الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفول العقل

هشام غصيب

2011 / 8 / 31
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


أزعم أن الغرب المعاصر يمر اليوم بحالة ثقافية تكاد أن تكون مماثلة للحالة الثقافية التي دشنها في الشرق الإسلامي أبو حامد الغزالي ودشن معها أفول العقل النظري، أو حتى تصفيته، في الإسلام. فالذي نشهده اليوم لا أكثر ولا أقل من محاولة النخبة الثقافية الغربية التنكر لتراثها الحديث وجذوره الإغريقية ونسفه من أسسه، ومن ثم تصفية العقل النظري الحديث الممثل بعقيدة التنوير، على غرار ما فعله أبو حامد الغزالي وتلامذته في الإسلام. ولئن سخر أبو حامد عبقريته الفذة وتملكه المتميز لأدوات الفكر العقلاني الإغريقي والعربي لهذه الغاية، فإن النخبة الثقافية الغربية المسيطرة تكفر هذه الأيام ليلا ونهاراً بتراث التنوير وارهاصاته الإغريقية، وتعبر عن حنينها المستحيل إلى ما قبل الحداثة، كائنا ما كان ذلك يعني، وتسخر أدوات تراث التنوير من أجل تفكيكه وتكسيره في الذات المعاصرة، تاركة مكانه فراغ العدمية الدامس. ولئن اعتبر أبو حامد الغزالي المدشن الأكبر لعملية التصفية تلك في تراث الإسلام، فإن الألمانيين، فريدريش نيتشه ومارتن هيدغر، يعدّان اليوم المدشنين الأعظمين لعملية تصفية عقل التنوير في تراث الغرب الحديث. فهناك شبه إجماع لدى أفراد النخبة الثقافية الغربية المعاصرة على محورية هذين المفكرين الألمانيين في عملية تصفية القائم وإيجاد البديل، حتى في العالم الأنجلو أميركي، صاحب التراث التحليلي التجريبي العملي المناقض للتراث الأوروبي الذي أفرز نيتشه وهيدغر.

لكأن الطبقات التاريخية الكبرى التي تقوم على أكتافها الحضارات التاريخية الكبرى، لكأنها، بعد استنفاد دورها التاريخي، تشعر بالغثيان والقرف إزاء ذاتها ومرحلة شبابها وعنفوانها، فتعلن العصيان عليها وتسعى إلى تصفيتها واختزالها إلى حدود ما تتحمله شيخوختها الواهنة، حتى ولو أدى ذلك إلى جمود تطورها. والغريب أنها تعمد إلى فعل ذلك بعد زوال المبرر التاريخي لذلك، أي بعد زوال خطر الطبقات النقيض وتصفيته؛ لكأنها تعزو صعود الطبقات النقيض وقوتها إلى العقل في تراثها، فتشعر، في مرحلة هبوطها التاريخي، باغترابها عن العقل الذي بنته في مرحلة صعودها، وغربته عنها، وكأنها بنته لغيرها، لنقيضها، فتسعى إلى تصفيته، بعد أن تفلح في القضاء على الحركات الثورية المناهضة لحكمها، حتى لا يبقى يشكل تربة صالحة لمزيد من الحركات الثورية. إنها غريزة حب البقاء؛ تسعى هذه الطبقات إلى تأبيد ذاتها المتعبة عبر الجمود، جمود ذاتها والمجتمع الذي تربض على قلبه. هذا ما حصل في الإسلام منذ الغزالي، وهذا ما يحصل اليوم في الغرب الحديث. ولعل في هذا التشابه الغريب يكمن سرّ هذا التعاطف المثير للدهشة بين اليمين الغربي والأصولية السلفية الدينية في ديار الإسلام؛ تعاطف ثقافي يتبعه تعاطف سياسي. ألم يعبر أمراء السي آي إي CIA عن إعجابهم الشديد بحكمتيار، ثم بالطالبان؟! وألا تستمد الرجعية السلفية في ديار الإسلام كثيراً من أدواتها الفكرية من تراث اللاعقل المتنامي في الغرب الرأسمالي؟!

والغريب في الأمر تلك الثقة الطافحة في النفس والتي يبديها التصفويون في الحضارتين، سواء كنا نتكلم عن العمالقة (الغزالي، نيتشه، هيدغر) أو المشتغلين النمطيين في الفلسفة والإنسانيات. ونراهم بصورة عامة يصبون جام نقدهم واستنكارهم على فكرة المطلقات العقلية ويسقطونها واحدة واحدة، لكنهم يعمدون دوما في هذا السياق، ومن دون حرج، إلى توكيد فيض من المطلقات والافتراضات غير المبررة تماماً، بل واللاعقلانية في كثير من الأحيان. إنهم يعيبون على رموز عقيدة التنوير الانطلاق من جملة من المقدمات المبررة والمختبرة، في الوقت الذي يعمدون هم فيه إلى تأكيد جملة من الافتراضات المريبة حقا وكأنها بديهيات وتحصيل حاصل. بل إن بعضهم يلجأ إلى السخرية من عملية التأسيس العقلي للممارسة الاجتماعية في حد ذاتها، وإلى اعتبارها نقيصة ما بعدها نقيصة. وعلى سبيل المثال، فإن المشروع الفلسفي للفيلسوف الأميركي المعاصر، رتشارد رورتي Rorty ، وهو من أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة، يتمثل في تأكيد لليبرالية المجتمعات الغربية المعاصرة مصحوبا برفض واستبعاد للأسس الفلسفية العقلانية التقليدية التي قامت عليها الليبرالية وارتكزت إليها. وبتعبير آخر، فإنه يسعى إلى تأكيد هذه الليبرالية بوصفها مزاجاً أو خياراً للشعوب الغربية أعلى من أن يحتاج إلى تأسيس عقلي.

ويتفق جل أعضاء النخبة الثقافية الغربية المسيطرة على اليقين المطلق لمقولة أن الشيوعية والماركسية انتهت بتفكيك الاتحاد السوفييتي، من دون دراسة معمقة للعلاقة بين التراث الماركسي ومصير الدولة السوفييتية التراجيدي. فهم يعمدون إلى اعتبارها مقدمة بديهية غير قابلة للنقاش، تماماً كالمقدمات الدينية المطلقة التي ارتكز إليها الغزالي في تصفية الفلسفة الإسلامية. وقد سبق أن بينت في العديد من الكتابات في السنوات العشر الأخيرة تهافت هذه المقولة غير العلمية.

لكن أولئك المنظرين البرجوازيين لا يكتفون برفض الماركسية، وإنما أخذوا مؤخراً يؤكدون إفلاس الليبرالية نفسها وإخفاقها وفشلها. بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك باعتبار مشروع التنوير الذي بناه الغرب الحديث مشروعاً مفلساً وآيلا للسقوط المتسارع. وماذا يعني ذلك في الحقيقة؟ إنه يعني إخفاق العقل العلمي وتهافته. وفي مجابهة العقلانية العلمية، التي بني على أساسها مجد العالم الحديث وحرية الإنسان الحديث، نراهم يضعون نيتشه وهيدغر، بلاعقلانيتهما وارتباطهما الفكري بالنازية والفاشية. وهم يسعون، مسترشدين بنتيشه وهيدغر، إلى اجتثاث تراث التنوير من جذوره الإغريقية، ويبدون استعدادهم لنفض أيديهم من العقلانية الإغريقية والإنسانوية المسيحية في سبيل التخلص من تراث التنوير. إنه نوع من الحنين إلى الفاشية، يحاول أن يخفي طبيعته الفعلية بنفي تهمة الفاشية عن معبوديهم، نيتشه وهيدغر. بل يبلغ فيهم الأمر إلى وضع مسؤولية جرائم النازية والفاشية على تراث التنوير ذاته، أي يحملون تراث التنوير وزر نقيضه الفاشي الرافض لعقل التنوير!!

ولا عجب في هذا الحنين إلى الفاشية تحت مسميات أخرى! فالفاشية، لا الديموقراطية الليبرالية، هي الحالة الطبيعية لحكم البرجوازية في مرحلة تأزمها وانتهاء دورها التاريخي، أي شيخوختها. فلئن اضطرها التحدي الشيوعي في القرن العشرين إلى تبني الديموقراطية البرجوازية وإلى تقديم التنازلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى الطبقة العاملة (دولة الرفاه الاجتماعي إبان حقبة الحرب الباردة)، فإن انحسار هذا التحدي، والذي نرجو أن يكون مؤقتا، أزال مبرر الليبرالية والدعوة إليها، ومن ثم فتح المجال واسعاً أمام الفكر البرجوازي الغربي للظهور على حقيقته (الفاشية الدموية الإبادية). إن صواريخ بوش وبلير المدمرة التي انهالت على شعب العراق ومؤسساته هي التعبير الأدق عن مكنونات وعي البرجوازية الغربية.

