الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الماركسية :(1) أزمة الماركسيين

سلام السعدي

2011 / 6 / 11
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


سؤال أولي يطرح نفسه على الماركسيين في جميع أصقاع الأرض: هل الماركسية في أزمة؟
بإمكان الجميع أن يقابل هذا السؤال البديهي ببداهة اكبر، لنجيب بأن الماركسية في أزمة، وذلك انطلاقاً من أزمة القوى الماركسية والأحزاب الشيوعية على تعدد تلاوينها وأسمائها، فهي باتت قوى مهمشة ومعزولة عن الطبقات الاجتماعية، تركد في حيرتها وجمودها دون إبداء أية ردة فعل على واقعها البائس الحالي، وهو ما يبرر وبقوة طرح أزمتها على بساط البحث، وربما الذهاب ابعد من ذلك لطرح أزمة الماركسية نفسها كنظرية وممارسة.
والحقيقة أن الجواب على أزمة الماركسية كنظرية هو ما يهمني هنا، والمقصود بأزمة النظرية هو أزمة وعي الماركسية، وبالتالي أزمة الماركسية "كما تكونت" بعد ماركس هذا أولاً، وثانياً أزمة تطور جميع الأفكار التي أنتجها ماركس وانجلز تحديداً على ضوء التغير النوعي الذي حدث في نمط الإنتاج الرأسمالي بعد ماركس وانجلز، أي مع نشوء الامبريالية.
واجزم في هذا الصدد أن كل ما يقال عن "تجديد الماركسية" يجب أن ينطلق من النقطتين السابقتين، وهذا هو الدافع الأساسي لبحثي في هذا الإشكال، أي أنني ادرس أزمة الماركسية في سياق السعي لتجديدها أولاً وأخيراً، وبالتالي تجديد ممارستها، وتجديد جميع التجارب التي قامت باسمها، للاندفاع في عملية التغيير في وطننا العربي البائس والمنهوب.
هنالك آراء رائجة حاولت أن تشرح "أزمة الماركسية"، سأنطلق من هذه الآراء لأبرهن على أنها نتاج للأزمة وليست حلاً أو تشخيصاً أو تفسيراً لها كما يتوهم أصحابها، وبعد ذلك يمكننا أن نحدد بدقة الأزمة موضوع البحث.
يبرز تياران لتفسير سبب الأزمة، يعودان إلى نفس المدرسة الفلسفية، وهي مدرسة أرسطو التي تعتمد المنطق الشكلي كأساس لتفسيراتها الوحيدة الجانب:
الأول: وهو التيار البرجوازي الصغير الذي كان في غابر الأزمان يمني نفسه بمكاسب طبقية ما وهو متسلح بنظرية ثورية هي الماركسية، ومتحالف مع الطبقة العاملة والفلاحين في ما كان يعرف بفترات "التحرر الوطني"، فكانت النظرية الماركسية تمارس الهيمنة على هؤلاء المثقفين والمناضلين دون وعي منهم للنظرية، لقد كانت النظرية هي التي تعي وجودهم في صيرورة الصراع الطبقي الدائر والمحتدم، بينما لم يعي هؤلاء طبيعة تحالفهم و"تمسكهم" بها، لقد كانت "بطلاً" ذو عضلات مفتولة أمسكوا بيده كأطفال يبحثون عن معجزة أو عن إيمان مطلق، يخلصهم من السياسات الرأسمالية الوحشية التي اجتاحت العالم الثالث في تلك الفترة، وخصوصاً أن هذا الفكر الثوري تجسد على ارض الواقع بدولة عظمى هي الاتحاد السوفييتي ولحقتها الصين كدولة كبرى بالإضافة لمجموعة من الدول التي انتهجت النهج الاشتراكي وحققت انجازات كبيرة، فكان "الإيمان" بالماركسية ينطلق من الملموس لدى هؤلاء وليس من الفكر.
ومع انهيار "الملموس" انهار "إيمانهم"، لكن المنهج الشكلي الذي يحكمهم لم ينهار، وبالعكس من ذلك، انفلت من عقاله وراح يبحث كالممسوس عن "بطل" آخر ليعلن له ولاءه وإيمانه المطلق من جديد، فراحوا يصرخون بثقة عمياء وإطلاق مريع يجد جذوره في إيمانهم الليبرالي الجديد، بان النظرية الماركسية هي من أدى بالممارسة إلى ما آلت إليه، الماركسية لا تصلح للجنس البشري الذي يعشق بطبيعته الملكية الخاصة، الماركسية تنفي الدين وقد ثبت أن البشر لا يستطيعون أن يعيشوا بدون أديان، الماركسية هي دكتاتورية سياسية تفتقد للديمقراطية، كيف لا وهي ديكتاتورية البروليتاريا؟، الماركسية تنبأت بتحول الأغلبية إلى بروليتاريا في أوروبا وفشلت تنبؤاتها، الماركسية قالت إن الثورة ستبدأ من أوروبا وفشلت، لقد كذبتم علينا نحن أتباعكم ومريديكم!!... وهكذا حطموا أصنامهم وأهالوا تراب معبدهم عليها، وانتقلوا فرحين إلى معبد جديد، علهم يجدون الحقيقة في أصنامهم الجديدة.
يتضح من النقد الذي وجهه أنصار هذا التيار للنظرية الماركسية عدم إمساكهم بجوهر النظرية، حيث تتجسد الماركسية لديهم في مجموعة من المقولات السياسية التي تعممت مع الماركسية السوفيتية والتي شكلت غلاف الماركسية الحقيقية، وهكذا يغيب جوهر الماركسية كمنهج مادي جدلي، وتحضر الماركسية الرائجة التي هي ليست بأكثر من أيديولوجيا سياسية مبسطة ومجمعة من سياقات وتجارب تاريخية مختلفة، وعندما يزعمون نقد الماركسية، فإنهم يمارسون نقد لهذه التجارب التاريخية باعتبارها الماركسية، وسيصبح شائعاً أن ينقد هؤلاء الاتحاد السوفيتي (وبمنهجية شكلية) وهم يدعون أو يعتقدون أنهم يقدمون نقداً للماركسية .
أما التيار الثاني فيطيب له أن يصف نفسه بأنه "بقي قابضاً على جمر الماركسية اللينينية" رغم كل الانتكاسات والأخطاء التي نالت من "الممارسة"، وذلك وتحديداً عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، أي أن هذا التيار بقي "مؤمناً" بتعاليم النظرية الماركسية رغم ما أصاب جسدها من قروح وتجعدات، وذلك دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن علاج لهذه المشاكل، وفي هذا الشكل من الإيمان والاعتقاد يكمن "العجز" عن الوعي والفهم وبالتالي التحكم والتغيير.
لقد اعتقدوا أن أزمة الماركسية بدأت مع أزمة الاتحاد السوفييتي، فالتراجع التدريجي للاتحاد السوفييتي وصولاً إلى انهياره كان لا بد أن يفضي إلى صيرورة شكلية مشابهة، وهي تراجع الأحزاب والقوى والفكر الماركسي وصولاً إلى أزمته الحادة الحالية، أي أن أزمة الفكر الماركسي هي نتيجة تعزيز مواقع السيطرة الطبقية للرأسمالية، في مقابل انحسار السيطرة الطبقية للنقيض الطبقي، والذي تجسد عملياً بانهيار الاتحاد السوفييتي.
وطبعاً اتفق مع جانب كبير من هذه القراءة "التوصيفية"، لكنها تبقى قراءة غير مجدية للوقوف على الأزمة، و أقل جدوى لتفسير صيرورة تعزز مواقع السيطرة الرأسمالية وانتكاس نقيضها وانهياره، وإمكانيات حرف هذا المسار الانحداري بتدخل ارقي من العامل الذاتي، باختصار إنها قراءة تحمل العبء الأساسي للعامل الموضوعي (حتى دون قراءة عميقة له)، وتخلي ساحة العامل الذاتي من أي اتهام مسبق، وهو تفسير مرضي لكل فكر كسول، لأنه يريح دماغنا من إشكاليات وموبقات البحث في ما وراء الملموس، إن أساسه هو الرغبة العارمة السائدة لدينا في الهروب من التجريد النظري ومعانقة الملموس.
ينطلق فهم هذا التيار من مقولات ماركس ولينين التي جمعوها في كتيبات صغيرة وأطلقوا عليها "الماركسية اللينينية"، وراحوا يرددون هذه المقولات ويستخدمونها كأدوات بدائية ونهائية في قراءة الواقع على أمل السعي لتغييره، لكن دون جدوى!!، فالواقع كما يقول لينين "أغنى من كل تصوراتنا"، أي انه أساس التحليل ومبتغاه، ولن ينفع أن ننطلق من مقولات تعود لقرون مضت وبشكل ميكانيكي لتفسر واقعاً متغيراً باستمرار، في هذا التيار عاد الفكر ليحكم الواقع، أي أن هذا الفهم للماركسية هو فهم ما قبل ماركسي، انه جوهر الفهم المثالي حتى لو اختلف شكلاً، حيث للأفكار أسبقية ارادوية على الوجود.
انطلاقا من هذه المقولات راح هذا التيار يحاكم التجارب الاشتراكية والمفكرين والمدارس الفكرية بسذاجة مفرطة، وبكلمات بسيطة، ماو الصين تحريفي، جيفارا طوباوي ومراهق ثوري، البنيوية والوجودية تحريفية، وعدد هائل من المفكرين الماركسيين ألصقت بهم لصاقة التحريفية دون قراءة سطرا واحداً من أعمالهم.
المنهج الشكلي وحده هو ما يجعلنا "إما" أن نقبل كل ما جاءت به البنيوية على سبيل المثال، "أو" نرفضه كقطعة واحدة، وهنا يتضح أن أساس أزمة هؤلاء الماركسيين هو أزمة وعيهم للماركسية بالذات، أزمة المنهج الشكلي الذي يخلق ثنائيات الخير والشر ويدفعنا للالتحاق بأحدها، فلا يمكن للفكر الأرسطي الشكلي أن يقبل بأي شكل من الأشكال بان يكون الشيء ذاته اسود وغير اسود في نفس الوقت، إن مبدأ التناقض هذا محذوف من الفكر الأرسطي، وهو أساس المنهج المادي الجدلي، فعن أي ماركسيين نتحدث؟!!
لقد لاحظنا كيف استفاد المفكر الشهيد مهدي عامل في أبحاثه من أدوات المدرسة البنيوية فهذا واضح جداً في جميع أعماله، وبنفس الوقت يكاد لا يخلو كتاب له من نقد للمدرسة البنيوية ومفكريها، وهو ما يدل على وعي عميق لجدل الفكر، أما الفهم الماركسي المدرسي لكلمة "تناقض" فقد يعتبر "الماركسية الرائجة" والبنيوية موضوعتين متضادتين لا تلتقيان أبدا، انه الفهم الحرفي والشكلي "للتناقض"، دون وعي أنهما من الممكن أن تكونا صالحتان في وقت واحد، وخاطئتان في وقت واحد، وهو ما يتيح إنشاء تركيب من جزئي الحقيقة المتضمنين في كلتا الموضوعتين.
وأقول "ماركسية رائجة"، لأنني اعتبر بأن المنهج المادي الجدلي هو أساس الفكر العلمي في عالمنا اليوم، انه نتاج كل التطور الفلسفي الذي تخمر في القرون الطويلة الماضية، وهو أرقى منهج يتيح لنا قراءة ظواهر الحياة المادية و اكتشاف القوانين باستمرار وتعزيز عملية التحكم التي تخدم الإنسان، وأما القوانين الماركسية الرائجة فهي نسبية، ومعرضة بشكل دائم لتواجه خطر الجمود والدوغمائية، فهي تشيخ جزئياً مع مرور الزمن، إنها أيديولوجيا الصراع الطبقي المستمر في كل لحظة وفي كل مرحلة، وبالتالي يجب إعادة النظر فيها انطلاقاً من المنهج والواقع، فالثلاثية تعمل باستمرار: الواقع- المنهج- الماركسية الرائجة، وان انحكامنا للواقع- المنهج هو ضمان علميتنا وموضوعيتنا وبالتالي ضمان حل أزماتنا وإشكالاتنا، أما انحكامنا للماركسية الرائجة فعواقبه وخيمة جداً ربما نعيشها اليوم، واختم هذا الجزء بما قاله جان زيكلر في مقال "إلى غد يا كارل":
"ليس المقصود "القيام بعودة" إلى ماركس، كما عاد المدرسيون – مثلاً – طوال قرون إلى أرسطو، أو كما قد يرجع بعض المريدين إلى حقيقة موحى بها ومُغلقة. فالمسألة لم تعد مطلقاً أن نكون ماركسيين أو ألاَّ نكون. لأن مسألة الماركسية اليوم، في نهاية المطاف بعيدة عن كونها بمثل هذه البساطة التي تبدو عليها. غير أن هذه الرغبة العارمة – السائدة – برمي الطفل الوليد على عجل، مع ماء حوض استحمامه والحوض نفسه، تجعلنا نخاطر بأن نجد أنفُسنا ذات يوم دون حمَّام، قذرين بمعنيي الكلمة: الحقيقي والمجازي."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ازمة الماركسية
وليد يوسف عطو ( 2011 / 6 / 11 - 15:05 )
الاخ سلام السعدي اشكر لكم هذا البحث الرائع فأنا من سنين اقول للشيوعيين عليكم بالتخلي عن النظرية لصالح المنهج المادي الجدلي ويبدو لنهم لايسمعون سوى اوثانهم متمنيا لكم مزيدا من النجاحات

اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