الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صفقة خاسرة!!

سعد تركي

2011 / 8 / 17
المجتمع المدني


قيل أن رجلا عرض داره للبيع بثمن أعلى بكثير مما يستحق، وحين احتج عليه من يرغب بشرائه علم إن مع الدار جارا يؤتمن على عياله إن غاب عنهم، يعوده إذا مرض، يقتسم معه الخبز إذا جاع، ويشير عليه إن احتاج مشورة، ويقف معه لو اعتدى عليه احد.. جارا يصدقه القول ويحفظ سره في غيبته وحضوره. حكاية تصف بدقة شديدة صفات يأمرنا ديننا وأعرافنا أن تتوفر فيمن كانت السماء توشك على توريثه.
لم يكن في ظني إن علاقاتنا الاجتماعية أصابها هذا العطب حتى شهدت ما أصابني بذهول شديد. صحيح أن بعضها لحقه تشويه هنا وغياب هناك، لكنني كنت أعول دوما على ما توارثناه جيلا بعد جيل، وما غرسته فينا قيم الدين والعشيرة فضلا عن أنها قيم عامة تؤكد أن الإنسان، بصفته كائنا اجتماعيا، لا يقوى على العيش إن غابت عن بيئته.
كعادة النساء في مثل هذه المواقف، ينطلق صراخ حاد يصم الآذان بمجرد تلقيهن خبر وفاة احد الأقارب، وكشأن أي بيت عراقي في محلة شعبية فقد كان البيت يضم أكثر من امرأة لا يملكن من وسائل التعبير عن الحزن ومرارة الفقد إلا بالصراخ والعويل واللطم. يفقد، من هول الصدمة، بعض الرجال رصانته وحكمته فتتحطم أبواب ويتهشم زجاج. يتحول ـ فجأة ـ بيت عُرف بهدوئه وسكونه إلى ما يشبه غرف التعذيب التي يدمي القلب ما تسمعه خلف أبوابها الموصدة من أصوات العويل والنواح وصراخ الألم وتهشم الأجساد والأرواح.. تنهد الأجساد بعدها من التعب، وتستسلم لحقيقة ألاّ قدرة لأي مخلوق ـ مهما فعل ـ على رد الأجل.
ما حصل لم يكن خارقا للعادة ولا غريبا أو غير مألوف باستثناء تفصيل صغير.. صغير جداً، لكي تكتمل صورة أحزاننا وفواجعنا.. لم يكن بين المفجوعين أي جار مواس أو يستعلم عما تسبب بهذا الصراخ والعويل، أو (حبايب) يقاسمن جارتهن الهم والحزن والدمع، أو أطفال يدفعهم الفضول.. لم يكن هناك حتى (مستطرق) يتشمم أخبار محلة لم تكن تفوته شاردة أو واردة مما يحصل فيها.. ما كان أكبر وأشدّ وقعاً من فقد احد الأحباب شعورك وإحساسك انك تجاور قبرا أصم منشغلا عما حوله بشأن يغنيه!!
يبدو أن الخراب لم تنهش مخالبه الحادة مدننا وقرانا فقط، إنما أعطب، بشكل قد لا يمكن إصلاحه، قيمنا وعاداتنا الجميلة.. أصاب منظومة اجتماعية نفخر بصلابتها ومتانتها وصمودها وأحالها إلى كومة ركام كبناء جميل ما عاد يلمح منه حتى الأثر.. يبدو أن الموت الذي يختطف أبناءنا وأحبابنا كل يوم أصابنا بالتبلد أمام قسوته ووحشيته.. يبدو إن الدار التي ابتاعها من كان واثقا أنه كسب معها إخوة وأشقاء لم تلدهم أمه، كانت ـ مع الأسف ـ صفقة خاسرة!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة يمزق ميثاق الأمم المتحدة قبل


.. الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا يوصي مجلس الأمن بإع




.. ماذا بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لدعم العضوية الك


.. -بآلة لتقطيع الورق-.. سفير إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة




.. ماذا يعني تصويت الأمم المتحدة على الاعتراف بفلسطين كدولة؟