لذلك كله نرى مفكري البرجوازية الغربية اليوم معنيين في المقام الأول بإعادة قراءة مسيرة الحداثة في الأعوام الأربعمائة الأخيرة من أجل تحديد جوهر عقيدة التنوير. ثم نراهم يركزون على النقد الحارق الذي وجهه نيتشه وهيدغر إلى أسس هذه العقيدة وافتراضاتها الرئيسية، وذلك كله في سياق رفض العقل العلمي وتفكيك الخطاب العقلاني الإنسانوي. نراهم يجمعون تقريبا على أن أهم ركنين في عقيدة التنوير هما: (1) إعادة بناء الأخلاقية Morality على أساس طبيعة العقل البشري المستقل، (2) إضفاء سلطة خاصة على العلم تضعه فوق الأشكال الأخرى للمعرفة والخبرة. ومعنى ذلك أن عقيدة التنوير تضع العقل العلمي في مركز الصدارة في حياة البشر. ويرى مفكرو البرجوازية الغربية اليوم أن عقيدة التنوير بالمعنى المذكور أعلاه قد أفلست وفقدت مصداقيتها (لماذا؟ لا ندري تماماً). ومع ذلك، فهي، في شكلها الليبرالي على الأقل، ما زالت مهيمنة في الغرب. وهم يعزون ذلك إلى غياب البديل، مع أنهم يلمحون إلى أن بذور البديل المطلوب كامنة في نيتشه وهيدغر. وأعتقد أن البديل الذي يدور في خلدهم هو شكل جديد من الفاشية.

وبعد ذلك كله، ماذا يقترحون بصدد المجتمعات غير الغربية؟ إنهم، في هذا الصدد، يطرحون مقولتين في غاية الخطورة. وهما: (1) إن التحديث ممكن من دون التغريب. وهم يعنون بذلك أن تحديث المجتمعات غير الغربية ممكن أن يتم من دون تحديث الوعي الاجتماعي، أي من دون هضم عقيدة التنوير والعقلانية العلمية؛ (2) ينبغي على المجتمعات غير الغربية التمسك ببناها الثقافية القديمة التي لما يفلح الغرب في تفكيكها، وإقامة مستقبلها المنظور على هذا الأساس، وكأن هذه المظاهر الجامدة جوهرة ثمينة نادرة ينبغي الحفاظ عليها بأي ثمن. ويرى مفكرو البرجوازية الغربية أن بقاء هذه البنى ما قبل الحداثوية يجعل من السلفية في تلك المجتمعات مشروعاً واقعيا ومعقولاً. فلئن كان المشروع السلفي مستحيلاً في الغرب، لكون مشروع التنوير أفلح في الغرب تماماً في تحطيم البنى ما قبل الحداثوية، ولكون هذه الأخيرة “ملوثة” أصلاً ببذور مشروع التنوير، فإنه مشروع ممكن وواقعي في المجتمعات غير الغربية، لكون مشروع التنوير لما يصل اختراقه إياها حد اللارجعة، ولكون تراثها القديم خاليا أصلاً من عقلانية التنوير. هكذا يبرر العقل الإمبريالي الرأسمالي العنصري في الغرب سلفية الشرق وتخلفه.

هذه بالطبع مجرد رؤوس أقلام لما يجري على الساحة الثقافية الغربية من تطورات مرعبة. وسنبذل جهدنا لتفصيلها ومناقشتها في مقالات قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أفول الحضارة الغربية
وليد مهدي ( 2011 / 9 / 1 - 17:01 )
موضوع متميز ورائع استاذ هشام

ويحتاج لوقت طويل للمناقشة , بكل الاحوال , ما هي إلا سنين حتى يجر - العقل الغربي - بافوله في الافق حضارة الغرب الكبرى ذات الاربعمئة عام وراء ذلك الشفق , حيث يغني التأريخ كان يا ما كان ...........


ما هو شكل العالم ما بعد العقل وما بعد الحضارة المعاصرة يا ترى ...؟؟

تحياتي


2 - وداعا للمركزية الاوروبية
باسل ( 2011 / 9 / 2 - 05:57 )
أتفق مع ماجاء بالمقال من أفول قيمة العقل في الغرب ، إلا انني أجد أن التركيز على السلفية لن يعطي نتيجة.

الدين هو حل وهمي لواقع يستدعي الحلول الوهمية لانه واقع مغترب و تجاوز ذلك يتم بالعقل و لكن ايضا لا ننسى أن الشكل المألوف في بلداننا للتغيير الاجتماعي هو من خلال البوتقة الدينية ، انا مع هادي العلوي في محاولته تثوير هذه البوتقة بدلا من تسفيهها ، لاننا بذلك نسفه حاملها وهو الطبقات المستضعفة ، لذلك آن لنا الانعتاق من النخبوية العقلية والاوروبية معا،
فالعقل سيعود بالتدريج بالولادة من رأس زيوس كما فعلت اثينا....

اخر الافلام

.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi


.. لماذا طالب حزب العمال البريطاني الحكومة بوقف بيع الأسلحة لإس




.. ما خيارات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة عمليات الفصائل الف


.. رقعة | كالينينغراد.. تخضع للسيادة الروسية لكنها لا ترتبط جغر




.. Algerian Liberation - To Your Left: Palestine | تحرر الجزائر