشكر ، لأنك فتحتَ عيني على أشياء كنتُ لا اُلاحظها في المحيط الذي اعيش فيه.
ولكن لاتنسى ، إذا جئت الى دهوك ثانية ، ارجو ان تأخذني معك
خالص الود


2 - الشكر لك
حسين رشيد ( 2011 / 6 / 1 - 10:37 )
رغم زياراتي المتكررة الى دهوك خصوصا واقليم كردستان عموما الان ان لهذه السفرة طعما خاص من خلال رفقة الاصدقاء د. ماجد الحيدر ومهند الشهرباني والصديق هفال زاخوي حيث اطلعنا على الكثير من المعالم التي كانت خافية عنا.تحياتي

اخر الافلام

.. المغرب يفتح بحثاً قضائياً للتحقيق في تعرض مواطنين للاحتجاز و


.. بريطانيا تحطم الرقم القياسي في عدد المهاجرين غير النظاميين م




.. #أخبار_الصباح | مبادرة لتوزيع الخبز مجانا على النازحين في رف


.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال




.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي