الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصهيونية (5) .. حركة التنوير - الهسكلاة -

خالد أبو شرخ

2011 / 6 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في بداية طرح هذا المحث أتقدم لجميع قراء وكتاب موقعنا الرائد " الحوار المتمدن ", باعتذاري الشديد على تأخري في طرح باقي مباحث الحركة الصهوينة مدة تزيد عن أربعة اشهر , ولكن ذلك كان خارجا عن إرادتي, وبسبب أزمة إجتماعية مررت بها أبعدتني عن الكتابة في هذه الفترة, باستثناء مرة واحدة, حين هزتنا جريمة قتل المتضامن الإيطالي الأممي فيتوريو في قطاع غزة , امل ان يتقبل من تابع معنا سلسلة هذه المباحث تقبل اعتذاري

حركة التنوير اليهودية ( الهسكلاة )

رأينا في المبحث السابق أن جميع الدول الأوروبية منحت اليهود وكافة الأقليات العرقية والقومية والدينية حقوقهم المدنية والسياسية, وكيف تحقق لليهود قدرا كبيرا من الإنعتاق والتحرر والإندماج داخل الدول التي يعيشون بها, وفي أقل من مائة وخمسين سنه, وهي فترة قصيرة جدا, من وجهة نظر التاريخ الإنساني, وإلى جوار القوانين التي سنت لمساواة اليهود ودمجهم داخل مجتمعاتهم, قامت في كافة المجالات الإقتصادية والإجتماعية محاولات شاملة لدمج اليهود وتحديثهم وللقضاء على هامشيتهم الحضارية والإنتاجية, وتحويلهم إلى قطاع إقتصادي منتج مندمج في المجتمع .
وقد أطلق على محاولة دمج اليهود سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وحضاريا في مجتمعاتهم أسم " حركة الإنعتاق", ولم تكن هذه الحركة فريدة أو قاصرة على اليهود وحدهم, وإنما كانت جزءا من حركة عامة, تضم الأقليات وفئات قليلة أخرى, مثل الزنوج والأقنان والكاثوليك في البلدان البروتستانتية والعكس.
لكن الدولة الحديثة في أوروبا والتي نصلت نفسها من الدين, والتي منحتهم هذه الحقوق, طلبت منهم أن يقوموا بدورهم, وما هو مطلوب منهم, مقابل أن يصبحوا مواطنين من الدرجة الاولى, وأول من طرح هذه القضية هي الثورة الفرنسية, ثورة الليبرالية والبرجوازية الصاعدة, وثمرة حركة التنوير, و فكرة الاخاء والمساواة والحرية , فقد كانت نظرة الثورة لليهود " كل شيء لليهود كأفراد , ولا شيء لليهود كشعب , فنحن لا يمكن أن يكون لنا امة داخل أمة "

لم تكن إستجابة اليهود لحركة الإنعتاق سلبية, بل كانت إيجابية, وتأثروا بها فأصبحت لهم حركتهم وعقولهم المستنيرة والعقلانية, والتي عرفت باسم " الهسكلاة " وهي كلمة عبرية تعني "التنوير".
ظهرت الهسكلاة بين يهود اوروبا في منتصف القرن الثامن عشر ( حوالي عام 1750م) واستمرت قوية حتى عام 1880م تقريبا وكانت تنادي بـ :
• على اليهود المحاولة للحصول على حقوقهم المدنية الكاملة, عن طريق الإندماج في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها .
• أن يكون ولاء اليهود الاول والأخير للبلاد التي يعيشون بها, وليس لقوميتهم الدينية والتي لا تستند إلى أي سند عقلي أو موضوعي .
• فصل الدين اليهودي عن ما يسمى القومية الدينية .
• أن يتلاءم اليهود مع الدول العلمانية القومية في أوروبا .
بدأت حركة التنوير اليهودية في ألمانيا حيث نشأت طبقة رأسمالية تجارية بين اليهود أثناء حكم فردريك الثاني (1740 – 1786 ) وانتشرب في جاليشيا والنمسا وروسيا وبولندا ومع ذلك بقيت حركة ثقافية ألمانية .
ويعد موسى هندلسون (1729 – 1786) الفيلسوف اليهودي الألماني, فيلسوف التنوير اليهودي بالدرجة الأولى, فقد حاول تحطيم الجيتو الداخلي الذي أنشاه اليهود بداخلهم لموازاة الجيتو الخارجي , وقد بذل مجهودا كبيرا ليبين علاقة الدين بالعقل, ورفض الإعتراف بأي جانب من اليهودية تتنافى مع العقل, وذهب إلى أبعد من ذلك, باعتبار ان اليهودية ليست دينا مرسلا من عند الله, وأن موسى في سيناء لم يذكر عقائد, بل ذكر طرق سلوك يتبعها الأفراد في حياتهم الشخصية, وانتقد بشدة سيطرة الحاخامات على الديانه اليهودية, وعلى اليهود, وقام بترجمة أسفار موسى الخمسة إلى الألمانية, بهدف القضاء على عزلة اليهود النفسية, وكتب تعليقات مثيرة ومستنيرة على الكتاب المقدس, وأصدر مجلة لنشر كل ثمار الثقافة العالمية بالعبرية, وأنشأ مدرسة في برلين للاطفال اليهود لتعليمهم الألمانية, وطالب بمنح كل فرد حرية العقيدة ليقرر كل ما يشاء حسب ما يمليه عليه ضميره, وتصوره الأخلاقي, أي أنه كان يحاول ان يجعل من اليهودي فرداً له حريته ووعيه, وليس مجرد وحده في مجموعة قومية دينية تسلبه حريته وانسانيته .

تركت فلسفة مندلسون أثرا عميقا في الفكر اليهودي, ويعد مذهب اليهودية الإصلاحية نتاجا مباشرا لحركة التنوير اليهودي ولفكر مندلسون خاصة, وحاول مؤسسوا هذا المذهب وضع صيغة معاصرة لليهودية ملائم للعصر, وعبر عن ذلك الكاتب اليهودي الإصلاحي صمويل هولدهايم ( 1806 – 1880) حيث قال " يتكلم التلمود بأيدولوجية العصر, أما أنا فأتكلم من وجهة نظر الأيدولوجية العليا لهذا العصر لذلك أنا محق ولي الصالحية لعصري " .
أهم ما يميز الفكر الإصلاحي اليهودي وضع المعتقدات الدينية اليهودية في إطارها التاريخي, ومحاولة التمييز بين ما هو مقدس وأزلي, وما هو دينيوي زائل .
فقد أدخلت تعديلات جوهرية على فكرة الوحي والنبوة والشريعة, وكل ما سيطر على الوجدان الديني اليهودي, فلم يكن الوحي بالنسبة للحركة الإصلاحية مطلقا وخالصا وصافيا, بقدر ما كان مختلطا بعناصر تاريخية وزمنية معينة
لم تقف اليهودية الإصلاحية عند هذا الحد, بل اتخذت شكلا متطرفا أكثر في قرارات مؤتمر "بتسبورج الإصلاحي" عام (1885م) حيت قرر المؤتمر أن الكتاب المقدس ليس من صنع الله بل وثيقة كتبها الانسان.
كان هولدهايم يعتقد أيضا أن الدين ليس إلا أداة إبتدعها الإنسان من أجل تطور المجتمع البشري وكأي اداة أخرى لا بد له أن يواكب التطور وان يتم تعديله من حين لآخر, ومن هذه المنطلقات رأى هولدهايم أن اليهودية ولاهوتها وأساطيرها كانا ملائمين للماضي, ولكنهما الان فقدا صلتهما بالواقع, ولا بد من تطويرهما, وأكد أن عقل الإنسان يجب ان يحكم وليس الطقوس والتقاليد الدينية الساكنة.
نستطيع القول أن التيار العقلاني في الفكر الإصلاحي اليهودي, عبر عن رغبة اليهودي في تقبل حدوده التاريخية وواقعة الموضوعي المحسوس, بوصفه إنسانا عاديا لا فردا شاذا, إنتماؤه لأمة من الكهنة المختارين .

في ظل هاتين الخاصتين الأساسيتين للفكر الإصلاحي اليهودي ( وضع المعتقدات الدينية في سياقها التاريخي, والرغبة في تقبل الواقع الموضوعي لليهود) قام زعماء الحركة الاصلاحية مثل " فرايدر ليندر "(1756-1834) و"أبراهام جانجر" (1830-1879) بتعديلات على العبادة الروحية اليهودية, وعلى المفاهيم الدينية , فقد قامت الحركة الاصلاحية بـ:
• إلغاء الصلوات التي لها طابع قومي يهودي
• جعل لغة الصلاة الألمانية بدلا من العبرية
• إدخال الموسيقى والاناشيد الجماعية إلى الصلاة
• السماح بالإختلاط بين الجنسين في الصلوات
• بناء دور عبادة تحمل إسم الهيكل , حيث كان هذا الإسم لا يطلق إلا على الهيكل الموجود في القدس حسب معتقداتهم
وعلى المستوى الفكري أعادت الحركة الإصلاحية تفسير اليهودية على أساس عقلي, أعادوا دراسة الكتاب المقدس على أسس علمية, وأكدوا على أن اليهودية تستند على قيم أخلاقية, تشابه القيم الموجودة بالأديان الأخرى, وركزت على على الجوهر الاخلاقي للتلمود, مهملةً التحريمات المختلفة التي نص عليها القانون اليهودي .

عدل الإصلاحيون على بعض الأفكار الرئيسية في الديانه اليهودية, فنادى " أبراهام جانجر" بحذف جميع الإشارات التي تشير إلى خصوصية الشعب اليهودي, من جميع الطقوس والعقائد والاداب اليهودية , وطالب بالتخلي عن فكرة شعب الله المختار كليةً, في حينٍ اخر نادى بعض الإصلاحيين بالإبقاء على هذه الفكرة, مع أعطائها دلالة أخلاقية جديدة, على أن الشعب اليهودي مختارا برساله أخلاقية, ليست قاصرة عليه وحده, بل للعالم اجمع, ويمكن لمن يشاء أن يؤمن بها .
ومن أهم ما عدل به الإصلاحيين فكرة عودة الماشيح, فجعلوها أكثر إنسانية, وأقل أسطورية, ولا تحمل مضمونا قوميا فقد رفض مؤتمر "بتسبرج" فكرة العودة الشخصية للماشيح, وتبنوا فكرة " العصر الماشيحاني " الذي يحل به السلام, ولن يأتي هذا العصر إلى بالتقدم العلمي والحضاري, حيث ان الله يفصح عن نفسه بالتدريج من خلال التقدم العلمي والحضاري, وانتشار العمران والمدنية, وسيؤدي إلى خلاص البشرية كلها, وليس الشعب اليهودي وحده .
كما تأثر الاصلاحيون من الفكر المسيحي, من حيث أن الفكر المسيحي يرى العهد الجديد شكل ميثاقا بين الرب والبشرية اجمع, يتجاوز به ميثاق العهد القديم الذي كان بين الرب وبني أسرائيل وحدهم, دون باقي البشر, فاليهودية الإصلاحية تمكنت من طرح رؤى إنسانية رحبه, لإنها تمكنت من الانتاج على التراث الإنساني بدلا من الدوران في حدود التراث اليهودي التقليدي .
والقول نفسه ينطبق على فهم الإصلاحيين لاسطورة الشتات, والذي هو تقليديا عقاب الرب لليهود بسبب خرقهم لميثاقه معهم, ولكنهم سيعودون إلى أرض الميعاد في العصر الماشيحاني, أما الإصلاحيون فأكدوا ان الشتات حدث ليحقق اليهود رسالتهم بين البشر, وما هو إلا وسيلة لتقربهم من الاخرين وليس لعزلهم .
وبذلك يكون الإصلاحيون قد جردوا الاسطورة من قبليتها وعنصريتها ومن أبعادها التاريخية اللامنطقية .

وذروة البرنامج الإصلاحي الذي أعلنه مؤتمر بتسبورج
" نحن نرى في العصر الحديث عصر حضارة العقل والقلب جامعة,اقتراباً لتحقيق أمل إسرائيل الماشيحاني العظيم لأجل إقامة ممكلة الحقيقة والعدالة والسلام بين جميع البشر, نحن لا نعتبر أنفسنا أمه بعد اليوم بل جماعة دينية لذا فنحن لا نتوقع عودة الى فلسطين أو عبادة قربانية في ظل أبناء هارون ولا استرجاعا لأي من القوانين المتعلقة بالدولة اليهودية"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ممتاز
عبدالله ( 2011 / 6 / 20 - 18:13 )
إضاءة مهمة في المسألة اليهودية .. شكرا للكاتب

اخر الافلام

.. أنباء متضاربة عن العثور على حطام مروحية الرئيس الايراني


.. العراق يعرض على إيران المساعدة في البحث عن طائرة رئيسي| #عاج




.. التلفزيون الإيراني: لا يمكن تأكيد إصابة أو مقتل ركاب مروحية


.. البيت الأبيض: تم إطلاع الرئيس بايدن على تقارير بشأن حادثة مر




.. نشرة إيجاز - حادث جوي لمروحية الرئيس الإيراني