الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
فصل عن العرب سقط من فصول - كتاب الموتى-
أحمد دلباني
2011 / 7 / 17العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
فصلٌ عن العَرب سقط من فُصُول:
" كِتاب المَوتى "
أحمد دلباني
1
تبدُو الثقافة العربية السّائدة، اليوم، كأنها فصلٌ سقط من " كتاب الموتى " المصريِّ الشهير: نعني بذلك أنها ثقافة ٌ تتمحورُ حول كلّ ما هُو آيلٌ للسقوط من معجم العصر في احتجاجاتهِ وأسئلتهِ وفتوحاتهِ المعرفيّة. إنها – في أشكالها السّائدة والرَّسمية / المُكرَّسة – لم تعُد تعيش إلا على إيقاع الإمتاع الاستهلاكيّ والتدجين الفكريّ والاستلابِ الدينيّ. لم تعُد لهذه الثقافة تلك الأبَّهة ُ التي كانت تربطها بذاكرتها البعيدة، أيام كان المبدعُ والمُفكر العربي يبدُو كأنه جلجامش يبحثُ عن عُشبة الخلود في الإبداع وفي القرع المأساويّ على باب الكينونة طلبا للمعنى والعلوّ والجدارة الوُجودية. لم يعُد لهذه الثقافة أسئلة ٌ تفتحُها على العالم، أو جُسورٌ تربطها بالمُناظراتِ الحضارية من أجل التفكير في صيغةٍ جديدةٍ لنزعةٍ إنسانية تحتضنُ تطلّعاتِ البشر إلى الأرقى والأجمل. لم يعُد لهذه الثقافة ما تقولُ ولا ما تفعلُ إلا دفن رأسها في رمال الماضي وجعل الذاكرة ملاذا للذات الجريحةِ التي أفلت من يديها – منذ زمن بعيدٍ – زمامُ المُبادرة التاريخية. لم يعُد العالمُ عربيا ورُبما نسيَ أيضا أنهُ كان يومًا ما عربيّا. نسيَ العالمُ ذلك الجسرَ العربيَّ العظيم الذي لملمَ أوصالَ التاريخ المُتوسّطيّ القديم وربط بين ضفافهِ بالترجمة والأنسنةِ وفضائل التسامُح. فكيف نفهمُ ذلك؟ كيف لثقافةٍ أنتجت ابن سينا وابن رُشد وابن خلدون والمُتنبي والمعرّي والبَيروني والشيخ الأكبر ابن عربيّ أن تدخلَ مُتحف التاريخ وتُصبحَ فصلا من فصول " كتاب الموتى " الذي يكتبهُ التاريخُ الإنسانيّ؟
في أساس ذلك، رُبَّما، أسبابٌ عديدة تضافرت جُهودها في هزيمةِ الذات الحضاريَّة العربية وفي أفول شمسِها. إن " سوسيولوجيا الإخفاق " الأثيرة جدًّا لدى البروفيسور محمد أركون قد تضيءُ الكثير في هذا المجال من البحث، ولكننا نعتقدُ أن الأسبابَ العميقة َ لذلك يُمكن العثورُ عليها أيضا في البنية الثقافيةِ العامة التي سادت تاريخيًّا وقدّرَ لها أن تنتصر. ففي غياب الإبداع وسيادة التقليدِ يكمن داءُ الثقافة العربيةِ القديم. من هنا عُنيت الأنتلجنسيا العربية المعاصرة بأسئلة النهوض وهواجس الحداثة من أجل مُواكبة تحوّلات العصر والانخراط في الزمن الثقافيّ الراهن. إن السّمة الأساسية للثقافة العربية الموروثة تتمثلُ في حضور التقليد بوصفه سندًا معنويا للذات، وبوصفه ملاذا ظل يقيها مغامرة العثرات في عالم أصبح يُصنع بعيدا عنها منذ سقوط بغداد على يد هولاكو. التقليد – في هذا المنظور – أمرٌ تاريخي عارضٌ يطرأ على كل ثقافة تعرف انقطاعاتٍ كبرى في مسيرتها الحضارية، نظيرَ ثقافتنا الكلاسيكية. فبعد أن عرفت هذه الثقافة مغامرة مُدهشة في المعرفة والإبداع وفي استكشاف العالم والانفتاح على الكونية عبر معرفة الآخر ومُحاورته والإفادة منه، نجدها تغرقُ – بعد ذلك كما هُو معروفٌ - في زمن ثقافيّ سكولاستيكي راكد، جسَّده بصورة جلية انسحابُ العقل الفلسفيّ من المشهد وحضور العقل الفقهي بقوة، ما يعني دخولَ الثقافة العربية عهدَ غياب الفاعلية المعرفية وانطفاء جذوة السؤال والبحث لصالح الركون إلى العقلية الفقهية التي جعلت العقل جرما صغيرا يدُور على هامش المرجع النصيِّ والأستاذية المذهبية المغلقة. وقد ظلت الثقافة الفقهية، بهذا المعنى، تؤبِّدُ قيمَ التكرار والاجترار مُجسّدة انسحابَ العقل العربي من مغامرة استكشاف المعنى في الفضاء التاريخي. هذا ما وقف عليه أدونيس وهو يُشخصُ شللَ الثقافة العربية في أشكالها السائدة. من هنا توصيفه لهذه الثقافة بأنها ذاتُ روح ماضوية في عمومها وبأنها تعاني من استبداد السلطة المرجعية ولا تفتح أفقا للتساؤل خارج المعطى والجاهز والمُكرَّس. هذا ما أدى إلى أن يصبح الفقيه " رمزا للحضارة العربية " كما يعبر أدونيس ( الثابت والمتحول- دار الساقي، بيروت. ج1- ط 9- 2006- ص 112).
لقد تجسدت هذه السمات الوصفية العامة في منحى " الثبات " الذي قدِّرَ له أن يُهيمن وأن يترسخ تاريخيا بوصفه هوية حضارية وثقافية شكلت إيديولوجية السلطة القمعية في مراقبتها التاريخ وفي سجنها الوحيَ داخل الإطار الضيق لفهمها الخاص. هذا يعني أنه حدثَ اغتصابٌ لفضاء احتمالات المعنى وتم التشريعُ لاستقباح احتجاج العقل والنظر الحر ومغامرة الإبداع خارج النماذج لصالح سيادة النقل والتقليد. يرجع هذا الأمر بالدرجة الأولى - بحسب أدونيس – إلى تأثير الدِّين بوصفه رؤية تقوم، جوهريا، على نفي التاريخ والتطور والاعتقاد بكمال الماضي التدشيني. من هنا وَجدَ التقليدُ ما يبرّرهُ ويُسوّغه باعتباره موقفا يستعيدُ الروح الدينية في كلِّ شيء، حتى في الإبداع الأدبي والفكريّ، حيث أصبحت فاعلية العقل تتوقف عند محاكاة النماذج الراسخة. ورغم إهمال أدونيس - في تحليله لسيادة الماضوية والتقليد في الثقافة العربية – مُجملَ العوامل الأخرى التي تشكل مهدا للتراجع أو لانكفاء العقل على نفسه، إلا أن تحليلاته الذائعة قادتهُ إلى اكتشاف النظام المعرفيِّ العربيّ في عمُومِه، وهو نظامٌ يقوم على سلطة المرجعية – المعيارية في المعرفة والسلوك معا. هذا ما يجعلُ الحداثة مشروعا عامًّا في محاولة نسف هذا النظام الذي هيمن وأبقى معه الثقافة أسيرة للماضوية وعدم الفاعلية. على الثقافة العربية أن تخرجَ من مفهوم الزمن الديني الذي أنتج فكرة عصمةِ الماضي وكماله ومعياريته لتدخلَ زمن الحداثة الفعلية، أي زمن التقدم. الإنسان الحديث وجهٌ جديدٌ مغامر ينتج الأشكال ويهدمها، ولا يعرف إلا النسبيَّ والتاريخيَّ في كل شيء، خلافا لإنسان العصور الوسطى الذي ظلَّ مشدودا إلى المرجعية يُنوّع عليها ويعتبرُ تجلياتِها، فكرًا وأدبا، نماذجَ كاملة ومرجعياتٍ عُليا.
لقد شكَّلَت الأدونيسية، بالتالي، في جانبها النقديِّ هذا سُؤالا في متن الفكر العربيِّ المعاصر ورجَّة في الإبداع والذائقة والحساسية معا. لقد كانت، بذلك، مغامرة وإفاقة ً على مهام العقل الجديدة في كنفِ وضع ظل يرسخ سلطة النموذج والمعيار، ويكبحُ جماحَ الصَّبوات الإنسانية الأكثر عمقا وتوقا إلى الانعتاق من سجن الهوية المفروضة والمعاني السلطوية المستنفدة. لم يكن هناك شيء واحد فعلا يعيش خارج السلطة بمفهومها الواسع – كما كان يعبر الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو Foucault. الهوية العربية الموروثة إنتاجٌ سلطويّ. مفهومُ التراث الواحد الكامل إنتاج سلطوي. القيم والمعايير والنظرة إلى الذات والعالم إنتاج سلطوي بالمعنى المشار إليه والذي يعني قوة الهيمنة المرتبطة بالشرعية المؤسَّسة تاريخيا على اغتصاب الدلالةِ والحقيقة في الفضاء السوسيو- سياسي. من هنا يبدو دورُ المفكر النقدي هائلا من أجل تحرير دلالة الأشياء من تاريخها المرتبط بالسلطة، ومن أجل قراءة جديدة للعالم والتاريخ في أفق التغير والصيرورة تسحب من السلطة القمعية شرعية هيمنتها الرمزية على الذات العربية والواقع العربي. هذه هي الحداثة النقدية التي مثلت، بمعنى ما، تفكيكا متواصلا للرؤى المغلقة القائمة على الوحدانية والأصل المتعالي ومرجعية اللحظات التأسيسية. ونحن نعرف جميعا أن الحداثة الأوروبية جابهت، تقريبا، نفس المشكلات منذ عهود تململها الحيِّ الذي أخرج جذوتها من رماد العصور الوسطى ونظامها القائم على المطلق الديني والمرجعية النصية / اللاهوتية المقدسة والمؤسسة الكنسية - إلى فضاء المغامرة العقلية وتاريخية المعنى ونسبيته.
هذا ما جعل أدونيس الحداثيَّ يمارسُ النقد الثقافيَّ والحضاري الشامل في مناهضته الثقافة العربية في شكلها السائد والموروث. لقد حاول نسفَ خرافة التراث الواحد الكامل بإبراز تعددية هذا التراث وتاريخيته وصراع أطرافه ضمن الحرب الأبدية على احتكار المعنى. وبيَّن، بذلك، أن الهوية ليست شيئا ثابتا ومتعاليا على الصيرورة وإنما هي جدل لا يتوقف مع العالم والآخر كما تكشف عن ذلك التجربة الحضارية العربية ذاتها. من هنا يتبيَّنُ أن الإبداع لا يمكن أن يكون محاكاة للنماذج الماضية التي خلع عنها النقد الطليعيُّ صفة التعالي والقداسة وبين تاريخيتها ونسبيتها – وإنما سيكونُ اختلافا وإنتاجا للمغايرة وابتكارا لأشكال جديدة تمثل مقاربات وحساسيات تستجيب، أكثر فأكثر، للحظة الراهنة وإيقاعها. هذا يعني أن الحداثة عند أدونيس - بوصفها ثورة نقدية - لم تكن تهجُّما على التراث أو محاولة لهدمه كما اعتقد الكثير، وإنما كانت مشروعا في إعادة بناء العلاقة مع هذا التراث بحيث لا تصبح العلاقة بالماضي علاقة تقديس وحجابا يحول بيننا وبين فهمه في تاريخيته وصيرورته، بل علاقة نقدية تحترم إنجازاته ولكنها لا تعتبرها معايير مطلقة في الفكر والإبداع. يجب تحريرُ الفاعلية من الماضوية ومن المرجعية – المعيارية في كل شيء. هذا يكشف بجلاء، بالتالي، أن التراث ليس مشكلة معرفية / إبستيمولوجية فحسب وإنما هو، بالأساس، مشكلة سياسية ترتبط بمفهوم السلطة عن شرعية الهيمنة على المجتمع بما يخدم ديمومتها. كل سلطة تحتاج إلى فهم معين للتراث يقدمها بوصفها أمينة على استمرار الأمة الخالدة بثوابتها. فالتراثُ قراءة ٌ. ونعتقدُ، تبعًا لذلك، أنهُ ليس معطى جاهزا وإنما هو شيء يُنتَج ويعاد إنتاجه باستمرار بوصفه قوة هيمنة إيديولوجية. ورُبما أتيحَ لنا أن نلاحظ أن الحاضر العربي - الإسلامي يؤكد هذا الأمر أكثر، ونحن نشهد كيف يتم الزواج المقدس بين السلطة السياسية الخائبة والمد الديني الأصولي في لحظة الفشل التاريخي التي نعيشها.
وحدة التراث؟ وهمٌ سلطويّ. هي ذريعة لتسويغ الهيمنة باسم فهم مُعيَّن لهذا التراث المتعدد والمتناقض. هي اختزال للتراث في وجهٍ أو مسار أو موقف أو مدرسة فكرية يعاد إنتاجها، اليوم، باعتبارها تمثل الذات الحضارية والهوية المتعالية. وحدة التراث؟ ربما لم تكن، بوصفها فكرة، وهما فحسب: إنها حيلة السلطة، كذلك، في اقتناص شرعية العمل التاريخي على فرض الأمر الواقع باعتباره ظلا للمطلق وحراسة للمقدس القديم. يرفض المثقف النقدي، بالطبع، هذا الأمر محاولا تفكيك علاقات الهيمنة وفضح البطانة الإيديولوجية السافرة لهذا التصور. إنه يبدأ بتحرير المكبوت وأصوات الهامش في التاريخ، كاشفا عن الانقسام في صميم الوحدة ومبرزا تاريخية هذا التراث بوصفه إجابات ومقاربات وقيما ومعارف ارتبطت بظروفها ولم تعد ملزمة. وخلافا للتصور اللاهوتي للتاريخ يتبنى التصور التقدمي. لا يعود الكمال في الماضي وإنما ما يتكشف في الآتي. لا يعود الإبداع إعادة إنتاج للنماذج الكاملة أو محاكاة للأصل وإنما سَفرًا في ليل الذات والعالم خارج كل معيارية ونموذجية. هذا ما جعل أدونيس يطرح مشكلة الإبداع الشعري في الثقافة العربية بوصفها مشكلة حضارية لا فنية فحسب. إنها مشكلة التعبير الحر الذي ينبجس من قرار الذات. ولكن أين هي الذاتية - بمفهومها العميق – في الثقافة العربية – الإسلامية السائدة؟ أين هي الحرية التي هي شرط الإفصاح الكامل عن التجربة؟ إن النظام المعرفي العربي الذي ساد ويسود لم يفتح كوة ينفذ منها ضوء الحرية بمفهومها الكياني الشامل. إنه نظام ظل يرسخ محو الذات وحضور التقليد، وغياب المغامرة الإبداعية لصالح إطالةِ أمد الماضي ومعاييره بوصفها أصولا. خلافا لهذا، يجابه أدونيس هذا الوضعَ الراسخ بالقول إن الحداثة التي ننشدها ليست تعبُّدًا في محراب الأصول التي قامت عليها الثقافة ونظامها السيميائي، وإنما هي تدميرٌ منتظم لأرضيتها وكشف عن تاريخية الأصول وعرضيتها ونسبيتها؛ ما يعني طرحَها لجُبَّةِ القداسة القديمة عن كلِّ شيء. إن الإبداع ليس عودة إلى نظام الطاعة وإنما هو صعلكة تناوش مؤسسة التاريخ الرسمي ونظام العالم القمعي. الإبداع مغامرة الذات الحرة في جعل العالم بيتا يسعُ الإنسان.
2
إنَّ تأملات أدونيس في السنوات الأخيرة قادتهُ إلى نوع من التشاؤم البصير في هذا الشأن. إننا نراه يتحدث ويكتبُ عن " انقراض العرب " و"موتهم ". إذ انطلاقا من التجربة الحضارية للعرب في القرن الأخير، وانطلاقا من التحديات التي واجهتهم وكان عليهم تخطيها لولوج العالم المُعاصر وامتلاك أبجدياته، يلاحظ أدونيس أنه لم يحصل ما كان مرجُوًّا وبقي الزمن الحضاريّ والثقافي العربي راكدا. لم يقدم العربُ شيئا للعالم، ولم يستطيعوا إحداثَ النقلة النوعية في وجودهم التاريخيّ - سياسيا واجتماعيا ومعرفيا بالأخص – وإنما أعادوا إنتاج الزمن القديم في حُلة جديدة ذات صبغةٍ استهلاكية على نطاق واسع. لا ديمقراطية ولا حرية ولا حقوق للكائن البشري. لا تنمية ولا عدالة ولا مساواة. لا إبداع ولا إعادة نظر في الموروث الدينيّ تفتحهُ على أسئلة الراهن، وإنما اجترارٌ لا ينتهي وتحيينٌ للماضي بما يخدم لحظة الانهيار والخواء ويسندُ سلطة الاستبدادِ السياسيّ. كيف لهذا الفشل أن يكون مُبرّرا رغم الثروات الهائلة التي يمتلكها العرب؟ كيف يمكن لأمة تملك ماضيا غنيا وثرواتٍ مادية هائلة وطاقات بشرية نوعية أن تضيِّع الفرصة التاريخية بهذه الكيفية؟
في أساس ذلك، على ما يرى أدونيس، نهاية ُ تاريخ بكامله. إن أزمة العرب، اليوم، تكمن في أنهم يُطيلون أمدَ نهايتهم بوصفهم ثقافة لم يعد لديها ما تقول. إن ثقافتنا العربية – في شكلها الموروث والسائد مُؤسَّسيا – ثقافة تحتضر ولم تعد تنضح بدم التاريخ الحيّ الذي يعني القدرة على مواجهة التحديات وطرح أسئلة المصير والإسهام في تشكيل وجه العالم. إنها ثقافة تعيشُ على هامش التاريخ الحيّ الذي يصنعه الإبداعُ والرؤى الخلاقة والمعرفة التي تسافر في قارة المجهول. الثقافات الحية، بهذا المعنى، مثل كولومبس: تقتحمُ ليلَ العالم وتكشف عن عوالم جديدة معرفيا، أو تؤسس لقيم جديدة إنسانيا وحضاريا. ولكن ماذا فعل العرب، منذ قرون، على هذا المستوى؟ لا شيء تقريبا، يجيب أدونيس بلهجة الخائب. ولكن لماذا؟ عمَّ يكشف هذا التشخيصُ لاحتضار ثقافة بكاملها ولنهاية تاريخ يُصرُّ على البقاء كمومياء في العصر الحاضر؟ يجيب أدونيس قائلا إن " جوهر الأزمة العربية يكمن في أن العرب يرفضون الخروج من ذاكرتهم، يرفضون أن يعترفوا بأن التاريخ ينتهي ". وبما أن التاريخ الذي لا ينتهي " ليس إلا أزمة متواصلة بلا نهاية " ( محاضرات الإسكندرية – دار التكوين، دمشق ط1 2008. ص 29)، فإن العرب بوصفهم ثقافة وحضارة يوجدون، اليوم، خارج المَسار الحيّ لنبض العالم على كل المستويات. إنهم ذاكرة ٌ شائخة وطاقة مستنفدة لأنهم فضلوا الإقامة في الماضي استيهاما على الإقامة في الحاضر واحتضان حركية العالم وصيرورته. التاريخ الحي يصنعه الإبداع وإعادة النظر الدائمة في مُحدّدات الثقافة السائدة كلما كشفت عن كُساحِها أو عجزها أمام أسئلة الحاضر ورهاناته وتحدِّياته. هكذا كانت الحداثة الأوروبية منذ عاش العقل الغربيُّ أزمة وعيه الشهيرة وقطع مع ثقافته السكولاستيكية الوسيطة مُؤسِّسًا للحظة العقلانية. وهكذا كانت الثقافة العربية – الإسلامية نفسها في عهود ازدهارها يوم كشف فيها الجدل بين " القديم " و " المحدث " من جهة أولى، وبين " العقل " و" النقل " من جهة ثانية، عن ديناميكية رائعة في الانفتاح على أسئلة مرحلتها بإعادة قراءة الماضي وتأويله بما يستجيب للحظة التحول.
تكمنُ قيمة التحليل الأدونيسي - لما أتينا على ذكره - في محاولة تجاوز الأطروحات السائدة حول " الكبوة العربية " ومعيقات النهوض بعد الانتكاس التاريخي المعروف. لم يَعُد يقرأ أزمة التاريخ العربي، ثقافيا وحضاريا، من منظور الاستمرارية أو من منظور التاريخ الطويل الذي يشهد صعودا وأفولا وإعادة بعثٍ يُسمّيها الكثيرون " النهضة ". ليس هناك فينيق ينبعث من رماد الحضارة إذا ماتت. هناك تاريخ جديد يقوم على أنقاض تاريخ انتهى. والحاضرُ العربيُّ، اليوم، أنقاضٌ لثقافة تحتضر لأنها فقدت القدرة على الإبداع والخلق، ولأنها انتهت بوصفها قيما وإنجازات ارتبطت بتاريخ سابق على هجمة الحداثة وأسئلتها. إنها ثقافة – ذاكرة لا تمتلك قوة الحضور الإبداعيّ أو الاستشرافي في عالم اليوم. وما زاد من حدة الأزمة هو ارتباط هذه الثقافة بالمؤسسة السياسية والاجتماعية، ما جعل العالم العربي سجنا كبيرا لطاقة الحياة والإبداع والتجاوز. إن أدونيس يهجم بنقده، هنا، على الثقافة بوصفها مؤسسة ً تاريخية وسوسيو- سياسية، وبوصفها أجوبة وقيما لم تعد على موعد مع اللحظة الحضارية الراهنة.
ولكن لماذا يُصرُّ العرب على الإقامة في الماضي؟ لماذا لا يعترفون بنهاية الثقافة العربية الموروثة والمؤسَّسية بوصفها مقاربات معرفية مستنفدة وقيما متجاوزة؟ لماذا لا يواجهون موتهم التاريخي بنوع من بطولة العقل القادر على كتابة فصل جديد في وجودهم بطاقة الإبداع إن كانوا أحياء فعلا؟ في أساس ذلك، يقدم أدونيس تحليلا يقترح فيه تفسيرا يقوم على اكتشاف الجذر البسيكو- معرفي لدوام ثقافة التقليد والأبوية. يقول: " ذلك عائد إلى الإيمان العميق الكامل عند العربي، بأب مؤسس إلهي لا يموت: أب ميتافيزيقي – فيزيقي في آن "، وعلى هذا فالعربي " يصالح أباه " ( محاضرات الإسكندرية – ص 28). في هذا ما يشير إلى أن أزمة الثقافة العربية والإنسان العربي عموما تكمن – بحسب أدونيس – في عدم القدرة على إحداث الثورة على الأب. الحداثة كما نعلم هي، جوهريا، قتل للأب بوصفهِ وصاية ومرجعيَّة تسبغ المعنى على الكينونة، وبوصفه ثقافة سائدة ترسخ قيم الطاعة والخضوع. بينما ما زال الإنسان العربي، في أعماقه، يدافع بصورة واعية ولا واعية عن حضور الأب مُمثلا في تاريخ لا يموت، وإنما قد يعرف انتكاسة وتراجعا سرعان ما يتجاوزهما ليتماهى من جديد مع صورته الأبدية الخالدة. هذه، بالتالي، رؤية لاهوتية لا تاريخية للأشياء؛ وهي رؤية تميل، بكل تأكيد، إلى المصالحة العقلية مع الأزمة وتبرير الوضع القائم وإطالة أمد الموت – الشيء الوحيد الذي لا يموت في الحياة العربية.
هنا، أيضا، يعثر أدونيس على جذر الوحدانية بوصفها تأسيسا للأصل والهوية المتعالية في الثقافة. التاريخ - بحسب هذه الرؤية - لا يموت لأنه تجسيدٌ لديمومةِ الأصل الواحد المتعالي، وتجسيد لمسار هوية تتأبى على الاندثار أو الانطماس. إنه زمن فوق الزمن وبيتٌ لا تعصف به رياح التغيير. من هنا، نستطيع أن نفهم المُحدّدات العميقة للثقافة العربية السائدة بوصفها قلعة مهترئة تقوم على بركان التاريخ الفعلي الذي هو حركة دائمة من خلق الأشكال وهدمها. التاريخ الفعلي ليس زمنا رياضيا ثابتا ومُتعاليا على الصيرورة والتغير؛ والثقافة الحية ليست زوجة للأبدية. إنها تاريخ ومسارٌ يُجسِّد صراعا مع سؤال المعنى والغاية في ظل التحول الدائم. إنها شكل من أشكال الحضور لا يزدهر إلا بانتعاش الإبداع والخروج من عباءة الأب الرمزي ووصايته. التاريخ الحي ليس استمرارا أو استئنافا للأصل، وإنما هو ولادة لا تنتهي لفراشة الذات من شرنقة التاريخ المستنفدِ والمنتهي.
3
رُبما كانت كوابحُ نُهوضنا في أساسها العميق، فعلا، كوابحَ ثقافية ً بالمعنى الشامل. إنها تكمن – بمعنى ما – في بنيات الوعي والسُّلوك الراسخة التي لم تهتزّ بالشكل الكافي، وتكمنُ في النظام الثقافي الأبويّ الذي ما زال يُقاومُ التغيير ويعتصمُ بالفضاء الرمزيّ التقليدي الذي اشتدّت الحاجة إليه زمنَ فقدان زمام الأمُور أمام العالم المُعاصِر وتحدّياته. إن طريقتنا في سُكنى العالم لم تتغيَّر في العُمق رغم كل الاهتزازات وبقينا نستنجدُ – عند كل طارئ – بالذاكرة، ونحتمي من قرّ المُغامرةِ الوُجودية المُعاصرةِ بنار الأصول. هذا هُو التشخيصُ العامُ لوضعنا الحضاريّ الذي أرادَ أن يقفَ منهُ أدونيس موقف شبنغلر من الغرب الحديث ويكتبَ عن تدهورهِ وأفوله. فإذا كانت الحداثة الفعليَّة كما يرى ميشال فوكو – مُحللاً كانط – موقفا لا تاريخًا، فما هُو الموقف العام والمبدئيّ الذي ظلّ يُجسّدُ رؤية الإنسان العربي للعالم والأشياء والمعرفة والقيم؟ أعتقدُ أن الجوابَ لا يختلفُ حولهُ اثنان ولن يكونَ أيُّ استثناءٍ إلا تأكيدًا للقاعدة العامة: نحنُ أمة الذاكرة لا أمة العقل والإبداع. وثقافتنا هي " ثقافة المؤمن لا ثقافة المُتسائل " كما جهرَ بذلك أدونيس منذ عُقود ( فاتحة لنهايات القرن – دار العودة، بيروت. ط1 1980- ص 161).
على المجهُول أن يتأسَّس في الثقافة العربية التي قامت، تاريخيا، على اليقينيات والمُسلَّمات الكبرى. على المجهول أن ينسفَ المعلوم وأن يوسِّع حدودَ المعرفة وحدود العالم. على المعرفة أن تصبحَ سفرًا في متاهة الوجود والتاريخ لا استعادة لما استقرَّ وساد وترسَّخ. أو في كلمة: على المعرفة أن تصبح بحثا لا تعرُّفا. هذه هي أبجديات الحداثة الأولى التي ناهضت وقاومت ثقافة الجواب واليقين والخدر الإيديولوجي. إنها الحداثة التي قامت على السؤال وعلى الانسلاخ من جاهزية المعنى المكرس. إنها ثقافة البدايات لا النهايات. جذرُ المشكلة يتحدَّدُ، بالتالي، في التقليد والمَاضويّة وسيادة المرجعية التي تستمدُّ دوامها من دوام البنيات السُّوسيو- سياسية البطريركية. لم يُقدَّر للمفكر العربيّ الطليعيّ أن يكونَ مثل إيمانويل كانط ويكتب " ما هي الأنوار؟ " مُحاولا فهمَ الانقلاب الحضاريّ الكبير الذي عاشتهُ أوروبا وهي تصنعُ قدر البشرية الجديد: الحداثة. لقد ظلّ هذا المُفكر العربيّ، خلافا لذلك، يتساءلُ – مُنذ قرنين - بحُرقةٍ عن غياب الأنوار ويكادُ يفقدُ إيمانهُ اليوم بإمكان انبعاثِ الفينيق العربيِّ من رمادهِ مُجدّدًا. هل استطعنا أن نجعلَ من المثقف النقدي التنويريّ واجهة ً لنا ومُتحدّثا باسم قضايانا مكانَ الشيخ التقليدي؟ هل استطعنا أن نجعلَ العقل والنقد فاعلياتٍ معرفيَّة ً تهزمُ اللامعقول والمخيال في الفضاءِ السوسيو- ثقافي؟ هل استطعنا أن نؤسّس لأخلاقيات " مدينة الإنسان " القائمة على الحرية والمُواطنة والحقوق الديمقراطية مكانَ الشبق الذي لا ينتهي إلى مدينة الماضي الذي خُلعت عليه بُردة القداسة منذ أصبحَ ملاذا للذاتِ الخائبة؟ هل استطعنا أن نتحرَّر من وصاية المرجعيَّات الدينية والدنيوية بالانقذافِ الواثق في اللحظةِ العولمية؟ ألا نشهدُ – بكل أسفٍ- انتعاشَ " الحنين إلى كل ما يسقط " كما يُعبّر أحدُ المفكرين؟ ألا نلاحظ عودة الشيخ التقليديّ المُظفرة لينتقمَ لنفسهِ – بعد طول غيابٍ – بتكفير كلّ من يتجرَّأ على سقايةِ شجرة العقل اليابسةِ في صحرائنا؟ ألا نرى كيف تتحوَّلُ مدينتنا – يومًا بعد يوم – إلى حارةٍ للطائفة الغالبة وإلى عقد مذهبيّ أصبحَ يُشكل إنجازنا السياسيَّ الوحيدَ منذ أخفقنا في بناءِ عقدٍ اجتماعيّ مدنيّ يكفلُ دخولنا العصرَ الحديث؟
لماذا لم نعُد نؤثثُ حياتنا الثقافية إلا بالدُّعاةِ والمُبشرين ونبرمجُ لتغييبِ السُّؤال وثقافة العِلم والمُراجعة النقدية؟ ألم نشبع بعدُ من حُضور طوفان الحقائق السُّوسيولوجية الذي أغرقَ معهُ كلَّ أمل في إعادة بعث الحقيقة الفكرية / الاختباريَّة العارية من ضغط إرادة الهيمنة وضغط الحاضر والماضي؟ لماذا نستميتُ في بعث الآلهة من قبورها ولا نتأسَّفُ طرفة عين على الإنسان – مسحُوقا مقمُوعًا مُدجّنا ومُكبَّلا بخطاياهُ السَّبع؟ لماذا نبدُو الأمة الطوطميَّة بامتياز: لا مكان في حياتنا إلا للطوطم الدينيِّ والثقافي الذي لا يتردَّدُ في منح بركاتهِ لذاتنا الحضارية المُنهكة – تلك المُومياء التي تعيشُ خارج نبض التاريخ الحيّ؟
5
يا جلجامش النظام الثقافيّ العربي السَّائد – أنت أيها الطامحُ إلى الخلود: لن تعثرَ – أينما ولَّيت وجهك – إلا على عُشبةِ الموت.
---------------
أحمد دلباني
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي
.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس
.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد
.. 119-Al-Aanaam
.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال