الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو كنتَ تبيع الجنون!

شريف مليكة

2011 / 9 / 20
المجتمع المدني



في خلال حوار الفيلم الأمريكي الشهير "ليس في الإمكان أفضل مما كان" أو (As Good As It Gets ) ، يقول "جاك نيكلسون" المريض بالوسواس القهري لأحد جيرانه الذي طرق بابه: "من علمك أن تتكلم هكذا؟ لو كنت تبيع الجنون، فلتذهب لمكان آخر، فنحن مستوفون الكمية منه!" .. ذكرتني هذه المقولة الساخرة في حوار ذلك الفيلم الرائع، بما يحدث الآن في "مصر" من بعد قيام الثورة. لا يكاد يمر يوما، إلا ونرى عابر سبيل يمر علينا مرور الكرام، يطرق الباب ليبيعنا فكرة مجنونة. أو ربما حتى يكون لاعب رئيسي من داخل الحدود ــ سيان كان هذا أو ذاك، المهم هو أن يفاجئنا أحدهما بتصرف أو بتعليق غريب عجيب ينشر على صفحات الجرائد المصرية، أو تتداوله برامج الأخبار على الفضائيات العربية المختلفة، فيقلب عقولنا، ويصيبنا بالدهشة، أو على الأقل يساهم في اللامعقول الذي نعايشه هذه الأيام.
وبالرغم من التعبيرات الدارجة التي تمتلئ بها لغتنا المصرية الجميلة، مثل "ما هي أصلها مش ناقصة" أو "ما تروحش تبيع الميه في حارة السقايين" أو حتى "فينا اللي مِكَفِّينا"، إلا إن هذه المواقف لا تكف عن الحدوث بصفة منتظمة، وكأنها من إحدى مهمات موظف مسؤول عن جنوننا، يضطلع بمثل هذه الوظيفة ويؤديها على أكمل وجه. وإلا فما معنى حدوثها بمثل هذا الإصرار وبمثل تلك المواظبة؟ في الواقع أجدني قد فكرت كثيرا جدا في هذه المعضلة، ومع ذلك فلم أعثر أبدا على حل منطقي يهديني لتفسير هذه الظاهرة. ومع ذلك فتعال نبحث الأمر سويا ــ عزيزي القارئ ــ لعلنا نجد تصورا مقبولا له. ولنبدأ بتسجيل مشاهداتنا حتى يتسنى لنا مناقشتها.
قامت الثورة بصورة عفوية يوم 25 يناير عندما أعلنت مجموعات من الشباب التظاهر في الميادين العامة في كبريات المدن المصرية، إحتجاجا على القمع الأمني الذي أدي إلى اغتيال الشاب السكندري "خالد سعيد" في يوم "عيد الشرطة"، نكاية في جهاز الشرطة كله، تمام؟ فوجئ هؤلاء الشباب بأن الكيل كان قد طفح بأطياف الشعب المصري كله، ونزلت الآلاف إلى الشوارع تشاركهم احتجاجاتهم، وإن ارتفع سقف الاحتجاج إلى مستوى أسمى فصار يستهدف قيما انسانية مثل العدالة والكرامة والعيش الكريم والمساواة. إلى هنا فالموضوع منطقي، ومقبول، بل ورائع! تحولت إحتجاجات وتظاهرات الشباب إلى ثورة شعب صبر طويلا حتى انفتحت أمامه كوة صغيرة أطل منها نحو بصيص من النور فاندفع تجاهها بكل قوته، ناشدا أن يصل إلى شمس النهار التي طالما غابت عن كهفه.
ولكن فجأة انكسرت بوابات السجون، وهرب المساجين، وفجأة اقتُحِمت مراكز الشرطة وسُرِقت الأسلحة والعتاد، وغاب رجال الشرطة فجأة من الشارع المصري، وظهرت بوادر الانفلات الأمني لولا وقوف المجتمع المدني أمام ذلك الطوفان المتنامي لانقاذ ما يمكن إنقاذه. تمام؟ لا مش تمام. مرت ثمانية أشهر الآن على هذه الأحداث والتحقيق مستمر ليلا ونهارا، ومسخَّرة له كل الامكانيات من مال ورجال واهتمام إعلامي، ولم تظهر ولا علامة بسيطة تنم عن اقترابنا ولو قليلا لمعرفة ــ ومحاسبة ــ المسؤول(ين) عن مثل تلك الأحداث الأهم في تاريخ مصر الحديث، والتي كادت أن تقوض أهم ثورة شعبية في تاريخ "مصر"، والتي راح ضحيتها المئات من الشهداء الذين سقطوا في الشوارع والميادين بالرصاص الحي وتحت عجلات العربات، بالإضافة لآلاف المشوهين والمصابين الذين ملأوا أنحاء البلاد بطولها وعرضها. أتذكرون حادث مقتل "سوزان تميم"، والسرعة التي تم خلالها فك طلاسم الجريمة الغامضة، التي حدثت خارج الحدود المصرية، ولم يتم تصويرها بالكاميرات الحية، ولا قام بالتحقيق فيها النائب العام شخصيا، بالإضافة لكبار رجالات النيابة في مصر؟ بالذمة هذا كلام؟؟
ثم بدأت عجلة الفتنة الطائفية تتدحرج لتدوس توحد الشعب المصري لأول مرة منذ عشرات السنين في الميادين والشوارع، يحمي المسلم المسيحي والعكس بالعكس، وتباهى الجميع من أنه لم تحدث حالة واحدة من الاعتداء على دور العبادة بالرغم من الغياب الأمني. فماذا حدث؟ توالت أنباء عن خروج قياديي الاسلاميين القدامى من السجون، وعودة البعض الآخر من الجهاد بأفغانستان، وآخرين من الخليج، وكله جهاد على أي حال. ثم بدأت سلسلة حرق الكنائس، وقتل الأقباط، وقطع آذانهم، لمخالفتهم الشرع، أو لثورتهم على الظلم الواقع عليهم، أو بدون سبب على الإطلاق، فيشاع أنه كان بدافع السرقة، أو الكبت النفسي، أو بسبب إشاعات مغرضة، أو حتى بدافع من الملل! ثم ــ والأدهى ــ إنهم يأتون بالمشايخ وأهل الذكر لحل المشكلة، وكأنهم يفكون سحر، أو يبطلون عمل من الأعمال السفلية والعياذ بالله، وليس جرائم جنائية؛ قتل، ونهب، وهدم، وحرق، وتدمير، يعاقب القانون المصري مرتكبي بعضها بالإعدام، أو بالسجن المؤبد. بالذمة وبصراحة هل هذا كلام؟؟
والأطرف هو موقف رأيته بعيني عندما فاز أحد مزيعي التليفزيون المصري بمكالمة تليفونية مع الشيخ "عبود الزمر" المفرج عنه من السجن لتوه، فتهلل وجه المزيع لنواله ذلك الشرف العظيم الذي منحه له "الشيخ عبود"، كما كان يطلق على المسجون المتهم باغتيال "السادات" رئيس مصر، والقائد الأعلى للقوات المسلحة وقتها، في يوم احتفاله بعيد نصر اكتوبر. واستكمالا لفرحته بتلك المكالمة التي حظى بها كممثلا للتليفزيون المصري الرسمي، تجرأ السيد المذيع وطلب من الشيخ عبود أن يتكرم ويسمح له بإجراء حديثا تلفزيوني معه في بيته في اليوم التالي ــ لأنه لا يريد أن يتعبه بالحضور لماسبيرو ــ ولكن الشيخ اعتذر له على الهواء، بأنه مشغول في الغد بمقابلة مع أعضاء المجلس العسكري الذين أمروا بالإفراج عنه، ثم مع رئيس الوزراء، وبعض الوزراء! لم أكن لأصدق هذا الحديث لولا أني رأيته بنفسي، وأنا متأكد من أن العديد منكم قد شاهدوا هذه الحلقة مثلي تماما. أهناك جنون أكثر من أن يستقبل قادة الجيش والمجلس العسكري الذي يحكم مصر المسجون المتهم ــ والمعترف ــ باغتيال القائد الأعلى للقوات المسلحة يوم الإفراج عنه؟
بلاش! ومارأيك إذن عزيزي القارئ في موضوع التعديلات الدستورية من عشر مواد التي أعقبها إعلان دستوري من أكثر من ستين مادة، ومع ذلك فيجب علينا الالتزام بها وإلا كنا لا نحترم العشر مواد التي صوت لصالحها الشعب، فالذي يمس الكل بالضرورة يمس الجزء أيضا! طيب وما حكم المادة الدستورية التي تمنع قيام الأحزاب على أسس دينية، ثم تصدر الأحزاب التي تمثل الإخوان المسلمين، والسلفيين، والصوفيين. أتلك جماعات مدنية أم دينية؟ ثم ماذا عن تلك المرجعية الدينية التي اخترعوها للتفريق ما بين الأساس الديني والمرجعية الدينية؟ في الغرب يقولون ستة من هذا أو نصف دستة من الآخر!
وهل سمعت حضرتك عن محامي الرئيس المخلوع الذي إدَّعى في الجلسة الأولى لمحاكمته من أن "مبارك" قد مات بالفعل عام 2004 وأن الشخص الماثل أمام المحكمة لم يكن سوى شبيهه الذي لا تجوز محاكمته لأنه ليس بمبارك! أتشك في أننا لم نستكفِ بمخزوننا من الجنون؟
فما قولك إذن في حادث السفارة في العمارة الذي نشاهد مقاطعه تتوالى أمام أعيننا، بالرغم من استيائي الكلي من موقف "إسرائيل" من مقتل المصريين الست برصاص الجيش الإسرائيلي؟ المشهد الأول؛ تظاهرات أمام السفارة للمطالبة بطرد السفير، فتقوم الحكومة ببناء سور حول المبنى! أعتقد أن الحل الأقل جنونا كان في تفجير المبنى من أصله ــ مثلا ــ حتى عندما لا يجد المتظاهرون المبنى، يضطرون للذهاب إلى بيوتهم! المشهد الثاني؛ التظاهرات تتوالى بالرغم من السور الإسمنتي العالي، بل ويتسلق أحدهم السور والمبنى ويصل للطابق الرابع فينزع علم "إسرائيل" من فوق السفارة وسط تهليل المتظاهرين في الشارع ــ يقول بعض العلماء أن الرجل العنكبوت في الحقيقة أصله مصري. المشهد الثالث؛ بالرغم من مخالفة هذا العمل للمواثيق الدولية، إلا إن بطل موقعة نزع العلم هذه قد استقبله رئيس الوزراء في مكتبه ليهنئه على عمله البطولي، ثم قابله محافظ الشرقية ومنحه وسام وشقة ــ منصب رئيس الوزراء في بر مصر ــ كما تعلمون ــ شكلي فقط، ولا عواقب مطلقا لأخطائه السياسية. المشهد الرابع؛ أثنين من الشباب الثائر يتهمونه بالكذب ويدعي كل منهما بأحقيته في الوسام والشقة ــ ويطالبان بلقاء السيد رئيس الوزراء والظهور في التليفزيون. المشهد الخامس؛ يتم اجتياح السفارة واحتجاز العاملين بها، حتى يتم إنقاذهم من قبل القوات الخاصة ويرحلوا إلى إسرائيل، ويلقي المقتحمون بمستندات من الشرفة، ويطالبون بشقق وأوسمة، صارخين: إشمعنى همَّ! ألم تشاهدوا أعزائي القراء استعراض العقلاء لإسماعيل ياسين في الفيلم القديم الذي يلاقي فيه "نابليون" فيغني له "يا بو العيون السود يا نابليون يا زين، إنت الحظ وفيري جود، هانلاقي زيك فين؟ إنت حضرة نابليون؟ وِّي مسيو، وانا كمان نابليون، أنشانتيه! عندي سر خطير! فيك من يكتم سر؟ وِّي مسيو في بير! شفت القطة ويا الأرنب راكبين تاكسي وبيقول هوّ هوّ! هيَّ تقول له حطه با بطه وهو يقول لها بسبس نوّ نوّ! وعدي يا وعدي على الأسرار! أسفاه على عقلي الذي طار!"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ام تكن عفوية
محمد البدري ( 2011 / 9 / 20 - 08:03 )
قامت الثورة بسبب تراكمات بطيئة من قهر وافقار وانعدام للكرامة والتي تشجع النظام بسبب ضعف رد فعل المجتمع وقلة حيلة المثقفين من فضلات عبد الناصر الي ارتكاب الجرائم عيني عينك حيث انتهت في مجال السايسة الي استبعاد تام للشعب في انتخاب البرلمان الي حد ان قال المخلوع علي قوي المعرضة رغم ضعفها (خليهم يتسلوا) ثم بدأ في الترويع جهارا بنسف الكنائس وقتل المواطنين استعدادا للتوريث في بيئة مرعوبة مرتعده. لهذا فان الشباب الذي قام بالثورة كان معظمه من خارج الاحزاب الكرتونية وانضم اليهم شباب الاحزاب ضاربين بتعليمات احزابهم عرض الحائط (حزب التجمع والوفد والاخوان والسلفين كانوا من الرافضين) . تحية لك يا دكتور مليكة وامنياتي بان يلتحم المصريون جميعا دفاعا عن مصريتهم لان الاعداء هم من قيل انهم أخوة طبلا وزمرا علي مدي 60 عاما. تحياتي وتقديري مرة أخري.

اخر الافلام

.. كم بلغ عدد الموقوفين في شبكة الإتجار بالبشر وهل من امتداداتٍ


.. لحظة اعتقال طالبة رفعت علم فلسطين بيوم تخرجها في أمريكا




.. مجلس الشيوخ الأميركي يرفض مقترح بايدن باستقبال اللاجئين الفل


.. موريتانيا الأولى عربيا وإفريقيا في حرية الصحافة | الأخبار




.. الأمم المتحدة تحذر من وقوع -مذبحة- جراء أي توغل إسرائيلي برف