الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية وتشويه المتزمتين لها

علي الشهابي

2004 / 11 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حال العلمانية مع منتقديها كقول المثل الشعبي "ضربني وبكى وسبقني واشتكى". فالاستئصاليون والإلغائيون يتهمونها بالاستئصال والإلغاء، والأمرّ من هذا أنهم يصبغون آرائهم بالديموقراطية. لكن الديموقراطية ليست صباغاً، ولا يمكن أن تكون، طالما أن وظيفته التستر على الشكل لإخفاء المضمون. ويتجلى الفرق بين الديموقراطية وصبغ الديكتاتورية بها أحياناً بطريقة طرح الأمور: الأولى تطرح موضوعها بدقة وتحديد، أما صباغها فيطرحه بعمومية وتهويش، ناهيك عن التشويه.
فمناهضو العلمانية عندنا لا يطرحونها كما هي ليناقشوها ويستنتجوا ضرورة رفضها، بل يتقصدون اللغط فيها وعنها. والقصد واضح، حجب الوضوح. وهذا اللغط لا يقوم به إلا المتزمتون دينيا،ً إما لجهل عندهم أو عملاً بمبدأ "الهجوم خير وسيلة للدفاع". سأغض النظر عن الجهل لأن الجاهل في موضوع من حق الموضوع عليه ألا يتكلم فيه، أما الهجوم فليس على الكفر والكفار، بل على المتدينين العاديين تحت قناع الهجوم على الكفر والكفار. هذا ما أراه، وما سأحاول الكشف عنه عبر معاينة العلمانية وكيف يصورها المتدينون المتزمتون.
ينقسم البشر في المجتمعات المختلفة إلى طرفين، غالبية ساحقة جداً جداً تؤمن بالله أو بإله، مقابل قلة قليلة جداً جداً من الملحدين. وهذان بينهما تناقض قلما يشعر به المجتمع لندرة عدد الملحدين فيه، والندرة الأشد لمن يعلن إلحاده. هذا التناقض لابد من إغفاله لأنه لا يكاد يلحظ اجتماعياً، وغائب بالمطلق سياسياً. أما التناقض الأهم فهو التناقض بين الأديان المختلفة، وأيضاً بين الطوائف المختلفة من نفس الدين. هذه الطوائف التي ما عادت تتفق فيما بينها إلا على العموميات، علماً بأن هذه العموميات لا تسمن ولا تغني عن جوع. فكأنما هذه الطوائف صارت أدياناً مختلفة، كل منها مقتنع بصحة رؤيته لكيفية تطبيق الدين وإرضاء الله. وهذا يعني، من زاوية متزمتيها، تكفير أفراد باقي الطوائف بالجملة. وبما أن الله لا يكلم الناس مباشرة ليخبرهم أي دين أو طائفة صاحبة الصراط المستقيم، إذن يعتبر أفراد كل دين صراطه المستقيم، وكل طائفة تفسر كلام الله بطريقتها ليستحيل الاتفاق. ولأن المجتمعات أهلكتها الصراعات الدينية دون أن يتوصل أي دين أو طائفة لا بالمنطق ولا بحد السيف إلى فرض نفسه على العالمين، وجد الناس أنفسهم مضطرين للتخلي عن هذه الصراعات حتى يتعايشوا مع بعضهم البعض، فابتكروا العلمانية.
هذا جانب من الموضوع ـ وقد لا يكون الأهم ـ لأن هذه ما كانت عليه الحال في الأزمنة الغابرة، عندما كان الصراع السياسي يتغلف بالدين، وعندما كان شكل التفكير والتعامل الديني يستغرق كل نطاق الحياة الاجتماعية. أما الآن، ومع تطور الحياة بطريقة ما عادت تسمح بإدخال كل أشكالها المعاصرة ضمن الحدود الضيقة للمفهوم المتزمت للدين، بات التناقض يستعر بين الأفراد المتدينين من نفس الدين أو الطائفة، وحتى داخل الأسرة الواحدة. فالتناقض بين أنصار العلمانية وأنصار السلطة الدينية لم يكن يوماً بين المؤمنين وأعداء الله من الملحدين، ولا بين أفراد الأديان أو الطوائف المختلفة، بل بين المتدينين بنفس الدين: بين المتدينين المتزمتين والمتدينين العاديين،وهذا ما يزعج المتزمتين.
يزعجهم لأنهم يرون الكثيرين من أبناء دينهم لا يطبقون الدين بشكله المتزمت، وبنفس الوقت لا يستطيعون تكفيرهم لأنه من السخف أن يضعوا الغالبية العظمى من أبناء دينهم في صف واحد مع الكافرين، ولأن تكفيرهم لهم يعزلهم عنهم في الوقت الذي يرى فيه المتزمتون أن هؤلاء المتدينين العاديين وسيلتهم لإقامة السلطة الدينية، سلطة المتزمتين. لهذا السبب، أي لأنهم لا يستطيعون تكفيرهم، يصبون جام غضبهم على العلمانية. والسؤال الذي يطرح نفسه "ما علاقة العلمانية إذا كان أغلب المتدينين في سوريا مثلاً يفهمون دينهم فهماً غير متزمت، ويتعاملون مع غيرهم ومع الحياة ككل على هذا الأساس؟!"
لا علاقة للعلمانية قط في هذا الموضوع لأن العلمانية لا تتدخل في أمور الدين، بل تعتبره مسألة شخصية بين الفرد وربه. فالعلمانية ليست إلا عيش الناس مع بعضهم البعض في الحياة الدنيا، في ظل حرية الأفراد في التفكير والتعبير والسلوك الاجتماعي بما يتضمنه من حرية ممارسة الطقوس الدينية. وبالتالي فهي لا تفرض على الأفراد ممارسة هذا أو ذاك من طقوس الدين، ولا تمنع هذا أو ذاك من ممارسة هذه الطقوس. ولهذا لا يرفضها إلا المتزمتون من كل الأديان والطوائف. وحتى هذا المتزمت الذي يناصب العلمانية العداء، فهي لا تعاديه. بل يعيش في مجتمعها كما يحلو له، من حقه ألاّ يسلك أي سلوك يسلكه الآخرون يراه مخالفاً لتعاليم دينه. وبنفس الوقت ليس من حقه أن يجبرهم على ممارسة أو عدم ممارسة أي سلوك يرغبون عنه أو فيه، فأقصى حق له في المجتمع العلماني هو النصح والأسوة الحسنة. أين المشكلة في هذا الموضوع؟
لا مشكلة فيه قط عند المتدين العادي، لكنه كل المشكلة عند المتزمت. إنه يرفض العلمانية لهذا السبب تحديداً: إنه يرفض أن يعبد ربه وحده بالطريقة التي يفهم بها العبادة، ويرفض أن يترك الناس تعبد ربها بالطريقة التي تفهم بها العبادة، بل يريد أن يفرض على كل البشر عبادة الله بطريقته هو. مما يعني أنه يرفض العلمانية، والأدق يمقتها، لأنه يأنف من فكرة اعتبار نفسه مجرد فرد كغيره من الأفراد، فهذا تتفيه له لأنه يعتبر نفسه لسان الله على الأرض وأداته لفرض الصراط المستقيم على البشر. وأي صراط؟ صراطه هو، صراط التزمت.
حسناً، لنفترض أنه فعلاً سيف الله على الأرض. فإذا كان الله نفسه لا يجبر الناس في الحياة الدنيا على أن يصيروا من عباده الصالحين بالشكل الذي يفهم به المتزمت الصلاح، ولا يحاسبهم على "عدم صلاحهم" في الحياة الدنيا بل يرجئ الحساب إلى يوم الحساب، فهل هو ملكي أكثر من الملك؟! إذن سواء رضي الله عن سلوك الفرد أم غضب، فهذا شأن الله وليس شأن البشر: إن أراد أن يجزيه في الدنيا أو يجازيه فهذا شأنه، وإن أراد تأجيل المجازاة إلى الآخرة فهذا أيضاً شأنه. فالعلماني لا يتدخل في شؤون الله لأنه يعرف حدوده، أما الذي لا يعرف حدوده فهو المتزمت الذي يفرض على الله مساعدته في فرز المسلم الحقيقي من غير الحقيقي..إلخ.
أتمنى، وأعتقد أن الله يتمنى، لو أنه يساعده في الفرز فحسب، لأنه يراه يسبقه إلى الحساب بإقامة الحساب على الأرض لمن يجدهم غير
متدينين أو متدينين غير حقيقيين. لكن المفارقة أنه ليس عنده ما يقدمه لمن يجدهم متدينين حقيقيين، بل يحيل أمرهم إلى الله لتكون النتيجة
أنه المسؤول عن العقاب في الحياة الدنيا والله مسؤولاً عن الثواب في الآخرة.
هذه مشكلة المجتمع مع المتزمت ومشكلة المتزمت فيه. وبرغم هذه المشكلة، فهو جزء من هذا المجتمع وأحد تلاوينه الذي لا يحق لأحد إلغاءه أو استئصاله. مثله مثل المتدين الأقل تزمتاً، والمتدين العادي الذي يصلي كل الأوقات ويصوم رمضان ويقبل الآخرين كما هم. مثله مثل المتدين الذي يصوم رمضان ويصلي يوم الجمعة فقط، ومثله مثل المتدين الذي يصوم ولا يصلي والمتدين الذي لا يصوم ولا يصلي. وأيضاً مثله مثل غير المتدين، أو الذي لا يحب طقوس الدين. كل هذه النماذج موجودة في المجتمع، وهي تشكيلته التي لا يحق لأحد استئصالها أو إلغاءها. فالاستئصال والإلغاء هما القتل، أو حتى الإعدام. فمن ذا الذي يحق له القتل والإعدام تحت أي مسمىً كان؟! فالبشر، ومعهم قانونهم، من حقهم أن يأخذوا من الإنسان ما أعطوه للإنسان. فهل هم أو قانونهم من أعطى الحياة لهذا الفرد أو ذاك حتى يجردوه منها أو من الشكل الذي يرتاح فيها؟ من هم؟! فليتواضع البشر قليلاً في هذا المجال.
هذه هي العلمانية التي يرفضها المتزمتون لأنهم لا يرتاحون إلا بإلغائها، لإلغاء هذه التشكيلة الاجتماعية التي لا يمكن أن توجد وتتطور طبيعياً إلا في ظلها. إنهم يشوهونها لا لجهل فيها ـ كما هي حال بعض أئمة المساجد الذين يقولون عبارات مثل "هؤلاء العلمانيون الملاحدة يريدون كذا، ويفعلون كذا" أمام جمهور قد لا يهمه كل هذا الموضوع، فهؤلاء معذورون لأن هذا ما تربوا عليه وهذا ما يعرفون ـ بل عن سابق إصرار وتصميم. فكتابتهم تدل على أنهم يعرفون ماهيتها، لكنهم يتقصدون تشويهها بأشكال مختلفة لعل أبرزها إقحام الإسلام لدى الحديث عنها وفيها، ظناً منهم أن إقحامه سيكهربها ويكهرب كل الجو من حولها لينشل النقاش. ومثال هؤلاء السيد لؤي عبد الباقي في مقالته المعنونة "الديموقراطية بين الإسلامية والعلمانية" المنشورة في (أخبار الشرق 1 تشرين الأول 2004) التي توضح بجلاء كيف تصير العلمانية والديموقراطية والإسلام من منظور التزمت الإسلامي.
1ـ فيما يخص العلمانية:
يبدأ مقالته بالإعلان: بداية، ومنعاً للالتباس، لابد من التنويه بأننا لا ننطلق في هذه المقالة من اعتقادنا بأن العلمانية لها
تفسير واحد، وبالتالي فيمكننا الحديث عنها من خلال هذا المفهوم الضيق. بل إن هذه المقالة رد
على فئة من العلمانيين الذين لا يحاولون فقط فرض مفهومهم الخاص عن العلمانية، بل إنهم أيضاً
يحاولون، وبسذاجة غريبة، فرض تصوراتهم المتحيزة حول الإسلام والديموقراطية.
يشير هذا المقطع للوهلة الأولى إلى أن السيد لؤي ليس ضد كل أشكال العلمانية، بل ضد شكل واحد منها، الشكل الضيق الذي تحاول فئة علمانية بعينها الإساءة للعلمانية ككل بحشر كل أشكالها فيه. أتمنى لو أن الأمر فعلاً كذلك، لأنه سيدل على أن السيد لؤي يتمتع بحس أخلاقي عالٍ يأنف جرّاءه من ظلم بعض العلمانيين للعلمانية. وبهذه الحال سينصف على الأقل أحد أشكال العلمانية، العلمانية المظلومة التي تحاول اغتصابها هذه الفئة العلمانية التي يرد عليها. لكنه لا يشير على امتداد مقالته إلى أي شكل من أشكال العلمانية المظلومة. بل يخترع من مخيلته، من بداية مقالته، هذه الفئة العلمانية الظالمة التي تحاول أن تفرض على العلمانية والإسلام والديموقراطية تصوراتها الخاطئة، ليخوض بذريعة الحرب عليها حرباً على العلمانية ككل. لذا، فالسيد لؤي الذي يوهمنا بأنه سيدافع عن العلمانية والإسلام والديموقراطية ضد هذه الفئة من العلمانيين، نراه لا يدافع بالنتيجة عن أيٍ منهم، بل فقط عن التزمت الديني تحت يافطة الدفاع عن الإسلام.
كل ما في مقالته ينضح بعداء العلمانية، وهذا حقه الذي لا يماري فيه أحد. ولكن فيم تباكيه السابق على اغتصاب فئة من العلمانيين للعلمانية طالما أن العلمانية هي سلوك الثورة الفرنسية التي قطعت عشرات الآلاف من الرؤوس على المقصلة العلمانية لتنطلق من ثم إلى استعمار الشعوب وتصدير الويلات للعالم "المتخلف"؟ هذا فيما مضى، أما الآن فالحرب الأمريكية يتم خوضها تحت شعارات حقوق الإنسان "العلمانية". وبالتالي، فالعلمانية بنت التجارب الغربية التي لا يجوز تعميمها "على عماها" على مجتمعاتنا العربية والإسلامية. هذه هي فكرته باختصار شديد. وما أود التأكيد عليه أنه يحشر عبارة "على عماها" فيها كي يوهم القارئ بأنه منطقي، أي ليس ضد العلمانية ككل، بل ضد الفئة الظالمة التي اخترعها. لكنه في الحقيقة سيعتبر أي تطبيق للعلمانية في مجتمعنا سيكون "على عماها" طالما أنها بنت التجارب الغربية. وإذا كنت مخطئاً بحق فكرته فإنني مستعد للاعتذار حالما يوضح لي ما هو الشكل الذي يمكن فيه تطبيق العلمانية، بنت التجارب الغربية، على مجتمعنا العربي الإسلامي دون أن يكون "على عماها".
صحيح أن من حقه معاداة العلمانية، ولكن ليس من حقه تشويهها لأن الشرف والأمانة والاستقامة من سمات احترام الذات قبل أن تصير مؤشرات على احترام الآخرين. فالسيد لؤي يشرع بتشويهها بدءاً من عنوانه الفرعي الوحيد "ماذا يعني الربط بين الديموقراطية والعلمانية؟". إنه بعدما يفسر معنى هذا الربط تفسيراً صحيحاً من زاوية العلمانية يشرع بتشويهها بقوله:
بما أن شرعية الممارسة السياسية أضحت مرتبطة عضوياً وجوهرياً بالأسلوب الديموقراطي
في عصرنا المتعولم، فإن أية ممارسة سياسية خارج إطار الديموقراطية تصبح فاقدة للشرعية
تلقائياً، وبالتالي فمصيرها الطبيعي الإقصاء والتهميش، إن لم يكن الاستئصال والتصفية.
كل التشويه في "الاستئصال والتصفية". فمن ذا الذي يتحدث عن استئصال المتزمتين من المجتمع وتصفيتهم إلا السيد لؤي وهو "يشرح" العلمانية ويسخر من العلمانيين بأدب يعتقده جماً وهو يخاطبهم على قدر عقولهم؟! فالاستئصال والتصفية ليسا مرادفين للإقصاء والتهميش، ولا حتى امتداداً طبيعياً لهما إلا من زاوية التشويه. أما من زاوية الحقيقة فهما نقيضان بمعنىً ما. وسأحدد المعنى الذي يكون فيه كلامه صحيحاً: في ظل المرحلة الحالية من عصرنا المتعولم، باتت الممارسة السياسية المشروعة من الزاوية الاجتماعية هي الممارسة الديموقراطية. وبالتالي فمن لا يمارس هذه الممارسة، أو العاجز بطبيعته عن ممارستها، سيفقد شرعية وجوده في المجتمع لأن المجتمع سيهمشه ويقصيه.
هذا النسق المنسجم من البناء المعرفي الذي يعكس الواقع لا يمكن أن يظل منسجماً بإدخال مفردتي الاستئصال والتصفية فيه. فكل من
هاتين المفردتين تدل على فعل قهري عنيف ضد موجود لمحوه من الوجود. وأوصف مواصفات هذا الفعل أنه غير طبيعي، وبالتالي فالمصير الذي يتعرض له من يقع عليه هذا الفعل غير طبيعي. إلا أن السيد لؤي، حتى يشوّه العلمانية، يجعل من المصير غير الطبيعي (الاستئصال والتصفية) امتداداً طبيعياً للمصير الطبيعي (الاقصاء والتهميش) الذي ستلاقيه هذه الأحزاب، مالم تمارس ممارسة ديموقراطية.
2ـ فيما يخص الديموقراطية والإسلام:
إن اعتبار فكرة السيد لؤي بأن "أية ممارسة سياسية خارج إطار الديموقراطية تصبح فاقدة للشرعية تلقائياً، وبالتالي فمصيرها الطبيعي الإقصاء والتهميش" صحيحة، يعني أن هذه الحقيقة باتت إحدى حقائق مجتمعنا الحالي. ولأنها صارت حقيقة فيه، صارت كل الأحزاب
الديكتاتورية في سوريا، وكلها ديكتاتورية، تدّعي أنها ديموقراطية كي لا يهمشها المجتمع ويقصيها إلى زواياه المظلمة. فماذا يريد السيد
لؤي برهاناً أسطع على صحة هذه الفكرة التي لا يقولها إلا ليسخر منها؟!
فخوف هذه الأحزاب من ملاقاة هذا المصير على يد المجتمع هو ما يجعلها تدّعي أنها ديموقراطية. والادعاء قد يعني الكذب، ولكن ليس
بالضرورة. فمعظمها قد يحاول أن يصير ديموقراطياً، وأعتقد أنه يحاول جهده، لكن الغراب مهما أجهد نفسه وهو يحاول أن يزقزق كالبلبل فلن يصير بلبلاً حتى يزقزق مثله. آسف لهذا المثل، لكني أسوقه فقط للإيضاح وليقيني بأن "المثل لا يضر ممثولاً". من هذه الزاوية تناولت ديموقراطية الأحزاب الدينية عبر أحد نماذجها "الإخوان المسلمين"، لأدلل لا على ديكتاتوريتها فحسب، بل على استحالة صيرورتها ديموقراطية طالما ظلت أحزاباً دينية. وبالتالي، فهذه الأحزاب تتلون بالديموقراطية وتلغو بها كي تظهر بمظهر الديموقراطية حتى لا يهمشها المجتمع ويقصيها. وهذا ما أزعج السيد لؤي ودفعه إلى النقاش بطريقة أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها غير لائقة، لكن الأهم ليس طريقته بل جوهر تفكيره المضاد للديموقراطية.
فبدل أن يناقش بالملموس ما طرحته بالملموس عن حقيقة الحزب الديني من أنه ضد الحرية الشخصية وحرية التعبير وحرية الاعتقاد الديني، وبالتالي سيشعل فتيل الحرب الطائفية، وهذه كلها مقدمات لسلطة ديكتاتورية بامتياز، بدل الدخول في نقاش هذه الوقائع وكيف أن الحزب الديني برأيه لن يكون كذلك، أو أنه سيعالج هذه المشكلات بطريقة كذا وكذا، بدل هذا يهرب من هذه الأمور من خلال مواضيع الإنشاء عن الوطن الذي كفاه جراحاً، وعبر الخطابة عن الإسلام. لكن الهروب يظل هروباً ولو تستر بالإسلام.
لن أزاود عليه بالقول إن الإسلام ليس مطية للهروب، لكنه لا يمتطيه هنا إلا ليهرب. وهذا ما يتأكد بكونه، على امتداد مقالته كلها، لا يجرؤ على القول ولو لمرة واحدة "إن الحزب الديني ديموقراطي" مع أن موضوع النقاش "الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني". لهذا السبب، لأنه لا يجد أي جانب ديموقراطي في الحزب الديني يمكنه الاستناد إليه أو حتى التعكز عليه ليدافع عنه، نراه يلجأ إلى الخطابة عن الإسلام. لنلاحظ سياق كلامه: إنه بعدما ينطق العلمانيون على لسانه بقول "ليس كل نظام علماني ديمقراطي، ولكن كل نظام ديمقراطي علماني"، يرد على هذه السذاجة بمخاطبتهم:
ليس كل ما تلحقونه بالدين عبر تصوراتكم المتحيزة هو إسلامي، وبالتالي معادي للديموقراطية. فلا
تناقض بين الإسلام وبين قيم العدالة والمساواة والتعددية وحرية الاختيار السياسي.
بكل هذا الجزم اللفظي، النافي لأي تناقض بين الإسلام وبين القيم التي يذكرها، يرجى ملاحظة أن كل نطاق الحرية في إسلامه مجرد حرية سياسية. ومع ذلك فإني أؤكد للسيد لؤي بأن الإسلام لا يتناقض مع القيم التي يذكرها، ولا مع القيم التي لا يذكرها، كالحرية الفردية وحرية الرأي والتعبير كشكل لتجلي حرية التفكير. وسأبين له الفرق بين الإسلام الذي لا يتناقض وهذه القيم وبين إسلامه الذي يتناقض لأنه إسلام تضييق أفق الدين، نفس الإسلام الذي سبق وبينت ديكتاتوريته في "الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني ـ نموذج الإخوان المسلمين" و "الديموقراطية وأيديولوجيا الديموقراطية".
بديهي أن الإسلام دين الغالبية الساحقة من مواطني مجتمعنا الساعي ما في وسعه لتحقيق أقصى قدر ممكن من العدالة والمساواة بين
أفراده، بغض النظر عن دينهم، في ظل إيمان غالبيته بالإسلام. وسيشكل المواطنون أحزاباً سياسية متعددة ينتمي إليها كل مهتم بالشأن السياسي في ظل إيمان غالبيتهم بالإسلام. أما غير المهتمين فسينتخبون الحزب الذي يرونه الأفضل دون أن يتخلى المسلمون منهم عن الإسلام. كل هذا سيحدث في سوريا بالتمام والكمال دون أن يتخلى أحد عن دينه، لأن بلوغ هذه الحريات ليس شرطه تخلي المسلمين عن الإسلام. فلو أن شرط تحقيق أحد هذه الأمور أو كلها رهن بالتخلي عن الإسلام، لكانت المشكلة بالإسلام، لكنه لا يتناقض مع هذه الحريات ـ الحقوق. ولأنه لا يتناقض معها فنحن نسعى لتحقيقها في مجتمعنا في ظل إيمان غالبيته بالإسلام.
بهذا المعنى يكون الكلام عن الإسلام صحيحاً بالمطلق، لأنه فعلاً لا يتناقض وقيم الحرية الفردية والدينية وحرية التعبير والعدالة والمساواة والتعددية والاختيار السياسي. وكل المسلمين غير المتزمتين يفهمون الإسلام بهذا الشكل ويتعاملون معه على هذا الأساس، ولهذا لا ولن يتخلوا عنه لأنه لا يتعارض مع طموحاتهم قط. لكنّ السيد لؤي، مع شديد الأسف، لا يفهم الإسلام بهذا المعنى بل بمعناه المتزمت بدليل أنه يعتبر المسلمين المتزمتين وحدهم من يعتنقون قيم الإسلام ومبادئه. أما المتدينون غير المتزمتين فيتجاهلهم لأسباب لا أعتقد أنني أجهلها، وسأتحدث عنها حالما أوضح ادّعائي. يختم السيد لؤي مقالته بالقول:
آن لهؤلاء الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال الساخنة أن يفتحوا أعينهم على حقيقة أن التيار الإسلامي
المعبر عن قيم ومبادئ الإسلام التي تعتنقها نسبة ليست بالقليلة (على أقل تقدير) من أبناء وطننا باق ما
بقي الإسلام حياً في القلوب المؤمنة..إلخ
سأتغاضى عن خطابية هذا الكلام لأؤكد للسيد لؤي بأن الكل يعلم بأن الحقيقة هي العكس. فكل المسلمين وغير المسلمين يعلمون أن النسبة التي تعتنق قيم الإسلام ومبادئه في سوريا، على أقل تقدير، ساحقة بالمطلق وليست غير قليلة. فلماذا يعلم الكل هذه البداهة إلا السيد لؤي؟! كيف تصير الغالبية الساحقة جداً جداً ممن يدينون بالإسلام في سوريا ويعتنقون قيمه ومبادئه مجرد نسبة غير قليلة، ولو أضاف إليها عبارة "على أقل تقدير"؟! طالما أنه من غير المعقول أن يكون السيد لؤي أجهل خلق الله بنسبة معتنقي الإسلام في سوريا مقارنة بغيره من الأديان، فالمشكلة إذن في الفرق بين مقياس الإسلام عنده وعند الآخرين.
لن أوضح مقياس الإسلام عنده نيابة عنه، طالما أنه يوضحه بلسانه في المقطع السالف الذي يقول بعد تجريده من خطابتة:
إن التيار الإسلامي هو المعبّر عن قيم الإسلام ومبادئه. ومن يعتنق هذه القيم والمبادئ يؤيد هذا التيار، ومن لا يعتنقها لا يؤيده. وبما أنه لا وجود لنظام برلماني حر في سوريا يسمح لنا بمعرفة نسبة منتخبي التيار الإسلامي (أي حزبي الإخوان المسلمين والتحرير الإسلامي) بالأرقام، إذن تظل الأمور رهناً بالتقديرات. وتقدير السيد لؤي أن نسبة من سيصوت لهذين الحزبين على أقل تقدير ليست قليلة. هذا هو مقياسه للإسلام في سوريا الذي يعني: كل من تجاوز الثامنة عشرة ويصوت لأحد هذين الحزبين أو كلاهما فهو مسلم، وسيظل الإسلام
حياً في قلبه المؤمن ما ظل يصوت لهما أو لأي حزب على شاكلتهما
قد يحلو للسيد لؤي أو غيره أن يقول إنه يقصد العكس. أوافق على قوله فوراً لأن هذا العكس لا يغير شيئاً في مقياسه، وسأعكس الموقف ليظل نفسه: إن المسلم الذي يعتنق قيم الإسلام ومبادئه يصوت لهذين الحزبين لا لأن هذا التصويت هو الذي يبرهن على إسلامه، بل إنه لأنه مسلم يعتنق قيم الإسلام ومبادئه إنما يعبّر عن هذا الاعتناق بتصويته لهما. والنتيجة واحدة، في الحالة الأولى من الطبيعي أن يصوت المسلم للحزب المسلم لأنه فرد مسلم. وفي الحالة الثانية من الطبيعي أن يعبر الفرد عن إسلامه بالتصويت للحزب المسلم.
وهكذا نرى السيد لؤي يقصر الإسلام على المتزمتين من المسلمين، أما غير المتزمتين منهم فلا نعلم ماذا يسميهم. وريثما يسميهم، لا يسعنا إلا الإشادة باكتشافه لهذا المقياس الجديد للإسلام، فالله وملائكته لن يتعبوا أنفسهم بتسجيل الحسنات والسيئات ووزنها وضرب الحسنات بعشرة أمثالها بعد اكتشافه لفعل البطاقات الانتخابية.
علي الشهابي
1 تشرين الثاني 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت


.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق




.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با