الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول المادية ودعوة إلى علمانية جديدة

محمد باسل الطائي

2011 / 7 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العالم اليوم يسير في شطر كبير منه بموجب التوجه الغربي، ذلك التوجه الذي جعل الرؤية المادية الصرفة أساساً له. فإذا كانت الأديان السماوية قد جاءت بالرؤية الروحانية وتمكنت من الإرتقاء بتوجهات الإنسان نحو الآفاق الواسعة للسماء فإن الفكر الديني الذي انتجه بعض خاخامات تلك الأديان آل بها إلى الانحراف عن غاياتها السامية وحولها إلى أيديولوجيا عقائدية حديدية صماء، دفعت الناس إلى الاحتراب والغزو والتسلط فاستبدلت الدعوة عبر الحكمة والموعظة الحسنة إلى القهر بالرمح والسيف. وما زاد في الطين بلةً فساد بعض رجال الدين فكريا أو ماديا وتسخيرهم للعقائد الدينية على النحو الذي يخدم مصالحهم الضيقة مما أفقد الدين حرمته ووقاره. وأبعده عن ساحة القلب وجعله جملة طقوس وشعائر تؤدى لأجل كسب الحسنات في الآخرة وجني الثمار المادية هناك. وهذا ما جعل بعض الناس ينفرون من الدين وينخلعون من عقائده الإيمانية والروحانية ويتوجهون حثيثا نحو المادية، خاصة وإن كل أنشطة الحياة مادية أو تكاد تكون. وقد جاء العلم الحديث فيما بعد غاليليو غاليلي أي ما بعد القرن السابع عشر الميلادي ليؤكد هذا التوجه حتى تبلورت الرؤية المادية على أفضل صيغها في نظرية دارون في التطور العضوي للأنواع ثم تكللت بنظرية فرويد في الغرائز وطريقته في التحليل النفسي.
اليوم الغرب هو مركز الحضارة المادية ومنتجها الأكبر ومسوقها الأفخم. هذا الغرب تحكمه الرؤية المادية الصرف التي لا تجد في الإنسان إلا حيواناً ذكياً لا توجد غاية محددة لوجوده بل هو كائن متطور عضويا عن أسلاف حيوانية سبقته. ولا تجد الرؤية المادية الغربية على وجه الخصوص غاية لوجود الكون كله ولا لتميز هذا الإنسان فيه. بل ترى أن الإنسان مميز لأنه أرقى الكائنات في سلم التطور وهذا ليس قصداً بل لابد من وجود كائن يمثل الحلقة الأعلى في سلم التطور في أي وقت. وعلى هذا الأساس قامت الرؤية الغربية للعالم وعليه بنيت المواقف ومنه تم استنباط نظرية التعامل والموقف من الحريات والحدود. ومن الناحية الواقعية كان أول مردودات تبني هذه المواقف التعامل مع الجماعات البشرية كقطيع وصارت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قنوات لتوجيه القطيع البشري في تلك المجتمعات إلى عقائد وأفهام وسلوكيات تخدم غايات معينة اقتصادية في أغلبها وعقائدية في جانب منها. وليت أن الموقف المادي الغربي كان منصفا وحياديا أزاء حقائق العالم لكان الشر أهون. لكنه في الواقع صار أداة بيد قوى الظلم والقهر والاستعلاء، بيد القوى الحيوانية نفسها التي تعبر عن رؤيتها وممارستها الحيوانية الغريزية بعد أن قتلت الإنسان. فوجه الغرب وسائله الاعلامية والدعائية نحو تلك الغايات الضيقة الجشعة واللاإنسانية التي يهيمن عليها شعار {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37]. وصارت أجهزة الاعلام والدعاية تروج للأفكار التي تدَّعي حيوانية الإنسان سواء على الصعيد العلمي من خلال إدعاء وتأكيد صحة نظرية داروين عبر قناة حقيقة التطور العضوي للكائنات، أو على إتجاه النزول بكرامة الإنسان إلى مستويات أدنى من الحيوان عبر قناة الحرية الشخصية. وهكذا صارت ممارسة اللواط والسحاق مثلاً حقا شخصيا وحرية انسانية على الرغم من أنها إهانة لجنس الإنسان وممارسة لا صلة لها بالفطرة بل هي مرض وانحراف نفساني وعضوي يحتاج إلى معالجة. لكن للأسف بدلا من ذلك صارت هذه الممارسات الشاذة تسوّق على أنها أمور طبيعية. حتى أن (مريم نور) حاولت تهريبها إلى عقول الناس في مجتمعاتنا على أنها خاصية بشرية طبيعية. وليست المسألة المهمة تقف عند مثل هذه الأمور القيمية بل إن معظم الكيان المجتمعي الغربي صار يوجَّه نحو أهداف السيطرة والاستحواذ على ثروات العالم.
هنالك اليوم توجهات خفية أقرؤها في أبحاث البايولوجيا (علوم الحياة) وأبحاث السوسيولوجيا (علم الاجتماع) وعلم السايكولوجيا (علم النفس) جارية في الغرب تمهد للقول لاحقا بأن الجنس الغربي متقدم بايولوجيا على بقية أجناس البشر وإن التخلف الذي تشهده بعض الأجناس هو بسبب جيني أساساً يتمثل بقصور جينات الذكاء عند هذه الأجناس. هنالك بالفعل إشارات مقلقة جداً في توجه بعض الأبحاث العلمية نحو هذا النوع من التمييز العرقي بين الناس. وهذه الأبحاث لم تكن لتأخذ موقعا في دوحة العلم المعاصر لولا تلك الرؤية المادية المحضة الممتزجة بالرؤية الاستعلائية المتعجرفة. المشكلة الكبرى تتمثل اليوم بتغول الغرب العلماني على الشعوب المقهورة التي لا حيلة لها، وتسلط الرأسمال الامبريالي على مقدرات العالم إجتماعيا وإقتصاديا وقيمياً، أزاء ضعف وهوان المجتمعات الأخرى. لقد صار الفكر المادي اليوم في خدمة القهر والتسلط والمصالح الرأسمالية. ومفكروا الغرب الماديون يجدون في تلك التوجهات والممارسات نسقاً نظريا وعملياً متسقاً مع ذاته consistent غير متناقض. وهذا من جملة الاشتراطات العلمية للفكر الرصين. وهنا يقع العلمانيون، ومنهم قادة موقعنا هذا (الحوار المتمدن)، في مأزق تاريخي لا أعرف كيف سيمكن تجاوزه. لربما سيدفعهم هذا الواقع المتناقض مع طموحاتهم النبيلة إلى التحول نحو التصوف، ليس بالضرورة التصوف الديني لكنه بالتأكيد سيكون تصوفاً على صلة وثيقة بالميتافيزيقيا اللامادية!!
أزاء هذا الواقع المر للإنسانية وهذا التردي القيمي والفكري الواضح لابد لإنسانية الإنسان أن تستفيق. ولن تستفيق أبدا ما دام البعض مصرا على حيوانية الإنسان. لن تستفيق إنسانية الإنسان ما لم ندرك ما هي تلك الخصائص التي تميزنا عن الحيوان وفي أي اتجاه يمكن توظيفه. إن المادية قتلت الإنسان فينا وحولتنا إلى حيوانات مهمتها الحياة لغرض التكاثر واستمرار النوع دون أن تلتفت إلى هدف التكاثر الأسمى وهدف الوجود الأعظم. المادية تنظر إلى الوجود بعين واحدة. ومع كبير تقديري وإحترامي للعلمانية فإن التوجه المادي الحالي للفكر الغربي يقتضي انفصاما للعلمانية عن المادية على نحو يجعل الهدف العلماني تقرير الحقيقة وليس غير الحقيقة، تلك الحقيقة المدعومة بالمعرفة التي تأخذ بنظر الاعتبار كبرى الحقائق التاريخية وهي تكاملية العلم العقلي وتطوره المستمر. فليست مكتشفاتنا ولا نظرياتنا العلمية المعاصرة حقائق مطلقة. بل هي معارف وتوصلات معاصرة تقدم أفضل التصورات عن الظواهر حسب. وهذا لا يعني إنكار وجود حقائق بل يعني ضرورة التمييز بين ما هو حقيقي قطعي وما هو ظني زائف. الحقيقة الأمثل هي هذا العالم نفسه في ظواهرة التي نشهدها، وما تفسيراتنا له إلا ظن يتغير كل آن. لذا فإننا إذا تمسكنا بالأهداف السامية للعلمانية فسنكون بحاجة إلى علمانية جديدة تعلن براءتها من التوظيف الرأسمالي للعلم والعلمانية أولا وتتوجه نحو الكون والانسان بعين مفتوحة عللى كل الآفاق الفكرية الدينية والفلسفية وليكون معيار قراءتنا للعالم ما نعرفه من التاريخ وما نتمكن من إثباته بالعلم الدقيق المضبوط. عندئذ يمكن أن نستعيد إنسانية الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي