الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


د. رشيد الخيون: العلمانية ليست حزب ولا نظرية ولاأيديولوجية

مازن لطيف علي

2011 / 7 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يصعب اعتبار المؤسسة الدينية، مهما كان مذهبها، أنها واحدة، فكما نعرف أن الإسلام ضد مهنة رجل الدين أولاً، وبإمكان أي إنسان تشبع بالفكر الديني وتمكن من الفقه أن ينضم إلى هذه المؤسسة، أو ينشأ مؤسسته. فحتى هذه اللحظة، وبالعراق بالتحديد، لا توجد مؤسسة سنية واحدة ولا شيعية. أما المرجعية الدينية الشيعة فهي ليست واحدة أيضاً مثلما نرى، بمعنى أن الشيعة أنفسهم، وبالنجف لا خارجها، يقلدون مراجع مختلفين، وكذلك الحال لدى السُّنة، وهم ولو لم يتقيدوا بالتقليد إلا بالأمور العبادية، من حيث أخذ الفتوى في قضية ما، فهم ليسوا مؤسسة واحدة، والوقف السُّني هو واجهة رسمية، لتصريف شؤون الوقف، لكن هل يلتزم السُّنة المتدينون كافة بتوجيهات هذه المؤسسة لا أعتقد ذلك. وكذلك الحال بالنسبة للكنائس المسيحية فهي موزعة على مذاهب وعقائد. هذا جانب ومن جانب آخر المؤسسات الدينية، المعروفة بتاريخها وعلمها، ساهمت بصورة إيجابية في تحقيق السلم الاجتماعي، هذا ما يشهد له الداني والقاصي، فهي على ما أرى ليست ضد التبشير بالتعايش وتكريس حالته، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، لا مجال للتبسط فيها.. هكذا يرى الباحث العراقي المعروف رشيد الخيون في حوار جرىء جداً ..


الاشتباك الحاصل بين الدين كقوة سياسية تستند على النص المقدس، ومحاولة الفصل بين المقدس واليومي لمحاولة اجتراح نمط تعايش للمكونات في المجتمع العراقي والعربي، ولد صدام مخيف بين قوى التحرر والانغلاق، والسبب يعود إلى هيمنة العقل الديني، ودخله في الخصوصية اليومية للأفراد. بما تفسر تلك الهيمنة على العقل العراقي الجمعي اليوم؟
# لم يكن وجود وتدخل الدِّين ظاهرة جديدة في المجتمعات، فالآلهة كانت تدير شؤون المجتمع السومري والبابلي عن طريق الملوك، فحمورابي، مثلما هو معروف استنزل شريعته من الإله، لكنه استنزل ما يفيد مرحلته، بمعنى أنه لم يواجه حرباً عندما وضع تلك الشريعة، ومن أجل التقيد فيها والتزامها من قبل الناس أحالها إلى المقدس.
لذا يمكن القول أن وجود أجيال من الأنبياء، عددهم حسب الرواية الإسلامية، يزيد على الألف والثلاثمائة نبي ورسول لا يعني سوى التطور الاجتماعي، والحاجة إلى الجديد، الذي يتوافق مع المستجدات، وهنا قد تأتي إشكالية ختم النبوة، أي إغلاق الطريق ما بين الله والبشر برسالة واحدة، فهل معنى ذلك أن الوجود توقف عن الجريان، وهل أن الرسالة الخاتمة صالح لكل زمان ومكان! لحل هذا الإشكال أتت عدة أفكار منها: ظهور مصلح على رأس كل مائة سنة! وظاهرة الأئمة ما بعد النبي، فالإمام معصوم من الله، حتى جُعلت الإمامة صنواً للنبوة، فكلاهما من الله. وكلُّ تلك الأفكار أتت حسب ظني لحل ذلك الإشكال، ولتساير تبدل الزمن وتوالي الأجيال.
لكن، هل نجحت تلك الأفكار بالمواءمة بين الدين والمجتمع إلى حد التوقف عن ظهور تصادم بين القديم والجديد! أي هل تمكنت من وقف الزمن عن الجريان بلا عودة إلى الوراء! يمكن القول أنها نجحت لفترة زمنية ما أي قبل هذا التبدل الهائل في الاختراعات والاكتشافات العصية على المواجهة، حتى جعل العديد من رجال الدين يستنفرون من أجل المصالحة بين العلم والدين، وقالوا: إن كلَّ شيء أُخترع أو أكتشف ورد بآية من آيات الكتب السماوية، مع أن الفكرة أو المحاولة ليست كلها خاطئة وبالوقت نفسه ليست كلها صحيحة، فهناك إشارات وردت في الكتب السماوية، على وجه الخصوص كتاب القرآن، بتعميم مكثف، وهناك ما لم تشير إليه الآيات من منجزات علمية. ولو ظل الإصرار على إقحام الدين في تسيير المجتمع، بما هو خارج العبادات، ستحصل الفجوة، والسبب عدم وجود حلول من قِبل الدين، وما وجود حركات سلفية أو أُصولية إلا ردة فعل قوية، فهم يريدون إخضاع كل صغيرة وكبيرة لنص ديني، وكل جديد بدعة، لكن المفارقة أنهم يستخدمون الإنجازات العلمية في تفجير الأسواق والدوائر، وفي نشر الدعاية الأُصولية، مثلما يجري عبر الفضائيات والأنترنيت، وكل تلك الاختراعات أتت من عقول لا صلة لها بالإسلام أو بأي دين، ظهرت بفضل تحييد الدين وإعلان النظام غير الديني، فترى كل ما يحاولوه الأُصوليون هو استخدام تلك المنجزات في ظل نظام اجتماعي لا يتعدى القرن الهجري الأول، وهذا مستحيل فلابد من إنعكاس لتطور الأدوات والآلات على الناس ونظمهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، لهذا تجري الحرب ضد كل جديد.
أرى في هيمنة الدين، أو بالأحرى المنتج الديني على يد الأفراد والجماعات، حالة طارئة، كانت نتاج حقبة زمنية ضاقت فيها الحياة على العراقيين، من الحروب والحصار، وهنا يستسلم الإنسان وينقاد من قبل تلك الجماعات، التي هي نفسها مبتلية بالتصحر الفكري. لكن لا يجب أن يقودنا ذلك إلى نفي أهمية الدين كواعز ضمير فردي أو جمعي، بمعنى لابد من العلاقة مع الله عبر تلك النصوص، التي لا تعد ولا تحصى، الدافعة إلى الخير والسلامة الاجتماعية، ولا أظن أن الدين كان في دائرة الخطر عندما لم يكن يتدخل في الدولة بشكل سلبي، بل على العكس الخطورة على الدين تأتي من حصره بحزب أو منظمة، تفعل المستحيل من أجل الهيمنة، وهي تعقد أو تتصنع أنها تخدم الدين، وتحرص على تنفيذ حقوق الله، مع أن حقوق الله هي أن يكون الإنسان على حد العبارة العراقية (خوش آدمي).

نص التكفير أمام نص التفكير، فالعقلية التقديسية عقلية نصية، أي مستندة إلى النص و لا تتعداه، أو تطاول على النص المقدس أو نقده، هو تحدي لقوة قاهرة ، غير أن نص التفكير لا يضع تلك الموانع بقدر ما يضعها نص التكفير، هل هذا له علاقة بهشاشة النص التكفيري، و قوة النص التفكيري، حتى يجنح نحو العنف أو الإرهاب؟
# هناك مجانسة صارخة بين التكفير والتفكير، تقودنا تلك المجانسة في الحروف إلى القول أن التكفير هو تفكير أيضاً، فمَنْ قال أن التفكير ايجابي في كل الأحوال هنا يتحول بغمضة عين إلى تكفير، وفتوى التكفير هي فكرة قبل أن تكون نصاً قاتلاً، فاستخدام النص نفسه هو عبارة عن عملية تفكير، وبهذا لا يجوز لنا احتكار المصطلح لصالح التقدم أو الانفتاح، فكليهما مثلما قدمنا يعبران عن فعل العقل. وعندما نقول النص لا يعني النص بذاته، وإنما ما يدخل عليها من فعل بشري من تفسير وتأويل حسب الأفكار والمقاصد.
ليست العلة بالنصوص لو حصل أن فهمت في سياق زمنها، فهي وردت لحل مشكلة ما، لكن العلة عندما تؤخذ خارج ذلك السياق، فتبقى سورة التوبة مثلاً، وهي السورة الوحيدة من سور القرآن جاءت خالية من البسملة، وقيل أنها كانت واحدة مع سورة الأنفال، أو ما نقل عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: لأنها نزلت بالسيف والبسملة خلاف ذلك، كل ما فيها، أي ما يخص العنف ضد الأعداء، لم يتعد زمنه أو لحظته، فقتل الخصوم والكراهية ضدهم لا يريد لها القرآن أن تبقى أبدية، بل هي ابنة لحظتها، غير أن توظيفها للأفكار والمقاصد هو الذي جعلها توجه ضد المسلمين قبل غيرهم، ففي عُرف فقهاء التشدد البشر كافة هم مشركي قريش ماعدا فِرقتهم.
لكن ما الفرق بين الذين يريدون للإسلام أن يطابق اسمه السلام والذين يريدون اختصاره بالسورتين اللتين نزلتا لشأن خاص بأهل مكة قبل إسلامهم، سوى كان في عِقب واقعة بدر، في حالة سورة الأنفال، أو إعلان البراءة من مشركي قريش، في حالة سورة التوبة. إن الفارق هو عدم قدرة الملتزمين بالنص، مهما كان غريباً على الزمن، على التفكير بمنطق آخر غير التأهيل للعنف، وزرع الكراهية، وبذلك يضيق الإسلام ويختصر، حسب منطقهم، بأتباعهم فقط .
أخيراً الأمر لا يتعلق بالهشاشة والقوة فكلاهما تفكير بقدر ما يتعلق بنوع التفكير نفسه، وما هي قوة حجته ومدى إقناعه، ففي حقب زمنية سيطر أصحاب النص على الدولة والمجتمع، وانحسر أصحاب الرأي وأصحاب العقل، ليس بقوة السلطة أو إشهار السيف حسب بل أيضاً بقدرة التفكير، وكيفية جذب الأتباع، وهنا تأتي عوامل مساعدة كثيرة، منها العلم ومنها أخلاق القادة الفقهاء، فعلى ما اعتقد أن جماعة طالبان سحرت الأفغان، على الرغم من كل مساوئها وظلاميتها بتقشف قادتها ونزاهتهم الشخصية وبساطتهم، فهم لم يكون منافقين مرائين مثل بقية الإسلام السياسي بل كانوا صادقين مع أنفسهم. كذلك لا يعني المستوى التعليمي شيئاً تجاه الانحدار في الوعي الاجتماعي والثقافي، أما ترى هناك أطباء ومهندسين، لهم عقول نشطة ويمتلكون معارف واسعة في اختصاصاتهم والعلوم التي يدرسونها، لكنهم أمام النص الديني يفارقون ذلك التألق العلمي، ويفتون بالتكفير بل ويجذبهم اللامعقولات من الأفكار والعقائد.

يساء فهم العلمانية ، باعتباره مظهرا الحادياً، و يساء فهمها سياسيا باعتبارها تنفيذاً لأجندة خارجية، لكن لم تبرز العلمانية في العراق، كموجة وعي جمعي، وارتبطت بسياسات أيديولوجية، مما دعا المتدينون إلى جعلها فلسفة عري، لا فلسفة تعايش؟
# تحدثتُ أكثر من مرة في هذا الشأن، عبر مقالات أو مقابلات أو كتب، ولي كتيب صدر قريباً تحت عنوان "العَلمانية والخلافة"، وهو عبارة عن شواهد تؤكد أنه لا دولة دينية محققة عبر التاريخ، وأن ما في القرآن والحديث الكثير الذي ينافي وجود تلك الدولة، بل أن الله تعالى ليس بحاجة إلى حاكم يحكم باسمه. ليست العلَمانية، بفتح العين، إلحاداً، إنما هذا هو توصيف الخصوم، وأخص منهم الإخوان المسلمين، ثم أخذ عنهم بقية الإسلام السياسي، السُنَّي منه والشِّيعي، الذين بدأوا ثقافتهم عبر كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو حاكمية أبي الأعلى المودودي، كسلاح ضد مدنية الدولة، تلك التي لا يجب أن يكون لها دين، إنما الدين دين الله يتعبد به المجتمع، كل على طريقته، والدولة عبارة عن مؤسسات لإدارة شؤون المجتمع من اقتصاد وسياسة، فما شأـن الدين فيها.
ليس من حق جماعة أو حزب احتكار السعي من أجل العلمانية، والسبب لأنها ليست نظرية أو أيديولوجية، ومن المجحف أن يُحسب على العلمانية تصرف هذا الحزب أو ممارسة ذاك، على أنه كان يقوم بتطبيقات علمانية. هذا غير صحيح على الإطلاق. إنما العلمانية هي ممارسة اجتماعية، لا تحصر بحزب من الأحزاب، وهي ليست معادية للدين ولا لتعدد المذاهب، على العكس ستكون هي في خدمة الدين وتعدد المذهبية، وتنظيم الحياة عبر قوانين، لأنها تحفظ حق الإيمان وحق العقيدة على أي مذهب كان، فالعلماني الصدوق لا يمكن أن يمارس الطائفية، أو التعصب الديني، وحتى القومي، صحيح أن هناك من الشخصيات مَنْ وصفت بالعلمانية ومارست التعصب بكل أشكالها، لكنها ليست مثالاً جديراً على العلمانية.
هذا ليس من جوهر العلمانية إنما أمر خاص، مثلاً نعرف ملحدين يمارسون التعصب المذهبي! وأممين ينادون بالأممية بينما تجدهم يمارسون التعصب القومي وبشوفينية! تلك مفارقات لها صلة بالأشخاص أنفسهم. أما يأتيك أحدهم ويقول أن صدام حسين كان علمانياً! ونحن نقول ألم يكن الحجاج بن يوسف الثقفي مسلماً ومتديناً، فهل هذا يعني أن الآخرون يأخذونه مثلاً! العلمانية أوسع من هذا بكثير، إنها ضد تدين الدولة، ومع احترام الأديان والعقائد، وهي ممارسة ثقافية قبل أن تكون سياسية، وهل يشك بوجود علماء دين لا يحبذون إخضاع الدولة للدين! فهل يعني ذلك أنهم ملحدون لا سمح الله! عموماً بقدر ما تخضع الدولة للدين، حسب الإسلام السياسي على العموم لا الخصوص، فهناك من الأحزاب والمنظمات الإسلامية التي تجاوزت هذا المطلب، ففي حالة الدولة الدينية، أو المشروطة بالشريعة، يخضع فيها الدين للدولة، بقدر ما تخضع الدولة للدين، وهنا تحل الكارثة على الدين والدنيا على حدٍ سواء.

في اطروحاتك عن التراث، نجد أنك تدافع عن الوسطية في توظيف النص الديني، لأنه نص بالإمكان تحويله إلى فتوى قاتلة، أو جعله نص يبشر بالتعايش، كيف تنظر للمؤسسة الدينية اليوم، وهي تشبع الانقسام الأهلي لضمان ديمومة العرق الديني أن صح التعبير؟
# يصعب اعتبار المؤسسة الدينية، مهما كان مذهبها، أنها واحدة، فكما نعرف أن الإسلام ضد مهنة رجل الدين أولاً، وبإمكان أي إنسان تشبع بالفكر الديني وتمكن من الفقه أن ينضم إلى هذه المؤسسة، أو ينشأ مؤسسته. فحتى هذه اللحظة، وبالعراق بالتحديد، لا توجد مؤسسة سنية واحدة ولا شيعية. أما المرجعية الدينية الشيعة فهي ليست واحدة أيضاً مثلما نرى، بمعنى أن الشيعة أنفسهم، وبالنجف لا خارجها، يقلدون مراجع مختلفين، وكذلك الحال لدى السُّنة، وهم ولو لم يتقيدوا بالتقليد إلا بالأمور العبادية، من حيث أخذ الفتوى في قضية ما، فهم ليسوا مؤسسة واحدة، والوقف السُّني هو واجهة رسمية، لتصريف شؤون الوقف، لكن هل يلتزم السُّنة المتدينون كافة بتوجيهات هذه المؤسسة لا أعتقد ذلك. وكذلك الحال بالنسبة للكنائس المسيحية فهي موزعة على مذاهب وعقائد. هذا جانب ومن جانب آخر المؤسسات الدينية، المعروفة بتاريخها وعلمها، ساهمت بصورة إيجابية في تحقيق السلم الاجتماعي، هذا ما يشهد له الداني والقاصي، فهي على ما أرى ليست ضد التبشير بالتعايش وتكريس حالته، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، لا مجال للتبسط فيها.
أما مسألة دور المؤسسات الدينية في الحفاظ على العروق الدينية فلا أجد في ذلك ضرراً على المجتمع العراقي، على العكس أرى ديمومة الاختلاف المذهبي والديني والعرقي بشكل عام، في حالة سلم لا حرب، اقتراب لا تباعد، تضامن لا تدافع، يُشكل حالة رقي وإزدهار. أقول لا اعتقد أن الإنسان، بالمفهوم العام واعني المجتمع عامة، أن يستغني عن الدين في يوم من الأيام. لأن الخلاف ليس مع الله تعالى، والأديان تحمل اسم الله وتعمل على تحقيق توازن اجتماعي مع اختلاف الطرائق إلى معرفة الله، إنما الخلاف مع مَنْ يستغل اسم الله، ويستغل ريادته الدينية، وتوظيف المقدس لتدمير السلم الاجتماعي. نعم، هناك مؤسسات دينية تعمل على تقويض السلم الاجتماعي، وتجد في التعصب المذهبي ديمومة لوجودها، لكنها من دون قصد تعمل على تدمير المذهب، مثل هؤلاء ترتبط رئاستهم الدينية ووسائل عيشهم على العصبة الدينية أو المذهبية، ولا أظن لهؤلاء علاقة ما بمعرفة الله.

كيف يمكن لنا أن نحجم من هيمنة العقل الديني في تحديد مصير المجتمعات، خصوصا أـن تلك المجتمعات، وليكن المثال عراقيا في أن العقل الديني يزدهر في ظل الطقوس و الشعائر المبالغ فيها و التي أحيانا تبدو ثأرية، و فيها استفزاز واضح لمدنية المجتمع؟
# ليست مهمتنا تحجيم العقل الديني أو مواجهته، أو تَقصده بصورة من الصور، إذا ما كان دوره بحدود المعقول الإيماني، ويساهم في السلم الاجتماعي والإخاء الوطني، فمَنْ يطلب تحجيمه! ولا أرى هناك مَنْ يستفيد من الدعوة إلى تحجيم الدين والإضرار بعقائد الناس إلا المتشددون أنفسهم، فهي فرصتهم في إعلان الحرب على أي تصرف مدني وممارسة انفتاح. لقد لعب الدين دوراً في التحرر الوطني والدعوة إلى المساواة، وطلب العدالة الاجتماعية، فالفقهاء أنفسهم هم الذين تصدوا للظلم بتفضيل السلطان العادل الكافر على السلطان الجائر المسلم، وهم الذين بشروا بمبدأ: المُلك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، هذا كله تراث ديني، لا يجب التفريط به، وهو على فكرة موروث شيعي وسني على حد اطلاعي.
بل إن الصلاة والصوم وباقي العبادات لها دورها في النقاوة النفسية والروحية، فإذا كان التحجيم بهذا المعنى فأنا ضده، واعتبره شكلاً من أشكال التطرف والعبث في المجتمع، وأصفه بالتشدد المعاكس، وهذا ما يقترفه للأسف عدد من المحسوبين على العلمانية، ممن يتخذون من موقعهم ببلدان تضمن لهم ليبرالية الكلام، لكنهم لا يقدرون أحوال وأوضاع مجتمعاتنا، التي يلعب فيها الدين دوره الإيجابي، سوى كان في السلم الاجتماعي أو دحر الظلم أو النقاوة الروحية.
ما ندعو إلى محاصرته وتحجيمه هو توظيف الدين لإشاعة الشعوذة واستغلال البسطاء بما يخوي العقول باللامعقولات؛ ويشيع الجهل والخرافة ويوجه الناس ضد التقدم العلمي والنظام الاجتماعي المدني، والتعصب الطائفي، وربطهم بالفقيه عبر التقليد بالصغيرة والكبيرة، حتى يعجزون عن تربية أجيال لإدارة البلاد، فلا أرى القول الشائع "ذبه بركبة عالم واطلع منها سالم" سليماً، بل يشيع الاتكالية، ويعطل التفكير، ويجعل الإنسان مسير يؤتمر لا يفكر ويبحهد في أمور حياته، وما حصل في انتخابات 2005 كان من هذا النوع، بمعنى أن الفقيه أخذ يفكر بدلاً عن الجماعة في شأن حياتي خاص، لا في شأن عبادي ونقول هناك عذر. مثل هذا الاتكال يُعطل القُدره على مواجهة التطور العلمي بالانتفاع من إنجازاته في الصناعة والزراعة ومجالات الحياة كافة.
لذا أرى في انفلات التعليم الديني بما يجري الآن بالعراق، من انتشار الحوزات والمدارس الدينية بأكثر مما يلزم، سيقضي على التعليم المدني. ومن جانب آخر لا بد من تحول وزارة التربية والتعليم إلى إدارة مدنية يديرها أُناس بعيدون عن التحزب الديني السياسي، ينطلقون من منطلقات علمية، يبعدون المناهج التعليمية من صراعات الماضي، الصحيحة منها أو المختلقة. ألا من الظلم أن تبقى الأجيال تدفع ضريبة الاختلاف المذهبي بما جرى في القرون الغابرة. وألا تُقحم النصوص الدينية في المناهج العلمية، تلبية لمزاج المسؤولين على التربية والتعليم، وتوجههم الفكري والعقائدي، فما شأن مادة الرياضيات بأية الإرث مثلاً! هذا أمر خطير جداً. فمثل هذا الدين لابد من تحجيمه، وهو لا يضر المجتمع فقط بل سيزحف للقضاء على الدين بجوهره الإيماني ودوره الإنساني، وبالتالي سينتج أجيال معوقة، تتحول هذه الثروات الهائلة بيدها إلى مفرقعات كراهية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة