الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهمية ودور الشعب من أدبيات التصوف الاجتماعي إلى مناهج الحوليات الفرنسية

ماهر اختيار

2011 / 7 / 9
المجتمع المدني


يجتمع رجالات التصوف الاجتماعي في الشرق ومؤرخو مدرسة الحوليات الفرنسية على إلقاء الضوء على أهمية الشعب متجاوزين الاتجاه التقليدي الذي اقتصرت أبحاثه على دراسة النخب الحاكمة مهملةً عامة الناس. إن أهمية دور الشعب تتجسد من جهة أولى في سلوك وممارسة بعض أعلام التصوف الإسلامي، ومن جهة أخرى في منهج وابستمولوجية التاريخ لدى معظم الباحثين في مدرسة الحوليات الفرنسية خلال القرن العشرين. فالشعب يمثّل، في مفهومه العام، ركناً أساسياً من أركان الحضارات الإنسانية، فهو صانع تاريخه بفضل فاعلية سلوكه الجماعي ومحاولاته المستمرة للانتصار على الجانب السالب في المجتمع والطبيعة. ولطالما ردد بروديل في مؤلفاته أن الشعب هو صانع هذا التاريخ الطويل، هو من رسم معالم الحضارات الإنسانية وكتب سطورها. من هنا يأتي الإيمان بحركية التاريخ وحتمية صيرورته وابتعاده عن السكون والثبات الأبديين، وذلك لأن قدرة الشعوب على تغيير ظروفها وعلى تطوير شروط حياتها هي قدرة قد تكون نائمة لعقود متعددة، ولكن ما أن تستيقظ من سباتها حتى تزلزل عروش نخب المجتمع سياسيةً كانت أو اقتصادية. إذاً الشعب هو من يمنح تاريخه صفة الثورة بعد ركون واستكانة طويليّن، ولعل خير مثال واقعي على ذلك هو تحرك الشعوب العربية لإسقاط أنظمة الاستبداد السياسي والعمل على تحجيم حيتان جامعي الأموال ومن يسيطر على الحياة الاقتصادية، إنها محاولة ستجد ثمارها في التغيير المنشود، وذلك لأن الشعب هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في كتابة حاضره وفي رسم مستقبل أجياله، إنه الباني لوطنه ولمؤسساته التي من المفترض أنها تخدمه، وبالنتيجة هو المسؤول عن استمرارها أو تغييرها.
نحن إذاً أمام اتجاهين متمايزين أحدهما نظري منهجي مرتبط بهدف ابستمولوجي، والآخر عملي ملامس لحياة الواقع ومعايش لظروف عامة الناس، إلا أن فكرة الرهان على دور الشعب في بناء التاريخ وفي ضمان توازن المجتمعات البشرية هو ما يجمعهما. فمن الناحية المنهجية، حاول مؤرخو مدرسة الحوليات الفرنسية إثبات أن الشعب هو العنصر الأساسي في صناعة التاريخ، وأن دراسة سلوكه الجمعي تمثل خطوة ابستمولوجية ضرورية لموضعة وقوننة المعرفة التاريخية. إذ اعتقدوا بأن الاستمرارية التي تُميّز العقليات الجمعيّة للشعوب تقدم سياقاً منهجياً يستطيع من خلاله المؤرخ استخلاص قوانين اجتماعية واقتصادية. تسمح هذه القوانين للباحث نظرياً بتوضيح آلية سير التاريخ وما هي العوامل التي تضمن استمراره أو ما هي الظروف التي تؤدي إلى إحداث ثورات تقطع التاريخ إلى حقب متباينة مختلفة. لقد بدا لهؤلاء المؤرخين أن الشعب وسلوكه الجمعي المتصف بالاستمرارية يُّجسد خطوة منهجية تقودهم لبناء معرفة تاريخية موضوعية قريبة من مثيلاتها في العلوم الطبيعية. فرغم أهمية وحضور العامل الجغرافي في دراسات بروديل التاريخية على سبيل المثال، إلا أنه يرى بأن حضارات بحر المتوسط لا يمكن تعريفها ودراستها فقط بناءً على وسطها وتضاريسها الجغرافية، وإنما حركة الإنسان ونشاطه، واختراعاته في ميادين النقل والتجارة هي من صبغت تاريخ تلك الحضارات بالحركية والتطور بعيداً عن الجمود والتخلف. من هنا يؤكد بروديل بأن قرارات الملوك لا تبني وحدها حضارات، وإنما السلوك الجماعي للشعوب ونضالها من أجل تحسين ظروفها هي المساهم الأكثر فاعلية في رسم التاريخ الإنساني. إنه سلوك مستمر يمنح المؤرخ خطوة منهجية تقربه من صياغة معرفة موضوعية في ميدانه.
في مقابل هذا الاتجاه الحديث، راهن أيضاً رجالات التصوف الاجتماعي- وما يزال أنصارهم يفعلون- على أهمية دور الشعب، وعلى ضرورة الاصطفاف إلى جانبه لتحقيق التوازن الاجتماعي في وسط تسيطر عليه سلطة المال والدولة. لقد قدم هؤلاء المتصوفة درساً رائعاً في النضال من أجل نصرة عامة الناس ومن أجل انتشالها من براثن ومخالب الظلم والفساد. فالنضال من أجلهم هو نضال من أجل توازن اجتماعي يحقق قدراً من العدالة الاجتماعية ويسمح للتاريخ بالتقدم إلى الأمام بعيداً عن السكون والخمول. وإذا كان يغلب على أعلام التصوف طابع التقشف والعزلة والحزن، فإن رجالات التصوف الاجتماعي لا يميلون للعزلة لتحقيق الوصال مع خالقهم، وإنما وصالهم يتحقق بالانخراط في جموع الناس وبالكفاح من أجل رد الظلم عنهم ونقد من يستبد بهم ويستعبدهم. وإذا غلبت عليهم صفة الحزن فإن ما يحزنهم هو الظلم الذي يتعرض له الشعب، والشر والاضطهاد في المجتمع وما ينتج عنهما من آثار سلبية على الفقراء والبؤساء من عامة الناس. إن حزنهم وزهدهم لا يجسدان سعياً لتجاوز حياة الدنيا طمعاً بالجنة وبحورياتها، وإنما يجسدان موقفاً ناقداً للنخب المُسيّطِرة سياسياً واقتصادياً على البلاد ودفاعاً عن الشعب الذي يصنع التاريخ بسلوكه الجمعي على مر العصور.
في هذا السياق نجد في كتاب مدارات صوفية لهادي العلوي المثال التالي: انه كان في زمن بني إسرائيل حكيم استطاع تأليف ثلاثمئة وستين كتاباً في الحكمة. فأوحى الله إلى نبيهم ما يلي: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تُردُني بشيء من ذلك، وإني لا أقبل شيئاً من نفاقك. فأُسقط في يديه وحزن وترك ذلك، وخالط العامة ومشى في الأسواق فأوحى الله إلى النبي قل له الآن وافقت رضاي. يعلق هادي العلوي على هذه القصة بالقول ثلاثمئة وستين كتاباً لم تجلب له الرضوان. فلما ترك الثقافة ونزل إلى الناس ليعيش معهم ويشاطرهم همومهم تأنسن وتأله وحصل له الرضى. ثم يعدد لنا في سياق آخر خصائص التصوف الاجتماعي لدى ابراهيم بن أدهم على سبيل المثال والتي تقوم على: العيش من عمل اليد، مقاطعة السلطة، الاستغناء عن الجنة، عدم الزواج أو الزواج بواحدة، عدم امتلاك الجواري والعبيد، كره العسكريين. نستنتج مما سبق أن هذه التصوف هو تصوف السلوك والوقوف بجانب عامة الناس وليس تصوف الفكر والانعزال عنهم، إنه الرهان على السواد الأعظم من الناس نصرة لهم في مقابل العداء الناقد لنخب المجتمع. الحكمة إذاً ليست بكتابة المؤلفات وتسطير الشعر والانغماس في تنظير الآراء، وإنما الحكمة تتجلى في معايشة ظروف الشعب لتفهم أحوالهم وحاجاتهم. إذ إن تأليف الكتب وصياغة النصائح بعيداً عن هموم الناس ومعاناتهم هو ضرب من ضروب التعالي، وهو تقليد أعمى لسلوك نخبوي لا يعير الشعب اهتمامه. إن دعوة أهل التصوف الاجتماعي إذاً للرهان على عامة الناس هي دعوة لتحقيق العدالة الاجتماعية التي تضمن الاستقرار والتوازن للوسط الاجتماعي، توازن لا يتحقق بعيداً عن الشعب.
في الواقع، يقدم لنا هذان الاتجاهان الفكرة التالية: إن تجاهل قدرة الشعوب على تغيير مصيرها من قبل بعض الحكام والمثقفين هو تجاهل لأهمية ولقدرة هذه الشعوب على تحويل المستنقع الراكد إلى بحر هائج، إلى بحر تترك أمواجه آثارها على تلك الصخور القابعة على شواطئه منذ قرون. قد لا تحرك الأمواج الصخور ولكن غضبها يسمح بنقش حروف ثورتها عليها ويمهد لتجديد التاريخ والمجتمع. بالنتيجة: يجب على أنظمة السياسة في بلداننا العربية عدم الاستمرار في تناسي وتجاهل الطرف الذي يستطيع تغيير مجرى تاريخه عندما تزداد أزماته. فلقد ظن حكام العرب على مدى عقود بأن صوت السلاح أشد صخباً من صوت الشعب، وبأن جمع المال والثروات أكثر أماناً من رضا عامة الناس، وبأن تربية الأجيال على ترديد نعم ترهبهم وتبعدهم عن قول لا. لقد سكنوا في بروجهم العاجية وفي قصورهم الفارهة مكرسين عزلتهم عمن يضمن بقاءهم، لقد استقروا في قمة الهرم متعامين عن مشاكل القاع ومتجاهلين حاجاته. لم يعلموا أن هذا القاع هو من يحمل الهرم وهو من يضمن استمراره، وأن هذا القاع هو الشعب الراسم للتاريخ وهو المزلزل لعروش الملوك حالما يصرخ مطالباً بإسقاط النظام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هيئة البث الإسرائيلية: الحكومة تدرس بقلق احتمال إصدار -العدل


.. الأمم المتحدة: هجوم -الدعم السريع- على الفاشر يهدد حياة 800




.. مصادر إسرائيلية: نتنياهو خائف جدا من احتمال صدور مذكرة اعتقا


.. لحظة اعتقال الشرطة الأمريكية طلابا مؤيدين للفلسطينيين في جام




.. مراسل الجزيرة يرصد معاناة النازحين مع ارتفاع درجات الحرارة ف