الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة التأسيس لأنظمة حكم قابلة للخطأ في البلدان العربية

ماهر اختيار

2011 / 6 / 9
المجتمع المدني


ضرورة التأسيس لأنظمة حكم قابلة للخطأ في البلدان العربية

كثيرة هي الآراء التي تنفي أية خلفية أيديولوجية أو حزبية لهؤلاء الشباب الثائرين المطالبين بالتغيير وبإخراج أنظمتهم العربية من نفق الجمود والانغلاق السياسي، مؤكدةً أن هذه الأنظمة عملت، خلال عقود طويلة، على إقالة النشاط السياسي بمفهومه الحزبي مشرعةً، بالمقابل، نظام الحزب الواحد الذي يملك القرار الأول والأخير. وإذ يسعى الشباب العربي لإسقاط هذه النموذج الاستبدادي، فإنه يطمح لتأسيس نظام حكم يعترف بالتعددية الحزبية وبالانتخابات التي تعكس رأي مختلف أطياف وفئات الشعب، ولبلورة مرحلة تُمنح فيها السلطة بشكل مؤقت لمن يملك برنامجاً أفضل اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. من هنا يتولد لدينا ولدى الحراك الشبابي المتحمس للتغيير التساؤل التالي: من الذي يجب أن يحكم في المرحلة القادمة؟ وما هو نظام الحكم الأفضل الذي ينسجم مع بنية وهيكلية المجتمعات العربية؟
هل السعي لتطبيق نظام حكم ذو توجهات ديمقراطية ليبرالية يشكل مطلباً ملحاً لظروف ومعطيات هذه المرحلة التي تمر بها البلدان العربية؟ ونحن نعرف أن مثل هذا النظام ينطوي على ضمان الحريات الشخصية والسياسية والمدنية في ظل حكم الأكثرية، وتداول سلمي للسلطة، فضلاً عن رفع شعار القانون فوق الجميع. أو هل تُجسد النصوص الدينية النموذج الأفضل والمرجعية الغنية في مضمونها الاجتماعي والسياسي نحو التأسيس للتعايش السلمي ولتحقيق التقدم والازدهار في ميادين الحياة كافة؟ أو لعل إعادة تطبيق النموذج الاشتراكي، الذي يضمن المساواة الاجتماعية ويلغي التقسيم الطبقي موفراً فرص عمل للجميع دون استغلال، يُمثل تجاوزاً لتلك الأنظمة العربية المؤزمة والبعيدة عن ركب الحضارة وإنسانية الإنسان؟ ما هو إذا نظام الحكم الأفضل والذي يناسب واقع المجتمعات العربية على اختلاف وتنوع أطيافها الاجتماعية، والدينية، والطائفية، والعرقية؟
حاول كارل بوبر الإجابة على مسألة نظام الحكم منطلقاً من وجهة نظر ابستمولوجية مؤسسة على ركائز معيار قابلية الخطأ. ذاك المعيار الذي استنتجه من خلال قراءته لتاريخ العلوم الطبيعية؛ إذ يقوم على فكرة أنه كلما كانت النظرية العلمية قابلة للخطأ أكثر، كلما استحوذت على الخاصيّة العلميّة أكثر. معيار يحفز الباحث للثورة على نماذجه المغلقة ويتيح له فرصة البحث الدائم لتصحيح أخطاء فروضه المؤقتة، فالعلم يتقدم ويتجدد عبر تفنيد الأخطاء والبحث عن الفروض التي تقترح حلولاً أفضل. إنه معيار أتاح لبوبر القول بأن تقدم العلم يتجسد في انطلاقه من مشكلة قابلة للحل وينتهي بمشكلة أخرى، فلا وجود لحلول صالحة لكل زمان ومكان، فجميع الحلول تتضمن مشكلات نائمة تنتظر اللحظة والظرف المناسبين للبروز بقوة بوصفها أزمات تهدد بنى المجتمع ومؤسساته.
يؤكد بوبر بأن نظريات العلم الطبيعي والاجتماعي تستمد موضوعيتها من النّقد الممكن لمشاريعها وللحلول التي تتبناها، ومن ابتعاد أنصارها أيضاً عن التمسّك الدغمائي بالمبادئ والنتائج التي توصلوا إليها في مرحلة ما. من هنا رأى أنه من الممكن الإقرار بموضوعية بعض نظريات عالم الاجتماع والسياسة عندما تتصف بالخصائص التالية: " (أ) تقترح الحلول وتنقد. فإذا لم يكن الحلّ المقترح مفتوحاً للنقد الموضوعي، استبعد على أنّه غير علميّ – ربما فقط إلى حين. (ب) فإذا كان الحلّ المقترح مفتوحاً للنقد الموضوعي، هنا نحاول تفنيده؛ فكل النّقد يتضمّن محاولات للتفنيد. (جـ) إذا ما فندّ حلّ مقترح بسبب نقدنا، اقترحنا حلاً آخر. (د) فإذا صمد أمام النقد، قبلناه مؤقتّاً،ونحن نقبله على أنّه، قبل كلّ شيء، جدير بجدل ونقدٍ تالٍ " . انطلاقاً من هذه المبادئ، حاول بوبر تطبيق معيار قابلية الخطأ في علوم الاجتماع والسياسة شارحاً بأن الحلول المقترحة من قبل أي نظام سياسي هي حلول فرضيّةً، تخمينيّةٌ، مرحليّةٌ، من الممكن تفنيدها والبحث عن أنظمة حكم أُخرى قادرة على صياغة حلول أفضل منها. ويتحقق هذا التفنيد بفضل النقد المستمر لنظام سياسي ما، وذلك لعجزه عن إيجاد مخارج لمشكلات مجتمعه المعيشيّة والمعنويّة.
إن تقبل النظرية السياسية إذاً لتطبيق هذه الخطوات المعيارية دفعت بوبر للإجابة على سؤال ذا مضمون سياسي: من الذي يجب أن يحكم بالقول" إن محاولة الإجابة على سؤال من يجب أن يحكم ؟ لا يتضمن قدراً كبيراً من الأهمية [...] هل يحكم الشعب أم النخبة الأفضل؟ العمال الخيرون أم الرأسماليون الأشرار؟ الأقلية أم الأكثرية؟ اليسار، اليمين أم حزب الوسط؟ كل هذه الأسئلة هي أسئلة ذات صياغة خاطئة. لأنه ليس من المهم معرفة من يجب عليه أن يحكم طالما من الممكن إقالة الحكومة دون إراقة الدماء" . إذاً ليس معيار قابلية الخطأ هو فقط خطوة للتمييز بين العلم واللاعلم، بل هو يساعد أيضاً، حسب بوبر، الباحثين في ميدان العلوم الاجتماعية على التمييز بين نظام حكم سياسي مقارب للموضوعية ومتفق مع منطق العقل وآخر ذاتي متمحور حول سلطة استبدادية لا تعترف بأخطائها وترى أن كل قراراتها سليمة وصالحة لكل زمان ومكان. إن أهمية تطبيق هذا المعيار في مجال السياسة تتجلى في التركيز على ضرورة البحث عن نظام سياسي قابل للتغيير بسبب أخطائه وليس في الاستمرار بترسيخ تلك الأنظمة العربية التي تستمر لعقود طويلة رافضة التنازل عن عروشها العاجية.
تتحول إذاً أنظمة الحكم إلى مشاريع تتضمن حلول مؤقتة لمشكلات ترهق كاهل الإنسان، ونتيجة لذلك تكتسب هذه الأنظمة خاصيّة علميّة تتلخص في قابليتها للخطأ وثم للتغيير، وذلك لتتيح لنا البحث عن مضامين نظرية أفضل منها. من هنا يطبق بوبر هذه المبادئ في الميدان السياسي قائلاً: " إن أهم ما تنطوي عليه خطوة تغيير الحكومة، هو القوة السالبة التي تهدد بإقالة أصحاب المناصب" . نفهم مما سبق أن الطريق الأفضل لتأسيس حياة سياسية ديمقراطية تضم مختلف أطياف وفئات الشعب هو في البحث عن أنظمة سياسية قابلة للخطأ، بمعنى ما، تعترف بأن مشاريعها السياسية هي عبارة عن حلول فرضية قابلة للصواب وللخطأ، وبأن سياستها تقوم على الاستقالة في حال عجزت عن إيجاد حلول لأزمات مجتمعاتها. فلا يجب البحث عن نظام حكم قائم على التأييد والتأبيد لمبادئه، بل يجب البحث عن نظام حكم مستعد لتقبل النقد ولمحاولات سلبه السلطة لعجز ما في نظام حكمه.
في الواقع، إن أهمية هذه المرحلة التي تمر بها الشعوب العربية تكمن في السعي للإطلاع على تجارب الآخرين وفي البحث عن أفضل الطرق التي تضمن لهم تجاوز أخطاء الماضي وصور السلطة الاستبدادية التي هيمنت على الحياة السياسية والاجتماعية للمواطن العربي. وقد يمثل معيار بوبر (قابلية الخطأ) أداة تساعدنا في بناء أنظمة حكم تقترح مشاريع وإطروحات مؤقتة بصدد مشكلات المجتمع الراهنة، وتبعدنا عن تلك الأنظمة الشمولية التي تملك الحلول السحرية لجميع ألغاز العصر. يجب علينا أن نقتنع بأن معارف الإنسان هي معارف مُتغيرة وحلوله متوافقة مع ظروف وشروط محددة قد تكون ملائمة لمرحلة ما وقد لا تنسجم مع معطيات مراحل أُخرى. لذلك يفضل عدم الاستفاضة والإغراق في طرح أسئلة حول أنظمة الحكم التي يجب أن تدير البلاد في المرحلة المقبلة، هل هي ذات اتجاهات إسلامية أم ليبرالية، أم اشتراكية أم وسطية، الأهم من هذا هو القدرة على تأسيس لنظام قابل للخطأ، نظام يعترف بعدم كماله، وأن بقائه في السلطة يتوقف على مدى نجاح مشاريعه في حل مشكلات واقع المجتمعات العربية، نظام يعترف بالأخر ومستعد للتنازل عن السلطة في حال تفوق هذا الأخر عليه في مرحلة ما، نظام يترك التأبيد للأديان ويعترف بأن حكمه قابل للخطأ بوصفه صادر عن إنسان.
ماهر اختيار

المراجع المعتمدة:
- بوبر، كارل، بحثاً عن عالم أفضل، ترجمة أحمد مستجير، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2001م ص 88.
2- Karl Popper, Toute vie est résolution de problèmes, tome 2, réflexions sur l’histoire er la politique, trad. De l’allemand par Claude Duverney, éd. Actes Sud,, 1998, p. 74-75.
3- Ibid. p. 94.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب جامعة كولومبيا.. سجل حافل بالنضال من أجل حقوق الإنسان


.. فلسطيني يصنع المنظفات يدويا لتلبية احتياجات سكان رفح والنازح




.. ??مراسلة الجزيرة: آلاف الإسرائيليين يتظاهرون أمام وزارة الدف


.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي




.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية