الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشروط الأخلاقية للحرية

سلام عبود

2011 / 7 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إذا كانت الحرية هي الشرط الأساسي لتحقق إنسانية الفرد، باعتبارها خاصيّة من خصائص الإرادة العاقلة وحدها، فإن الثقافة الحرّة هي الشرط الرئيسي لتحقيق إنسانية الثقافة. لكن الحرية بقدر ما هي مسؤولية اجتماعية، هي قضية فردية أولاً.

إن الخطوة الضرورية، التي تقرّبنا من ضفاف الحرية الثقافية، أن يؤمن الفرد إيماناً تاماً بحرّيته كفرد وكإنسان، ويُخلص لها ويصونها ويحصّنها. إن الإخلاص للذات والضمير، هو الشرط الداخلي الأول لامتلاك الحرية الثقافيّة. أما الشرط الثاني فهو ارتباط الحرية الفردية بالحدود الأخلاقية لممارسة الحرية، وهو الشرط العام، الإنساني. هذ المطلب، كمضمون اجتماعي، ليس مقياسا كميّا لعدد الأفراد، بل هو معيار نوعي، فلسفي، تشترطه قوانين استقلال الإرادة وصلتها بالإرادة الخيّرة. لأن الاستقلال الذاتي للإرادة هو المبدأ الأعلى للأخلاق. إن مفهوم الحرية، في صيغتيه المثالية الذاتية، كما عبّر عنه ايمانويل كانط، أو في صيغته المادية الجدلية، لا يوجد خارج فكرة "الاستقلال عن عِلّية العالم المحسوس"، أو خارج شروط "وعي الضرورة وإدراكها". بدون هذين الشرطين لا توجد حرية ثقافية. بفقدان هذين الشرطين أو أحدهما، لا يملك المرء إمكاناً واقعياً للانفلات من سيطرة الواقع الخارجي. فبدون تلك الحرية ينقلب الفرد الى مجرد ذيل تابع للطبيعة وللمؤسسة الإدارية والسياسية والحزبية والعرقية والمذهبية.
إن امتلاك الحرية الثقافية، كشرط للاستقلال الذاتي، لا يعني مساواة البشر في المزاج والسلوك والمسؤوليات الأخلاقية، أو تجريدهم من تلك المسؤوليات، كما يظن البعض. بل تعني الانعتاق من تأثير الضغط الخارجي، الكلّي الجبروت، المسلّط على الذات في هيئة سلطة أو مؤثر مادي ومعنوي، والتحرر من أبوّته وعبوديته وإغرائه. إن التوازن الدقيق بين الحرية الفردية وسلطة المؤسسة، بين السياسي والثقافي، نجده في قول الحسن البصري في الواقفين على أبواب الحكام من طلاب العلم: "والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم، ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا فيكم".
إن هذه الدعوة المبكرة، التي رافقت نشوء الدولة العربية الإسلامية، تدلّ على أن معادلة السلطة - الثقافة، الحاكم - المثقف، قديمة وعميقة ومحسوسة الأثر منذ أزمان بعيدة في الثقافة العربية.
ربما يقول البعض: لكل تابع متبوع. نعم، هذه سنّة الحياة، ومن ينكرها يكون بحكم الأعمى. ولكن، ما حدود هذه التبعية وطبيعتها؟ ذلك أمر يختلف الناس فيه. فالمديح مثلاً يكون صفة مذمومة أو مقبولة ليس لذاتها، وإنما لدرجة انطباقها على واقع الممدوح. حتى المديح التكسبيّ، أو المديح الكاذب- وهو مرذول - لا يحمل خطورات جسيمة، كالمديح الذي يقوم به "جيش الوشاة"، الذين يتولّون في كل العصور مسايرة مشاريع القوة والسلطة (ديكتاتور، احتلال، مؤسسة حكم، صاحب نفوذ). فممجّدو القوة يمجّدون خصالاً رذيلة في المقاييس الإنسانية كافة. إن تمجيد العنف والقتل وشعارات الحرب والتعبئة العسكرية والبطش والغزو والاحتلال والإرهاب التكفيري والجمود العقائدي لا يدخل ضمن مصطلح المديح، لأنه يحتوي على مغزى اجتماعي - سياسي يتجاوز حدود الممدوح، ويتعدّاه الى حياة البشر عموماً، الذين هم ضحايا لشرور هذه الخصال موضع المدح. أي أنه يتعارض مع جوهر الحرية الفردية والجماعية، ويتعارض مع قوانين الأخلاق. إن تمجيد العنف والقوة ثقافيا، يتحول، في الحياة الاجتماعيّة، مع طول ممارسته، الى بنية ثقافية داخلية حيّة، تظل تفعل فعلها، تحت طبقات اللاوعي الجمعي، حتى حينما تزول مسبباته. وهنا تكمن خطورة الممارسة الثقافية، في الصفة التاريخية والإجتماعية للوعي، التي تغدو نسيجا ثقافيا، أو مزاجا ثقافيا، كامنا، يمكنه أن ينهض، ويصحو من غفوته، حالما يجد الظروف العامة التي تبيح له ذلك. لذلك ينشأ استعداد دائم عند الفرد للتحول الى مصانع، جاهز الإعداد. وحالما يجد النفاق الفكري والسياسي تأييدا اجتماعيا أو حكوميا يمنح المثقف الحصانة القانونية والأخلاقية، التي تبيح له الولوغ في دم الآخرين، تصبح مسايرة المؤسسة الثقافية خطرا اجتماعيا حقيقيا، وتغدو جزءا عضويا متمما لمؤسسة العنف، وهذا ما سمّيته بـ "ثقافة العنف". أي تحول القوة (الحرب، القوانين العسكرية والأمنية، الصراعات الداخلية العنيفة، قوانين الطوارئ، الحالة الاستثنائية) الى آليّة تنظيمية لتسيير الأفراد والجماعات.
ولكن، هل حقا أن كل أديب وفنان هو أداة جاهزة للمصانعة والكذب، في ظروف الاستبداد؟ وكل شاعر هو مشروع طبيعي للنفاق السياسي؟
إذا أردنا صياغة السؤال من منظور الحرية، نقول: هل الحرية الداخلية للفرد خاضعة خضوعا شرطيا تاما للحرية العامة، أو حرية القطيع؟
هذا ما يروّجه دعاة العنف الثقافي والعبودية الثقافية. فالإذلال الثقافي هو الوجه الآخر للعنف الثقافي ولفقدان شروط الحرية. فلا عنف من غير إذلال، ولا إذلال من غير عنف. هذا قانون شامل يسري على الثقافة وعلى المجتمع بفروعه كافة.
إن المشكلة العقلية والأخلاقية الكبرى التي تعاني منها ثقافتنا تكمن في أننا نعلي من شأن الجوانب الرديئة في تاريخ البشر. فثقافتنا رفعت تناقضات المتنبي مثلاً، وهو أعظم شعراء العرب، الى مستوى المثل الأعلى، من دون تمييز بين صالحها وطالحها، وكادت تجعل من بعض جوانب الضعف في سلوكه المتناقض وسقطاته، صورة ايجابية، نموذجية، باسم التنزيه الكاذب للنموذج الأعلى.
فما انفككنا نلقّن أبناءنا الحكمة العنصرية "لا تشتر العبد إلا والعصا معه"، ذات الوجه التربوي الوحشي، والمحتوى النفاقي، على أنها واحدة من درر تاريخنا الشعري، وغبي علينا أننا جميعا يمكن أن نكون، في لحظة غير سارة، عبيدا عند التأويل.
إن مواجهة الذات مواجهة ناقدة هي الأداة الضرورية الوحيدة الممكنة لخلق ثقافة حرّة، معادية للعنف. وكلما كبرت موهبة الفنان والأديب، وعظمت المشكلة الثقافية التي يواجهها، ازدادت المسؤوليات الأخلاقية، نظرا الى ازدياد حجم الحرية الشخصية التي يتمتع بها المثقف حقيقةً أو افتراضاً. في هذا الموضع لا يوجد مَن هو فوق النقد، أو مَن هو مستثنى منه. لا أحد فوق النقد، من امرئ القيس الى البيّاتي، ومن المتنبي الى الجواهري وأدونيس ومحفوظ. لا أحد على الإطلاق. على العكس، إن الخلاّق الثقافي الفاعل يستحق من النقد أكثر من غيره حينما يسيء استخدام حريته، ولذلك يجب عليه أن يتحمّل أكثر من غيره وزر المساءلة التاريخية فنياً وأخلاقياً.
أسوق هذه الأمثلة، لأنّ بعض الذين ارتبطت بأذهانهم مدائح المتنبي وهجائياته لكافور مثلاً، مدمني المديح والجوائز والتكسب، يجهلون شخصاً، على قدر عظيم من الشجاعة، تخزي كثيرين لفرط استقلالها وقوة فرديتها، اسمه الفرزدق. وهو شاعر يجب على كل من يريد السير في درب الثقافة الحرّة أن يبدأ حياته بتعلم سيرته، قبل أن يكتب حرفاً واحداً.
الفرزدق، همام بن غالب بن صعصعة التميمي (641-732)، شاعر مولود في البصرة. أمضى حياته كلها في المدح والهجاء. وخلّده تاريخنا كأكبر الهجّائين.
اعتاد دارسو الأدب والمربّون أن ينقلوا عن هذا الشاعر "نقائضه" مع خصمه جرير، كنموذج فتّان لفنّ الهجاء. لكنهم قلّما تحدثوا عن شجاعته الفريدة، التي تخرس الألسن. ففي روايات متواترة، ثبت لنا التاريخ واقعة وقوفه في وجه الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك، حينما رأى الأخير جمعاً يتدافعون ويتزاحمون قرب الكعبة، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له إنهم يتزاحمون لرؤية علي بن الحسين (زين العابدين)، خصم الأمويين التقليدي. فما كان من الخليفة إلاّ أن تجاهل مكانته، فأجابه الفرزدق شعرا:
وليس بقولك من هذا بضائره/ العرب تعرف من أنكرت والعجم
هذا الذي أحمد المختار والده/ صلى عليه إلهي ما جرى القلم
فغضب هشام من قول الفرزدق، ثم طلب منه أن يمدحه بمثل الذي قاله في زين العابدين: "ألا قلت فينا مثلها!".
فردّ عليه الفرزدق: "هات جدّاً كجدّه، وأباً كأبيه، وأمّاً كأمّه، حتى أقول فيكم مثلها!".
فأمر الخليفة بحبسه. وحينما بلغ ذلك علي بن الحسين (زين العابدين) بعث اليه بإثني عشر الف درهم، لكن الفرزدق ردّها اليه وأصرّ على عدم قبولها، لأنه لم يقل كلمته مقابل مال!
لم يكن ذلك غريباً على رجل، كالفرزدق، لم يكن يجلس لوجبة طعام وحده البتة، ورث الشهامة عن جدّه صعصعة محيي الموؤودات في الجاهلية.
في هذه الواقعة، التي يجيد تاريخنا العربي إهمالها، أو تأويلها وتشويهها طائفياً، نكتشف أن شاعراً مادحاً، هجّاءً، كالفرزدق، يستطيع أن يقف منفرداً في مواجهة حاكم متكبر كهشام بن عبد الملك، من دون خوف، ويصرّ على مقارنته بخصمه، لصالح خصمه، ويتقبل العقوبة بإباء. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يبالغ في تأكيد حريته المطلقة حينما يرفض المكافأة (الجائزة)، سواء أجاءته من حاكم ظالم أم من ممدوح مظلوم. هذا تاريخ شعري أيضاً. تاريخ مهمل عن قصد. إنه الجزء المحتجب من ثقافتنا.
إذا كان المتنبي يهجو بعض ممدوحيه، بعد أن يفرغ من مدحهم، فإن الفرزدق يمتدح خصوم ممدوحه وهو مقيم على المدح. في هذا الحد الفاصل بين المدح تكسباً ووظيفة، وبين التشبث بالموقف الصارم، غير القابل للمساومة، تكمن جمرة الحرية، الخبيئة، الحارقة، ولكن الخالدة.
ذلك درس من التاريخ أيضاً، لكنه درس في الحرية وجرعة من استقلال الإرادة واحترام الذات والترفع. إنها الحرية الشخصية، حرية الضمير كعلّة تبرر ذاتها بذاتها، وتتمرد على جور السلطة وعنف المؤسسة وإفسادها، فلا يقوى المال أو السوط على أن يفرّغ من أعماقها شحنة الكبرياء والسمو، التي تختزنها.
ذلك هو الدرس الأول في معادلة الحرية والعبودية، وهو درس عربي خالص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -