الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية تحرر الدولة والدين من طغيان التحالف السلطوي -الفقهي التاريخي

نقولا الزهر

2004 / 12 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في العالمين القديم والوسيط، كان دائماً لدى السلطات الحاكمة ميل لاحتواء الدين السائد ليكون غطاء إيديولوجيا لها. في كل عمليةِ نفيٍ تتناول الدين(إصلاحه) كان ينشأ تناقض بين السلطة وبين هذا النفي/الإصلاح. هكذا سارت الأمور مع إخناتون والنبي صالح ويوحنا المعمدان والمسيح ومحمد ولوثر.
-I-
سلطنت المسيحية في مؤتمر نيقية (325 م ) في عهد الأمبراطور قسطنطين، واضطهد آريوس ونسطوريوس وكثيرون بتهمة الهرطقة وكذلك الحال في الدولة الأموية سُلْطِنَ الدين وديِّنت السلطة وصُنِّمَ الفكر الديني السائد، واضطهد كل الذين ناضلوا من أجل تحريره كي لا يكون غطاءً للسلطة(غيلان الدمشقي وعمر المقصوص ومعبد الجهني وغيرهم... )وقتلوا بتهمة الزندقة. واستمر موقف السلطة العباسية على هذا النحو حتى عهد المأمون وسيادة الفكر المعتزلي . ومع ذلك حين لم تفصل السلطة بينها وبين الفكر المعتزلي الأقرب إلى العقلانية في ذلك الوقت، وحين راحت تقمع كلَ فكرٍ آخر، وتضطهد كل مفكر غير معتزلي، تحول علم الكلام إلى دينٍ سلطوي جديد. وربما لو حدث فصل بين الفكر المعتزلي والسلطة، ولو سمح بالجدل أن يأخذ مجراه لكان اتجاه تطور الدولة العربية الإسلامية في منحى آخر. إن انتصار الحنبلية والأشعرية يعود في جزءٍ كبير منه لعدم إقامة شيء من الفصل بين السلطة وفكر المعتزلة. وهكذا استمر طغيان الدولة على الفكر الديني حتى نهاية السلطنة العثمانية. يمكننا القول أن الفكر الديني قد عاش لحقبة طويلة من الزمن في حالة عدم نفي وغربة عن الواقع ببعديه المكاني والزماني. فالسلطة في الدولة العربية الإسلامية هي التي حالت دون أي إصلاح ديني. وهي التي سدت كل النوافذ على أي جديد متقدم.
إن العلمنة في الغرب لم تقم فقط بتحرير الدولة والسياسة والمدرسة من سلطة رجال الدين، بل في المقابل حررت الدين والفكر الديني أيضاً من طغيان التحالف الكهنوتي السلطوي. فالعلاقة قبل العلمنة بين رجال الدين والسلطة كانت علاقة تساند متبادل، كل طرفٍ كان ظهيراً للآخر.
ولقد شرع الدين في أوربا في إعادة تشكيله منذ بدايات المرحلة الرأسمالية ، ولقد اعتبر (انجلز) الإصلاح اللوثري مارسيلييز القرن الخامس عشر؛ فاللوثرية أزالت آنذاك الكثير من الطقوس والتقاليد الكنسية وخففت إلى حدٍ كبير من وطأة الجدران السميكة بين الإنسان الفرد والله.
وكذلك الكاثوليكية راحت في النصف الثاني من القرن الماضي(يوحنا الثالث والعشرون) تتماشى مع العصر. فالإيديولوجية الدينية في الغرب تقترب الآن بخطوات ملموسة باتجاه الفكر وباتجاه الواقع. والله الآن في نظر الكثيرين من لاهوتيي الغرب هو مستقبلي، ومهمة المؤمنين بالنسبة لهم رحلة في المستقبل وليست في الماضي. فيقول (جوليو جيراردي) الأستاذ في الجامعة السالزيانية البابوية في روما في معرض تعليقه على الفكر الماركسي بعد انهيار الدول الاشتراكية الواقعية: لقد شعرنا نحن المسيحيين واللاهوتيين نتيجة تجاربنا إبان الحرب الباردة ومن التناقضات العميقة التي قطعت العلاقات بين المسيحية والماركسية، أننا بحاجة إلى تأكيد قيمة مساهمة الماركسية في رؤية المسيحية للعالم وللتاريخ ". ثم ينتقل هذا اللاهوتي المفكر المتحرر من طغيان السلطة والإيديولوجيا الدينية لينقد الماركسيين الأصوليين فيقول: إذا كان صحيحاً أن الماركسية الإنسانية، بعد تحديثها بعمق، ينبغي أن تشكل أحد مكونات الثقافة البديلة، فمن الصحيح أيضاً أن يجري نقد نزيه وقاسٍ في الوقت ذاته لبعض الاتجاهات المسيطرة في اليسار ". ويعلق جوليو جيراردي حول الموقف من العولمة والليبرالية الجديدة فيقول: الديانات متورطة في الأزمة الحالية، ولا تستطيع أن تضع نفسها جانباً فهي: إما إلى جانب المستغَلين أو إلى جانب المستغِلين ؟ ".
إن قدرة الإنسان على التقدم، تكمن تمييزه بين القديم المهترئ ، والقديم الراهن الذي لم يفقد علاقته بالواقع، والصالح لأن يكون من عداد الأدوات المعرفية الحاضرة. وفي تاريخ الجدل والنفي هنالك مثال ذو أهمية، هو ما قام به الخليفة (عمر بن الخطاب) حينما أبطل تطبيق مفعول بعض النصوص التي فقدت علاقتها بالواقع، دون أن يحذفها كنص موجود في الكتاب.



-II –
وهنالك سؤال مشروع يُطرَحُ دائماً حول عدم حدوث التراكم الرأسمالي في الدولة الإسلامية العربية في الشرق، الذي كان يمكن أن يلعب دور حامل اجتماعي، ليساعد على قيام فكر الفصل بمختلف أشكاله في المجتمع، وهو الفكر الذي يمثل حجر الزاوية في فلسفة الديموقراطية؟...
لقد تبين أن نمط الإنتاج الخراجي الذي كان سائداً(المختلف نوعياً عن شكل النظام الإقطاعي الذي ساد في أوربا)، شكَّل عائقاً كبيراً أمام حدوث أي تراكم لدى طبقة التجار والحرفيين والمزارعين في هذه المنطقة، حين جعل ملكية الأرضِ للسلطان، وحين نظر السلطان للخراج مجرد عائدٍ وربحٍ شخصي، فقد كان همه جمع أكبر كمية ممكنة من الضرائب من الرعايا. فنهب الداخل ونهب الخارج، تهدرهما السلطة النهَّابة عبر البذخ داخل القصور. ولما انتهى النهب الخارجي من (الفتوحات والحروب)، راح يتضاعف مرات ومرات النهب الداخلي لتغطية مصاريف البذخ.
فالنظام الخراجي السلطاني لم يدخل التجار والحرفيين إلى المجال السياسي، وحتى التراكم المنهوب لدى الولاة والحواشي في الأقاليم، كان يسترجع إلى القصر في العاصمة الامبراطورية عن طريق المكائد والمؤامرات (يصف البديري الحلاق في كتابه أخبار دمشق اليومية نماذج طريفة من قصص قتل الوالي واسترجاع أمواله). في عهد السلطنة العثمانية معظم الأموال والتحف والأشياء الثمينة كانت تذهب إلى اسطنبول.
بقي الدين لحقبة طويلة من الزمن يمثل ايديولوجيا السلطة، مأسوراً بين جدرانها، مغلقة نوافذه تماما على أية أهويةٍ جديدة، مقتصرة وظيفته كمُسكِّنٍ ومواسٍ ومخفف للآلام لدى الفقراء والمضطهدين. فالدين الذي يقوم بدور الأفيون كمسكن للآلام هو الدين المتحالف مع الغاشمين، وفي الواقع يمكن أن تنتزع من الدين سمته الأفيونية التي تكلم عنها ماركس ويمكن أن يلعب دوراً نضالياً مستقبلياً حين يتم تحريره من كونه غطاءً إيديولوجياً للسلطة. وفي اعتقادنا أن التماميين المتعصبين والمتزمتين على مختلف أديانهم، وكذلك التماميين الماركسيين اللينينيين قد فهما مقولة ماركس في غير سياقها وعلى غير مرماها الحقيقي.
-III-
هنالك فترات قصيرة في التاريخ العربي الإسلامي، تحرر الدين فيها قليلاً من ربقة السلطة، في زمن المأمون والمعتصم والواثق، والمنصور بن يوسف في الأندلس والمغرب، ولكن هذه الفصلات الصغيرة التي ارتبطت غالباً بخصائص شخصية للخلفاء والسلاطين كانت سرعان ما تنكفئ على أوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية أسوا بكثير، مثل فترة صعود المتوكل إلى السلطة وحملة التنكيل بالمجتهدين وأصحاب المذاهب غير المرضي عنهم والفلاسفة؛ وكذلك فترة صعود يعقوب بن منصور والتنكيل بالرشدية.
انهار في المشرق الإسلامي الفكر المعتزلي، بعد سيطرة السلاجقة تماماً، فاشتد طغيان السلطة الجديدة على الفكر الديني ودمجته بالعنف وحرَّمتَ الاجتهاد والفلسفة، وعادت الأفكار لتدخل في السراديب الضيقة المظلمة، ونشطت مرحلة الهروب إلى الاستبطان والتصوف. في هذه اللحظة كانت بدايات انحطاط المجتمع العربي الإسلامي، وربما بدايات الهزيمة الاستراتيجية التاريخية المستمرة إلى يومنا هذا. وقد تبين فيما بعد أن تقد م دولة لا يرتبط فقط بما تنجزه من انتصارات عسكرية؛ فهذا الشرط لوحده غير كافٍ ليحدثَ تقدماً. فلقد انتصرت الدولة العربية الإسلامية على الفرنجة(الصليبيين) ولكن يعود السؤال ليطرح نفسه: لماذا أقام المهزومون تقدماً وفتوحاتٍ علمية هائلة؛ ولماذا نحن المنتصرين واصلنا سيرورة انحطاطنا وتخلفنا؟ وعلينا أن نتساءل أيضاً: لماذا في زمن صلاح الدين قاهر ريشار قلب الأسد، لماذا هذا السلطان المتسامح جداً مع الأسرى من الفرنجة لم يتحمل فكر شابٍ صوفيٍ مثل (السهروردي)، فسجنه في بئرٍ داخل القلعة حتى الموت؟ في الواقع لم يكن تواطؤ بيلاطس البنطي واقعة فريدة في التاريخ، ففي تاريخنا مئات لا بل ألوف الوقائع....
وفي الأماكن من العالم العربي الإسلامي، التي كان يحصل فيها في بعض الفترات شيء من الفصل بين الدين والدولة، كان ينتعش الفكر بشكل عام وتنتعش الفلسفة. وهذا ما كان ملموساً بين فضائين مختلفين، في المشرق العربي الإسلامي الذي ظل تحت سيطرة لسلاجقة وأخلافهم، كان يتعرض فيه أصحاب الاجتهاد والمشتغلون بالفلسفة للتنكيل والمطاردة الدائمة، في الوقت الذي كان الفضاء الثاني في الأندلس والمغرب العربي تبرز الفلسفة والفكر بشكل عام في إطار من العقلانية البرهانية البعيدة عن الغنوصية والباطنية. ابن رشد يدافع عن الفلسفة ويرد على (تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي) بكتابه(تهافت التهافت). وابن حزم يتعلم اللاتينية ويدعو للعقلانية، والشاطبي ينقد (القياس المشرقي) معتمداً على كلية النص وليس على جزءٍ منه في الأحكام الفقهية؛ وابن خلدون يؤلف مقدمته التي تعتبر من اللبنات الأولى في علم الاجتماع.
من هذا الفضاء الذي حدث فيه بعض الفصل بين الدين والدولة، كان الجسر الذي انتقلت عبره بذور العقلانية العربية الإسلامية إلى أوربا. إذ بعد انهزام الأوربيين في الشرق كانت قد بدأت تطرح مسألة رفع طغيان البابوية عن الدولة، ولذلك لم يكن غريباً في تلك الفترة أن يتلقف الغرب الرشدية المنبوذة على أرضها.
لولا انتعاش الفلسفة في الغرب لما انتصر العلم الحديث الذي هو الأساس في الثورة الصناعية الغربية، وانتصار قضية الفلسفة ساعد على فصل الدين عن العلم، وهيأ لإمكانية وضع فرضيات علمية، كانت في البدء ميتافيزيقية ولكنها انتهت معرفية.
في العالم العربي الإسلامي وعلى أنقاض التقنيات والصناعات التجريبية التي كانت متطورة في العصور الوسطى عما في الغرب، لم يقم علم حديث من أجل نشوء الصناعة الحديثة والتكنولوجية. وهنالك من يعتبر الآن أن تمكن (الهرطقة الدينية/الإصلاح الديني/ نقد النص الديني) في الغرب من تحقيق بعض الهيمنة الفكرية والاجتماعية والسياسية هو المسؤول عن انتصار العلم وبالتالي إلى تطور وسائل الإنتاج ونشوء الرأسمالية التي قامت بجرف العصور الوسطى من أوربا.
فنقد الدين وطَّد سلطة الفلسفة وفتح الطريق أمام انطلاق النظريات العلمية الكبرى.
-IV-
بعد حملة نابوليون على مصر وسوريا، وبعد نشوء دولة محمد علي في مصرفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت إرهاصات فكر الفصل على يد رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين.....
ولكن هذه الإرهاصات النهضوية التي راحت تتعانق مع بدايات التراكم الرأسمالي في العالم العربي عادت لتنكفئ مع سيطرة العسكر والأنظمة الشمولية الأحادية التي فرضت بالعنف، باسم الثورية والعروبة والاشتراكية، دمجاً وتوحيداً قسرياً لكل مجالات الحياة الاجتماعية مع السلطة. وباسم العداء للإقطاعية والرأسمالية فككت مؤسسات المجتمع المدني التي نشأت خلال الاحتلال الاستعماري وفترة الحكم الليبرالي بعد الاستقلال.
ولقد قامت هذه السلطات العسكرية الحاكمة بثلاث خطوات كبيرة إلى الوراء، فلقد دمرت: 1- نواة الدولة الحديثة التي بدأت تنشأ في ظل الاحتلال الاستعماري
2- فكر رواد النهضة العربية مثل الطهطاوي ولطفي السيد والكواكبي ومحمد عبده وطه حسين وعلي عبد الرازق.
3- القضاء على الاعتدال الديني في الإسلام السياسي وتهيئة التربة الخصبة للإسلام المتطرف الذي ينهل من ابن تيمية والمودودي وسيد قطب، وهذا أدى إلى أن تعمل هذه الأنظمة العسكرية غير الديموقراطية على محورين يرفدان بعضهما البعض استراتيجياً، فمن جهة راحت تحارب القوى الدينية الإرهابية التي تقوم بأعمال العنف ضد الدولة، ومن طرف آخر تسهل وتعاضد كل مؤسسات الإيديولوجية الدينية الرافضة لأي إصلاح في الدين وهذا ما رأيناه في العراق ونراه في مصر وسوريا والسعودية. هذه السلطات العربية تكافح العمل الإرهابي الموجه إليها وفي الوقت ذاته تدعم إنتاج الفكر الديني المتطرف. فلفترة طويلة كانت تعتبر هذه الأنظمة هذا العمل المزدوج ورقة قوية من أوراق وجودها واستمرارية وظيفتها الإقليمية. فهي تعتبر نفسها الحامية من خطر الإسلام السياسي المتطرف في علاقتهم مع أميركا والحكومات الغربية. يشعلون النار ليقومون بإطفائها وعلى هذه المعادلة تقوم استمراريتهم.
من هنا نرى تلك الأهمية التي يجب أن تولى لمسألة الإصلاح الديني................
نقولا الزهر
في 5/12/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفكار محمد باقر الصدر وعلاقته بحركات الإسلام السياسي السني


.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم




.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran