الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوي يكتب التاريخ

سامي فريدي

2011 / 6 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


سامي فريدي
القوي يكتب التاريخ

في الموسوعة الفرنسية لتاريخ الحضارات (*) يصف المؤلف ملوك ما بين النهرين القدماء بأنّ لهم نزعة توسعية، مما جعلهم عرضة للهجمات الخارجية وبالتالي انهيار ممالكهم سريعا وعدم امتدادها كما في مصر الفرعونية. وهو رأي تنقصه الدقة عند دراسة جملة من المعطيات. فالمقارنة بين أرض النهرين ومصر من ناحية الجغرافيا والموانع الطبيعية المحيطة بهما تكشف أن حدود مصر حصينة بالصحارى التي تحيطها على جانبي وادي النيل، إضافة للبحر الأحمر من جهة الشرق. وعلى طول تاريخ الفراعنة كان التهديد الرئيسي لها من جهة الشمال (البحر المتوسط وجزره)، ممثلا بالهكسوس والاغريق والرومان. أما من جهة آسيا، فقد هاجمتهم آشور ومن بعدهم الفرس. أما الفراعنة أنفسهم فقد بسطوا نفوذهم أكثر من مرة على أراضي شرق المتوسط، واتجهت حملة عسكرية لاحتلال بابل لكنها فشلت قبل بلوغ مجرى الفرات. وكان للفراعنة حملات عسكرية شبه متواصلة نحو الجنوب مع مجرى النيل، ويعتقد بعض المؤرخين أنهم عبروا باب المندب إلى الجزء الجنوبي لشبه جزيرة العرابيا ووصلوا حتى ظفار (سلطنة عمان حاليا). وكانت هذه تمثل حدود ممالك سومر وبابل يومذاك.
ان مصطلح ما بين النهرين وهو ترجمة لإسم (ميسوبوتاميا) الذي أطلقه الاغريق على البلاد يومئذ، يعني تلك الأرض اليابسة المحاطة بمياه نهري حداقل (دجلة) والفرات. وربما أراد هيرودوتس (Herodotus) بذلك أرض (وادي) النهرين، تمييزا عن وادي النيل (النهر الوحيد)، والهند (أرض الأنهار الثلاثة). والسؤال هو: إلى أي حدّ أمكن اعتبار النهرين موانع طبيعية بوجه الهجمات الخارجية؟.. تخبرنا وقائع التاريخ أن الجيوش القديمة عرفت كيف تجتاز الموانع المائية في وقت مبكر. لكن المعطى الميداني الأكثر أهمية في هذا المجال كما تنقله ملحمة جلجامش هو مغزى الأسوار المحيطة بمدن سومر وبابل وآشور، والتي كان من آثارها سور بغداد الذي بقيت آثاره حتى أواخر العهد العثماني.
ان طبيعة الأرض المنبسطة لبلاد النهرين كانت مصدر اغراء كبير للأقوام المجاورة إلى جانب خصوبة الأراضي الزراعية لضفاف النهرين وارتفاع معدلاتها الأنتاجية. يضاف لذلك كثرة القبائل والجماعات البشرية في الجوار سواء من ناحية الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الشمال. والمعروف حتى اليوم أن المراكز الأكثر ازدهارا تشكل عامل جذب سكاني. فالبشر يتجهون إلى أوربا الغربية لكونها أكثر تقدما وازدهارا من بقاع العالم الأخرى. ولا يختلف المؤرخون وعلماء الآثار في كون حضارات العراق القديم هي فجر البشرية (أرنولد توينبي) وأن غزاة العراق القديم كانوا يتعلمون من تلك الحضارات وينقلون ما يستطيعون نقله من معالمها ورموزها مثل مسلة حمورابي التي عثرت عليها بعثة فرنسية شرق ايران في القرن التاسع عشر، بعد أن نقلها أحد ملوكهم بعد احتلاله بابل.
وتنقل سجلات بابل أن حمورابي قام بعدة حملات عسكرية تأديبية لأقوام بدائية كانت تهدد حدود مملكته الشمالية. وانه في واحدة منها أخذ منها تعهدا بالتزام الأمن، ولكنها ما فتئت واخترقت الاتفاق مما حدا به إلى مهاجمتها وإخضاعها لسيطرته. ومثل ذلك تكرر مع امبراطورية آشور.
لا بدّ عند دراسة التاريخ القديم والتوقف عند منجزاته ومخترعاته ومكتشفاته الأساسية في الحضارة والتمدن والمعرفة الانسانية التي تقتات البشرية على ثمارها، التحلي بما يناسب من بحث موضوعي واستنتاجات عقلانية منطقية في تفسير ظواهر تلك الممالك ونشاطها السياسي والعسكري، بعيدا عن عوامل المحاباة أو الكراهة. ففي ذلك الزمن القديم، كما اليوم، لابدّ لكل قرار، في أي شأن من الشؤون، من مبررات كافية تدفع بلادا للمجازفة بخطوة غير مأمونة النتائج، والتضحية بقدرات بشرية ومادية، ربما كان الأولى توظيفها في مجالات داخلية. وعدم التوصل لأسباب تلك العمليات، لا يبرر إحالتها إلى مجرد نزعة توسع وسيطرة. والطريف في الأمر، أن أغلب المشتغلين في تدوين تاريخ العالم، هم من مواطني بلدان استعمارية امبراطورية بلغة اليوم، فرنسيون أو بريتانيون أو أميركان. ولكن أيا من أولئك المؤرخين، لا يسأل نفسه عن مبرر احتلال بلاده لأراضي الغير، حتى لو كانت في آخر العالم، بينما هو يستكثر أو يعيب على دولة قديمة أنها ذات نزعة توسعية.
وفي ذلك العالم القديم، المتعارف بالشرق الأدنى بالاصطلاح البريتاني، لم تكن الامبراطوريات التوسعية بابلية أو آشورية أو كلدانية، أو مصرية، فقط، وانما لحقت بها امبراطوريات أخرى كان لها من الديمومة أكثر من سابقاتها، رغم أن عطاءها الحضاري والتكنولوجي لا يكاد يمثل شيئا، قياسا إلى نزعاتها العسكرية والتوسعية. وفي كثير من كليات العلوم السياسية والعسكرية، يتم التركيز على امبراطوريات روما وفارس والصين، استنادا إلى قدرتها على الاستمرار والمداومة، وليس لمخزونها المعارفي وعطائها الحضاري. ان السياسة هي القوة، والقوي هو الذي يكتب التاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
• تاريخ الحضارات العام- اشراف موريس كروزيه- مفتش المعارف العام في فرنسا- ترجمة: فريد م. داغر/ فؤاد ج. أبو ريحان- م1/ أندريه بايمار/ جانين أبوايه- منشورات عويدات- بيروت- ط 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرانس كافكا: عبقري يتملكه الشك الذاتي


.. الرئيس الإسرائيلي يؤكد دعمه لحكومة نتنياهو للتوصل إلى اتفاق




.. مراسلتنا: رشقة صواريخ من جنوب لبنان باتجاه كريات شمونة | #را


.. منظمة أوبك بلس تعقد اجتماعا مقررا في العاصمة السعودية الرياض




.. هيئة البث الإسرائيلية: توقعات بمناقشة مجلس الحرب إيجاد بديل