الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
البحث عن الزمن التائه (سيرة ذاتية فلسفية)
هشام غصيب
2011 / 10 / 1الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هذه المفكرة تأتي على خلفية أزمة أعيشها منذ مدة: أزمة تراجع عطائي الكتابي. لقد قررت أن أستأنف هذا العطاء بهذه الآلية الجديدة، علني أفلح في إحياء هذه الملكة، التي كادت مؤخراً أن تتلاشى. لماذا؟ لا أعرف تماماً. إنه بالتأكيد مرتبط بالتغيير الذي طرأ على ظروف حياتي في السنوات الست الأخيرة، أي منذ تسلمت مهماتي رئيساً للجامعة، حيث إن أعباء رئيس الجامعة أنهكتني ذهنياً، وربما وجدانياً أيضاً، وأفرغتني من طاقة التوتر الخلاق، والتي كانت تدفعني دفعاً إلى الكتابة كالمحموم. ولكن لابد أن هناك أسباباً أخرى لا تقل أهمية، وفي مقدمتها الأجواء العامة، أجواء ما بعد انهيار المشروع اللينيني الشيوعي بهذه الصورة المروعة وغير المتوقعة، تلك الأجواء التي اتسمت بسيطرة شاملة لقوى الثورة المضادة (النيوليبرالية، فلسفة ما بعد الحداثة، المحافظون الجدد، الصهاينة، الأصولية الإسلامية). إنها أجواء خانقة تقتل روح الإبداع الفكري لدى من يرفض الاعتراف في مشروعيتها. وبرغم استمرار إيماني بالضرورة التاريخية والمشروعية التاريخية للمشروع اللينيني الشيوعي، إلا أن انهيار راهنيته ليس بالأمر البسيط الذي يمكن تجاهله باسم يقينية فلسفية فكرية. كلا! فهو بالتأكيد واقع حارق يتغلغل في قلب نفس المثقف الملتزم ويشلها في الصميم.
حتى الآن لم أتطرق إلى العوامل الذاتية. فلم أذكر سوى عاملي العمل المؤسسي والأجواء التاريخية الاجتماعية العامة. هل لهذا الإغفال مغزى؟ هل تؤرقني المسائل الذاتية إلى حد تعمد إغفالها؟ هل تأكلني همومي وهواجسي الذاتية من الداخل كالسرطان (الذي رأيته بأم عيني يلتهم أحشاء ابن عمي رقيب بنهم)؟ هل لشعوري بوطأة الزمن والمرض والموت ( موت الآخر القريب) دور في عزوفي عن الكتابة؟ هل لانغمادي الروحي والعاطفي دور في ذلك أيضاً؟
سأتحاشى الكلام في ذلك. ومسوغي في ذلك هو الآتي.
كنت دائماً أعيش لكي أكتب، لا أكتب لكي أعيش. لاحظها مرة مراسل كثير الغلبة في الشهور الأولى لالتحاقي بالجمعية العلمية الملكيـة عام (1976). إذ سمعته يقول آنذاك : ” هذا الدكتور لا يعمل شيئاً. انه يكتب فقط”. كانت الكتابة لدي مشروع حياة. إذ لا أتقن شيئاً غيرها ( أتقن الكلام، لكن بوصفه كتابة محكية). كانت بؤرة حماسي وعشقي وطموحي وتطلعي. لم يكن يمر يوم إلا وأكتب فيه. كانت كالجنس (كذا !) والأكل والشرب والنوم. كنت أكتب بولع وعشق؛ أمارس الكتابة وكأني أمارس الحب ( ولا أقول الجنس). كانت الكتابة أساس المعنى والانتماء والالتزام في حياتي. إنها فردوسي المفقود. والأهم من ذلك كله أنها كانت فعلاً مقدساً لديّ، وكأنها عبادة. لذلك كنت دائماً أمارسها ضمن حدود معينة، لأني كنت أتفادى تدنيسها. وأعني بذلك شيئين: أولاً، لم أكن أعد كل موضوع جديراً بأن تمسه الكتابة بقدسيتها. بل كنت أعد كثيراً من الموضوعات مدنسة لهذا الفعل المقدّس. لذلك كنت انتقائياً جداً في ممارسة الكتابة، رغم أني كنت أمارسها يومياً. كنت أتحاشى الكتابة عن ( أو بوحي من) هواجسي وعواطفي وشهواتي ومشكلاتي الذاتية. لذلك كنت أتفادى كتابة الرسائل الشخصية، وأحاول اختصارها والحد منها بقدر المستطاع، برغم غزارة إنتاجي الكتابي في موضوعات وبألوان أخرى. وانصبت كتابتي على الأفكار والمشكلات العلمية والفلسفية والاجتماعية التاريخية (معنى العلم ومغزاه وأسسه، معنى الفلسفة ومكانتها، إشكالات المعرفة، البنية الفكرية للنظريات الفيزيائية، معنى الجدل المادي وأهميته، العلاقة بين العلم والفلسفة، معنى التحرر القومي والاجتماعي، بنى المجتمعات وقواعدها، طبيعة الآيديولوجيا، معنى النقد ونقد الواقع والفكر، علم السياسة، معنى الثورة العلمية والاشتراكية، العلاقة بين الشرق والغرب، طبيعة الأدب). ولم تكن كتابتي في هذه الموضوعات مجرد بحوث ودراسات وشروحات وتحليلات باردة، وإنما كانت فعلاً ثورياً صراعياً يهدف إلى التغيير؛ المساهمة في تغيير علاقات القوى والتأثير في الوعي الجمعي، في سياق التحرر والتقدم والاستقلال والمساواة. لذلك جاءت هذه الكتابات مفعمة بالعاطفة والروح الموسيقي الأدبي، فكانت أشبه بالاحتفاء والغناء، الاحتفاء والتغني بالمعرفة العلمية والمنهجية العلمية وروح النقد الثوري والفعل التقدمي وقدرات الإنسان والإنسانية الخلاقة المبدعة. أجل، كانت أشبه بقصائد الغزل والهجاء والاحتفاء بمنجزات الحقبة الحديثة ونزعاتها الإنسانية وانفتاحها على اللانهاية الفعلية (المادية). ومع أني استفدت لاحقاً من هذه الكتابات في نشر بحوث علمية وفلسفية في مجلات محكمة، وترقيت وحصلت على رتبة الأستاذية استناداً إليها، إلا أنها لم تكن بحوثاً أكاديمية نمطية، وظلت مضمخة بروح الآلتزام الآيديولوجي والنفس الشعري الأدبي الغنائي، الأمر الذي عقد بعض الشيء تقبل الوسط الأكاديمي إياها.إن كتاباتي هي في جوهرها قصيدة حب متصلة موضوع عشقها هو العلم والفكر والثورة والتقدم والإنسان بصفته قوة خلاقة مبدعة قادرة على التغيير المنظم والسيطرة على الكون.
لذلك كله أنفر من تبذير هذا الفعل المقدّس ( الكتابة) وتبديده على إشكالات ذاتية محدودة أشعر أنها لا تليق به. ولما انحسرت القضايا التاريخية الكبرى عقب انهيار المشروع اللينيني الشيوعي، في هذا الزمن الرديء، وبرزت بدلاً منه الصغائر والمصالح ” السوقية ” الصغيرة، كان من الطبيعي أن يتراجع إنتاجي الكتابي لأول مرة في حياتي منذ سني الطفولة الأولى. لدي بالطبع هواجسي وهمومي وعقدي ومخاوفي الشخصية ( خوفي من الشيخوخة والمرض والموت والخواء الروحي والانغماد العاطفي والإذلال اليومي وخدش كبريائي). لكني لا أشعر البتة بالحاجة إلى الكتابة عنها، بل وأخشى أن أدنس هذا الفعل المقدس بها. لكم مررت مؤخراً في حالات من الرعب والقلق الممض من تعقيدات الحياة حاضراً ومستقبلاً. لكم يرعبني المستقبل المنظور بما يحمله من إمكانات مرعبة بصددي وبصدد من أحب. لكن هذه الحالات لم تحركني قيد أنملة صوب ممارسة الكتابة. بل، على العكس من ذلك تماماً، فقد شلّت ملكة الكتابة لدي. ومن ذلك ينبع السؤال: ما الذي يولد الحاجة إلى الكتابة؟ إنه ليس بالضرورة المعاناة الذاتية. وأحسب أن العامل الأساسي هو العشق، بمعناه الواسع العريض. فالعشق قصدي Intentional في جوهره، كما قد يصفه هوسرل Husserl أو سارتر . لا بل إنه التجسيد الأكبر للقصدية. فهو أكبر تأكيد للآخر، أكبر خروج من الذات إلى موضوعها. إنه لحظة نفي الذات من أجل الآخر، لحظة ذوبان الذات في موضوعها. بذلك، فإن الكتابة هي لحظة عشق بامتياز، لحظة الخروج من الذات وآلامها وهواجسها البدائية ورعبها وتحسباتها صوب الموضوع المعشوق، لحظة الانبهار بالآخر إلى حد الرغبة في الذوبان فيه. إن الكتابة ليست عملية وصف، وإنما غناء، خلق، إبداع. إنها انبهار، وليست وصفاً محايداً. فالعاشق ليس محايداً، ولا يمكن أن يكون كذلك. خلاصة القول إن الكتابة فن خلاق، تخلق عملاً فنياً من الكلمات والألفاظ والمعاني. وعلى أي حال، فإما أن تكون كذلك وإما ألا تكون. وعليه، فإن جل ما يكتب لا يجوز أن نعده كتابة.
قلت إني عشت لكي أكتب، وليس العكس. وأقول ليس لحياتي معنى وطعم ونكهة من دون الكتابة. وعليه، يمكن القول إني لم أعش حقيقة في السنوات الخمس أو الست الأخيرة، لأني قلما مارست هذا الفعل المقدس في غضونها.
الإثنين (31/1./2..5)
هناك علاقة جدلية بين القراءة والكتابة. فالقراءة هي أيضاً فعل مقّدس. ليس أي تشكيل من الكلمات والألفاظ يستحق أن يقرأ. والقراءة أيضاً فعل قصدي، بمعنى هوسيرل وسارتر. إنها تخرج الذات من جوانيتها الزائفة إلى الآخر الحي، أي تفتحها عليه وربما تذوب فيه كما ذات الصوفي في الذات الإلهية. إن القارئ يمارس هناك فعلي الفهم والمخيال ، وهما فعلان إلهيان مقدسان خلابان. إن الإنسان لمعجزة حقاً بفضلهما. تأملهما من فضلك : أن تفهم وأن تتخيل ! أليسا فعلين مدهشين حقاً ؟ والقارئ يمارسهما من أجل بناء صروح من المعنى من متفرقات عامة، من إمكانات معنوية متعددة. فالكلمات لا تعبر عن معاني بقدر ما تعبر عن فضاءات معنوية، أي حقل إمكانات معنوية. والقارئ ينشئ الصروحات المعنوية من موارد هذه الفضاءات. فالقراءة إذاً هي أيضا فعل إبداعي خلاق مقدس. وبهذه الصروح المعنوية تطل الذات على الموضوع، على الذات الأخرى وعلى العالم. وتنفتح عليه، وتخرج من قوقعتها المنغلقة.
إن القراءة هي أيضا نوع من العشق . إنها نوع من انغماس الذات في ذات أخرى، وكأن ذات القارئ تضاجع ذات المقروء وتلقح نفسها بذلك.
ولكن لربما ألجأ ِإلى تقديس الكتابة والقراءة كلتيهما لأنهما شكلا الممارسة الوحيدان اللذان أمارسهما، لأنني شئت أن أختزل حياتي برمتها إليهما. فلا أمارس الرياضة ولا اللعب بأصنافه المتنوعة ولا الجنس ولا الحب ولا الاقتتال ولا التنافس بأنواعه ولا المغامرة ولا ارتياد الحفلات والمناسبات الاجتماعية. فقط الكتابة والقراءة؛ القراءة والكتابة.أحلى لحظات العمر وجدتها في القراءة والكتابة. حتى لحظات الحب والشوق والعشق. لم تؤثر عليّ شخصية واقعية كما أثرت عليّ شخوص روايات تولستوي ودستويفسكي وشيخوف أو شخوص ملحمات غيته. لم تلهب عواطفي امرأة واقعية كما ألهبتها نتاشا أو غروشينكا أو دنيا أو أنا كارينينا. ولم تهزني علاقة حب واقعية كما هزتني موسيقى باخ وموتسارت وبيتهوفن. هل هو الرعب من الواقع والهروب منه؟ أم إنه الشعور الأفلاطوني بأن الواقع المعاش إن هو إلا ظل باهت للحقيقة المثالية، التي أسعى إلى تملكها عبر الكتابة والقراءة؟ أم إنها الإرادة للقوة، التي لا أجدها في الواقع المعاش، وإنما فقط في عالم القراءة والكتابة المتخيل؟ إن عالم الواقع المعاش لا أختاره، وإنما يختارني هو. إنه يسحقني سحقاً ويصادر حريتي ويذلني ويهمش إرادتي للقوة ولا أحقق فيه أيا من أحلامي وأهدافي. إنه عالم مغترب كلياً عن ذاتي. إنه عالم يسيرني مرغماً صوب حتفي. فهو عالم يسوده الاستغلال والظلم والقهر القومي. إنه العالم الذي ألحق الهزيمة تلو الهزيمة بي فرداً وأمة. والمرء بالطبع ينفر من بيئة عجزه، البيئة التي يشعر فيها بعجزه وضعفه. وأما عالم القراءة والكتابة، فهو عالم أختاره وأصنعه أنا نفسي، ومن ثم أجد فيه تعبيراً عن حريتي وقوتي وقدرتي على الخلق. إنه ملاذي الأول والأخير. إنه مصدر بقائي وسعادتي. هل في ذلك إدانة لذاتي، أم إدانة لعالمي، أم إدانة لكليهما؟ ليس هناك إجابة سهلة جاهزة. لكن السؤال يدفعني إلى النبش في الماضي، ماضي مسيرتي الذهنية.
في مرحلة شبابي المبكر، عانيت صدمة حضارية صاعقة بفعل حدثين أو سيرورتين: حرب حزيران 1967، وذهابي إلى بريطانيا عام 1967 من أجل الدراسة الجامعية. الأولى وجهت لكمة هائلة ( ربما قاضية) إلى بنية وعيي التقليدي، الذي شكل أساسه الاعتزاز القومي والدين ( بمعناه الأخلاقي لا الطائفي العصبوي، إذ أفلحت في التغلب على الطائفية العصبوية مبكراً في حياتي). أما السيرورة الثانية، فقد حولت هذا الوعي التقليدي إلى ركام مذرى، محدثة فراغاً وجدانياً وفكرياً مريعاً في ذاتي. فانتقالي من عمان 1967 شبه الريفية المفعمة بالبراءة والسذاجة إلى بريطانيا المثقلة برأسماليتها الصناعية العريقة كان أقسى من أن يتحمله هذا الوعي التقليدي. إذ جابهتني هنالك أنماط من الوعي والفكر معقدة ومتعددة ولانهائية الانفتاح والجوهر أذهلتني بجراءتها وجنونها، وجعلت يقينياتي تبدو أشبه بالدمى الهشة أو بالسيوف الصدئة في مجابهة المدافع والصواريخ. أجل! لم تستطع هذه اليقينيات التقليدية أن تصمد طويلاً أمام هذا الفيض اللانهائي من الأفكار وأنماط الوعي والبنى الثقافية المعقدة. لكنها تركت آثارها العميقة الغور في نفسي قاعدة بلا صرح، أساساً بلا بناء، يدمي نفسي ويعذبها ويحول دون ولادة وعي بديل. أجل! لقد دخلت حيز العدمية، كما وصفها نيتشه في كتابه الذي نشر بعد وفاته بعنوان ” الإرادة للقوة “. كانت صدمة مريعة، لكن غير مكتملة. لذلك حالت مخلفات وعيي التقليدي المستترة خلف الركام دون انخراطي في البيئة الجديدة وتقبلها، فعشت معزولاً عنها في قوقعتي المحدودة وعالمي الفقير المغلق. لقد وصفت وعيي القديم بالتقليدي. ولربما من الأدق نعته بالوعي المسياني ( نسبة إلى المسيا المخلص) أو الوعي الخلاصي. ومع أن الصرح الفكري لهذا الوعي انهار ركاماً تحت ضربات البيئة الجديدة، إلا أن الوجدان الخلاصي ظل يفعل فعله في نفسي وفي سلوكي. لذلك شرعت أبحث عن نظم فكرية أخرى، غير التقليدية الموروثة، علها تركب على وجداني الخلاصي المكلوم. وبدأ الشك العدمي ( لا المنهجي الديكارتي، وإنما الهيومي) ينخر روحي نخراً. وهذا ما قادني تحديداً إلى الفلسفة. بدأت أفكر فلسفياً، لا بفعل الكتب والنصوص الفلسفية، وإنما بفعل هذه الصدمة الحضارية وما نجم عنها من عدمية تامة. بدأت أدخل في ما أسميه خبـــرات فلسفيـــــة Philosophical Experiences هي خليط من الفكر والوجدان والتبصّر المباشر. وهذه الخبرات أو التجارب هي التي قادتني لاحقاً إلى النصوص الفلسفية. لذلك، وفي مرحلتي المبكرة، لم أكن قارئاً نهماً، كما هو حالي اليوم، وإنما كنت أمارس الشعور والتفكير والتخيل والخبرة الذهنية أكثر مما كنت أقرأ وأفسر وأمارس تأويل النصوص. أصبحت فيلسوفاً بالفطرة، إن شئت. لقد عشت الفلسفة قبل أن أقرأها. وإذا أردت مثالاً من التراث الفلسفي والأدبي على ذلك، اقرأ رواية سارتر، ” الغثيان “، التي نشرها عام 1938، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. فهي سجل روائي لخبرات فلسفية على غرار ما عانيته في شبابي المبكر. ذلك أن بطل الراوية، روكنتان، لا يفعل شيئاً سوى أن يعاني خبرات فلسفية معينة ( يمر بتجارب فلسفية معينة)، وعلى رأسها شعوره بالغثيان الاغترابي بصدد العالم والأشياء. والراوية على شكل مذكرات يسجل فيها روكنتان هذه الخبرات الفلسفية ويعبر عنها ويمارس التأويل بصددها. إنها بالفعل رواية فريدة من نوعها. ومن الواضح أن سارتر مر في تجارب فلسفية شبيهة، ولعلها كانت في أساس عمله الفلسفي العظيم، ” الوجود والعدم “.
هناك عاملان آخران قاداني إلى الفلسفة، هما : الشقاء القومي، الذي أثارته هزيمة حزيران 1967، وما أثاره فهم الفيزياء ( موضوع تخصصي) من إشكالات فلسفية. لكن العامل الأهم والحاسم كان الخبرات أو التجارب الفلسفية على غرار خبرات روكنتان الفلسفية.
بدأت أتساءل عن كل شيء بجدية. لم يكن يرضيني شيء ولا ترضيني إجابة ( طبعاً كان أول ما انهار هو المعتقدات الدينية؛ وليس هذا بمستغرب في ضوء هشاشتها الفكرية). وكنت إذا تناولت شيئاً، أي شيء، أفككه وأمزقه وأعبث به وأقلبه كيفما شئت، ثم أتساءل حول كل جوانبه، بما في ذلك وجوده، ثم أتساءل حول هذه التساؤلات، وهكذا صوب الشك اللانهائي Ad Infinitum. لقد أصببحت مونتينيا ( نسبة الى مونتين الفرنـسي Montaigne) وهيوميـا ( نسبة إلى هيوم الإسكتلندي)قبل أن أقراهما. ووجدت نفسي أحلل ما حولي ومن حولي وأحلل ذاتي بصورة متواصلة، وأنا أجوب شوارع تشسترفيلد، ثم شوارع ليدز، في بريطانيا، وفي أثناء تناولي الوجبات الغذائية، وفي غضون انتظاري الحافلة (الباص)، وفي أثناء اغتسالي، سواء بسواء. كنت أحلل الأشياء والوجوه والعواطف والإيماءات والغمزات واللمزات والعواصف والأفكار والتجارب والخبرات، المعرفية والجمالية والأخلاقية والاجتماعية. وأفقت على نفسي لكي أجد العالم والذات مجرد كومة من الانطباعات الضبابية المبهمة. أجل! قادني ذلك كله إلى الشك في إمكانية وجود العالم بصفته كيانا موضوعيا (وليس فقط الشك في وجوده)، وفي إمكانية وجود الأنا أو الذات، بل وفي إمكانية الفعل المشروع الهادف، أي في إمكانية المعنى والهدف والمرمى. وعبرت لاحقاً عن هذه الخبرات الذهنية في عدد من الدفاتر (غير المنشورة والمكتوبة باللغة الإنجليزية)وعدد من المسرحيات الفلسفية ( أيضاً غير المنشورة والمكتوبة باللغة الإنجليزية ) . والاستثناء الوحيد المنشور وباللغة العربية هو مسرحية “غسق الآلهة” ، التي كتبتها بعيد عودتي إلى الأردن من بريطانيا عام 1976، قبل أن أعين في الجمعية العلمية الملكية، ونشرتها على حسابي الخاص عام 1979 . والجدير بالذكر أنها لم توزع في الأردن، سوى بضع نسخ وزعت على سبيل الإهداء . ذلك أن الذي تولى توزيعها (طبعت منها ألف نسخة فقط) شاء أن يوزعها في دمشق فقط، ولا أدري بالضبط ماذا فعل بها هناك: هل باعها جميعاً أم ظلت حبيسة المستودعات ( الموزع هو المرحوم يعقوب الدجاني).
لقد شعرت بشقاء فلسفي ممض بنتيجة هذه التجربة الفلسفية النابعة من صدمة حضارية عاناها مثقف أردني عربي بوعيه المحدود التقليدي البسيط. كيف لا وقد استحال عالمي بقطبيه الموضوعي والذاتي ركاماً وحطاماً! كيف لا وقد انتفت إمكانية العالم والذات والفعل الهادف! لقد عانيت العدمية الإمبريقية الوضعية والشكلية السلبسية Solipsism في صميم ذاتي ووجداني . فلم تكن بالنسبة إليّ مجرد موقف عقلي استقيته من الكتب والنصوص، وإنما كانت معاناة حياتية دفعني إليها وضعي المغترب: بدوي أردني تائه في خضم المتروبلس الرأسمالية . لقد كان وضعاً مريعا بحق. وكان لابد أن أبحث عن مخرج من وضعي اليائس هذا. كان هناك الأدب الرفيع : أدب تولستوي ودستويفسكي وغيته. وكانت هناك الموسيقى الكلاسيكية : باخ وموتسارت وبيتهوفن وفاغنر وبروكنر وماهلر. هزتني من الأعماق، لكتن لم تفلح في إخراجي من الحلقة الشيطانية. فواصلت بحثي المحموم عن مخرج يحرّك في ذاتي مكامن الحياة والأمل . فقرأت كانط وأدهشتني مثاليتة وعقلانيته المتعالية، لكنها لم تغر في صميم عقلي ، وظلت عدميا حتى النخاع.ثم قرأت شوبنهاور ووقعت تحت تأثير سحر تشاؤمه المطلق. لكن قراءته عززت عدميتى المطلقة وأوصلتني إلى طريق مسدود. وبالطبع، فإن شوبنهاور قادني إلى نيتشه، الذي يفترض أنه ثار على شوبنهاور وقوض أركان فلسفته أو قلبها رأساً على عقب . وأقبلت بنهم على نيتشه، وخصوصا على “هكذا تكلم زرادشت”، فصرت أعده إنجيلي. وهذا ما صرحت به للمرحومة نورما قراعين حين عدت لمدة شهر واحد إلى عمان عقب حصولي على البكالوريوس في الفيزياء من جامعة ليدز في بريطانيا. بل وأعطيتها نسخة من “هكذا تكلم زرادشت” حاثا إياها على قراءته. لقد سحرني نيتشه بأسلوبه وفكره كليهما، وصرت أنادي بأفكاره حول أخلاق العبيد وأخلاق السادة والنخب الأرستقراطية وما إلى ذلك، وتأثرت بأسلوبه اللاذع إلى حد تقليده في كتابتي . لكنه لم يرحني البتة ، وإنا عزز شعوري بالعدمية المطلقة والقرف من الوجود الإنساني.
وفي الآن ذاته، دخلت متاهات الفلسفة اللغوية التحليلية، وصرت أمارس لعبة تفكيك الجمل والكلمات علني أستخرج من ذلك منهجا لممارسة الحياة. وقادني ذلك إلى فقر فكري وخواء وجداني أليمين، ومرة أخرى إلى طريق مسدود في فهم الحياة والتعاطي معها، بل حتى في فهم الفيزياء والتعاطي معها.
وفي تلك الأثناء، كنت أنزع إلى نفي العالم والذات وتأكيد الوعي البحت الخالي من أي مضمون. إذ بهرني هذا الوعي البحت واعتبرته أساس أي وجود، بل إني كنت أعرف الوجود بدلالته. وكونت تصوراً أنطولوجيا شبيها بالتصور الذي طرحه جان بول سارتر في ” الوجود والعدم”، ولم أكن قد قرأت هذا الكتاب بعد. لقد تصورت الأمر آنذاك على صورة وعي بحت خال من أي مضمون يجابه فيضا من الموجودات ( الأفكار والعواطف والانطباعات الحسية وما إلى ذلك)، التي تتساوى معاً من حيث وجودها وموجوديتها، وتكتسب وجودها من حيث كونها قابلة لآن تُعى. وحرت في أمر هذا الوعي البحت الفتان. إنه ليس شيئا بالتأكيد ، لكنه ليس عدماأيضا. وبلغ افتتاني به أن حاولت بناء فلسفة كاملة على أساسه، بل وحاولت تأويل النصوص الدينية به. وعلى سبيل المثال، قرأت اليوبانيشادات Upanishads الهندوسية بدلالته وأقنعت نفسي أن براهما هو الاسم الهندوسي للوعي البحت، وشكلت جدولاً يبين أوجه التماثل بين الطرفين. وحين تسنى لي أن أقرأ ” الوجود والعدم” بعد ذلك بسنوات، تبين لي مدى التطابق بين تصوري العدمي ذاك والتصور الأنطولوجي السارتري، على الأقل فيما يتعلق بطبيعية الوعي السارتري Pour soi .
ومل لبثت أزمتي الروحية أن قادتني إلى التراث الظاهراتي، إلى هوسيرل وسارتر.وبدأت بقراءة ” أفكار” هوسيرل. لكن الذي لفت نظري فيه لم يكن نص هوسيرل في حد ذاته، وإنما اقتباس في مقدمة الكتاب من هيغل. شعرت حينها وكأن تيارا كهربائياً مس ذهني، وكأن حجبا وقشوراً سقطت من عيني. لم تكن معاني هيغل في حدّ ذاتها هي التي صعقتني، وإنما روحيته وطريقته ومنطقه. لقد اكتشفت في هذا الاقتباس ( الأرجح أنه من “ظاهراتية الروح”) روحية جديدة غير الروحية التي اعتدت عليها في الفلاسفة الآخرين، روحية خالية من العدمية المطلقة التي أفسدت حياتي وعززتها قراءة الفلاسفة المحدثين. ها قد بدأ يتراءى لي إمكانية تخطي الحلقة المفرغة التي وقعت فيها؛ بهذه الروحية الجديدة، روح هيغل الجدلية .
وفي هذه الأثناء أيضا، وقع بين يدي كتاب صغير بعنوان “الماركسية والمسيحية” لديفد مكليلان، على ما أذكر . وهنا أيضا، فإن ما لفت انتباهي لم يكن نص مكليلان في حد ذاته، وإنما الاقتباسات من ماركس وإنغلز وهيغل في مقدمات فصول الكتاب . ومرة أخرى وجدت هذه الروحية الطازجة الجديدة تطل عليّ من بين ثنايا الكلمات الشرارات، وتثير في ذاتي بهجة وحماساً للحياة لم أعرف مثيلا لهما منذ سني طفولتي . بل إن ما سبق أن وجدته في هيغل من هذه الروحية الجديدة وجدته مضاعفاً في ماركس.
ثم وقع بين يدي “التاريخ والوعي الطبقي” لجورجي لوكاتش، حيث شاع هذا النمط من الكتب في الجامعات البريطانية في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين بتأثير اليسار الجديد. وما إن بدأت بقراءة مقالة لوكاتش الأولى في هذا الكتاب المتميز ، وهي بعنوان” ما هي الماركسية الأرثودكسية؟” ، حتى أيقنت أني بإزاء روحية تاريخية جديدة لا تقتصر على مفكر بعينه، وإنما تعبر عن حركة بكاملها، وعن طبقة تاريخية برمتها وحقبة تاريخية كاملة. وهنا أيضا، لم تكن المعاني والأفكار في حد ذاتها هي التي صعقتني بقدر ما كان الروحية والإيقاع الثوري.
وأخيراً وليس آخراً ، وقع بين يدي ” في المسألة اليهودية” و ” أطروحات حول فويرباخ” لكارل ماركس، واللذان توجا بفعلهما تجربتي الفكرية الجديدة. ولم يكونا، بالنسبة إلي، مجرد نصين، وإنما كانا فيضا من الشرارات اللامعة الحارقة. فبالإضافة إلى أسلوبهما النقدي اللاذع، أشرقتا بموضوعية والتزام بالحقيقة قل نظيرهما، ولا يقبلان أي تسوية أو مهادنة مع الباطل والتحيزات الموروثة، بل ويتخطيان الانتماءات والولاءات العصبوية التقليدية جميعاً صوب الحق وحرية الإنسان وروحه الخلاقة. كنت مهيئاً تماماً لمثل هذه النصوص الماركسية . لذلك كنت أقول دوماً إني اكتشفت الماركسية بوصفها المخرج الوحيد من الحلقة الرأسمالية المغلقة قبل أن أقرأ ماركس. فهذا الاكتشاف هو الذي قادني إلى قراءة كلاسيكيي الماركسية، وليس العكس. وبالتأكيد، فإني لم أصل إلى الماركسية عبر الأدبيات السوفييتية أو الأحزاب الشيوعية التقليدية . لقد كانت الماركسية بالنسبة إليّ مسألة حياة أو موت، أي كانت مخرجاً (مؤكداً للحياة) من الحلقة المفرغة للعدمية المطلقة. لذلك فإن الأحداث، التي قادت إلى إلغاء المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي ، لم تمس ماركسيتي في الصميم. وهي لم تدفعني البتة إلى التخلي عن الماركسية أو التشكيك في جدواها المعرفية والعملية، لأني أصلاً لم أصل إلى الماركسية عبر الاشتراكية القائمة بالفعل ( عبر الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية) ، ولأني اكتشفت الماركسية اكتشافاً ، ولم أقم بتبنيها تلبية لحاجات ومصالح وعلاقات غير عقلية ، ولأن اكتشافها جاء انقاذاً لي وحلاً لمأزق فكري روحي. وقد حار معارفي وزملائي من اليساريين وغير اليساريين في أمري، حين لاحظوا إصراري على الماركسية وحملتي النقدية ضد الانحرافات اللبرالية لليسار العربي تحديداً، وظنوا أنه مجرد أصولية وتعصب، مع أني حاولت أن أفسر الأمر لهم مراراً وتكراراً، وحاولت أن أميز بين الماركسية بصفتها منهجاً جدلياً ثوريا إنسانوياٍ وبين آيديولوجيا السلطة السوفييتيـة ( ما قبل الماركسية ، وربما ما قبل الكانطية). ولكن ، عبثا. إذ لم يكن وعيهم الميكانيكي التبسيطي ( ربما العسكري) مهيأ لاستيعاب هذا الموقف الجدلي المعقد. إن تجربتي الفلسفية عبر السنوات دلتني على أن الماركسية هي موقف من الحياة مطابق للحياة في تاريخيتها. إنها مخطط للفعل التاريخي لا غنى عنه في حقبة الحداثة وما بعد الحداثة . وهذا المخطط هو فضاء من المسارات والاحتمالات ، وليس مساراً أحاديا تحدد أبديا عام 1917. وبالطبع، فإن هذه مسألة فلسفية في غاية الأهمية والتعقيد، وسأعود إليها في الأيام القادمة .
بعد اكتشاف أسس الماركسية ، انطلقت في رحابها من أجل تملك مناهجها المعرفية والعملية أداة في تملك نفسي والعالم حولي في سياق الفعل التغييري الواعي . ولكن ما هي هذه الأسس التي اكتشفتها وقلبت حياتي رأساً على عقب ؟
إن القفزة الكبرى، التي أحرزتها في سياق انتقالي من الفلسفة البرجوازية إلى الماركسية، تمثلت في انتقالي من الوعي المسياني الخلاصي، الذي ينفي مادية العالم ومادية الإنسان، إلى الوعي المادي الجدلي ، الذي يؤكد هذه المادية. لقد كنت أنظر إلى نفسي على أني روح محض معذب تقيده المادة بقوانينها الصارمة ويصبو إلى خلاصه الأبدي. ومصدر عذاب هذا الروح هو الشهوات والحاجات الدنيوية المادية. فبرغم انهيار وعيي التقليدي القومي الديني بفعل هزيمة حزيران وصدمة الانتقال إلى مجتمع رأسمالي عريق ، فإن مخلفات هذا الوعي، أو قل الكثير من أسسه، ظلت راسخة في ذاتي تعوق تقدمها وتحررها . وفي مقدمة هذه الأسس المسيانية أو الخلاصية. إذ ظلت هذه النظرة كامنة وراء فكري وممارستي ووجداني طوال المدة التي تلت انهيار وعيي التقليدي وحتى اكتشاف الماركسية والالتزام بها. وبرغم دخولي في تجارب فلسفية جديدة وغوصي وجدانيا في محيط الفلسفة الأوروبية الحديثة ( البرجوازية) ، إلا أني عجزت عن تخطي هذه الأسس المسيانية، بمعنى أن هذه التجارب والقراءات لم تكن رافعة كافية لتخطيه. وفجأة ، وأنا في عزّ قنوطي الفلسفي، وأنا في مجابهة الجدار الذي أوصلني إليه طريق الفلسفة الأوروبية البرجوازية المسدود، إذا بالقشور والحجب والغيوم تنقشع، وإذا بالنور يبدد الظلمات، وإذا بالإدراك الجديد يهبط على ذهني. إن الإنسان ليس روحاً محضاً يبحث عن خلاصه الأبدي في مجابهة حشد من الشهوات والحاجات المادية التي تعوق حركته. كلا! إن الإنسان كائن بيولوجي اجتماعي عاقل فاعل يتطور ويسعد ويحقق ذاته ويتملك العالم ومصيره وتاريخه عبر توليد ٍ حاجاته وسدها بالإنتاج، أي عبر الخلق والإبداع في سياق تطويع ذاته وبيئته. فالشهوات والحاجات ليست معوقات ومشكلات، وإنما هي آليات الحياة والوعي والسعادة والتاريخ. وما نفي الدين والمسيانية إياها سوى نفي للحياة ذاتها، كما لاحظ نيتشه تحديداً . وجدت نفسي ، بفعل هذا التبصر ، أؤكد الحياة والشهوات والحاجات ومتع الحياة والانطلاقات الخلاقة المبدعة للإنسان: تأكيد الجسد وكل ما يمت له بصلة ( الحب، والشبق، والرياضة، والرقص، والمسرح، والفن ، والموسيقى )، وتأكيد الإنسان قوة خلاقة مفتوحة على اللانهاية قادرة على تحدي الوجود بلانهائيته. ولكم أدركت وقتها خطل مساري المسياني الذي نشأت عليه وقيد حياتي، ولكم تقت إلى الخروج منه. كم تقت إلى ممارسة الحياة بتنوعها ولانهائيتها. لقد كانت الماركسية العين التي أبصرت بها الحياة والعقل والتاريخ والطبيعة والإنسان. لكني أدركت في الآن ذاته أن الخروج من دائرة المسيانية الخلاصية إلى رحاب جدل الخلق والإبداع ومتعة الحياة ليس بالأمر الهين. إنها ليست مسألة ذاتوية إرادوية. فوعيها ليس ضمانة كافية لتحقيقها. لقد وعيت الأمر تماماً، ولكن ظل السؤال قائماً: هل يمكن أن أعيش ما وعيته؟ وخيم علي حزن لطيف دافئ آنذاك مبعثه هذا الوعي ممتزجاً بالشعور بأني لن أستطيع أن أعيشه، لأن وجداني ظل عدميا مسيّانيا، حيث إنه تشكل أصلا على هذا الأساس وما كان بالإمكان تغيير ما اعتاد عليه أصلاً.
أمام هذا الوضع المتناقض، ماذا كان عليّ أن أفعل؟ أتذكر القرار المصيري الذي اتخذته آنذاك . كنت في طريقي إلى مكتبة جامعة ليدز (بريطانيا) الجديدة، تلك التي قضيت فيها أحلى أيامي وساعاتي . أظن أن ذلك كان عام 1975، عام أوج اليسار الجديد ، عام خروج الإمبريالية الأميركية مهزومة من فييتنام. وكنت أهجس بوضعي المتناقض والتناقض القائم في ذاتي بين الحاضر والماضي، بين عقلي ووجداني ،بين الماركسية والمسيانية. وفجأة هبط على ذهني القرار المصيري الآتي : لقد أدركت حقيقة العالم والإنسان . وهذا شئ حسن . كنت متوهماً حول ماهيتهما . أما الآن ، فإني أدرك تماماً ماديتهما وجدليتهما. وهو إدراك يملأني غبطة وحماساً . لكني موقن بأني لا أستطيع أن أجسد هذا الإدراك ممارسة ووجدانيا . لم تهيئنى حياتي لذلك البتة. لم تزودني بالمهارات والأدوات لكي أعيش هذا الإدراك واقعاً وفعلاً. ستظل معوقات وعيي السابق المفوّت قائمة تشلني وتحول دون ممارستي الحياة كما يجب. فليكن ! لقد وضعت نصب عيني مهمة إبراز الحقيقة التي أدركتها ، وإيراد الأدلة عليها، والبرهان عليها. بل وسأكرس حياتي من أجل بيان أنها الحل الجدلي لتناقضات الفلسفة البرجوازية، وأنها حقيقة المثالية الألمانية (وبالذات كانط وهيغل) الكامنة فيها، بل وأنها حقيقة ظواهرية هوسيرل الكامنة فيها أيضاً. وسأعد كل شيء ثانويا بالنسبة إلى هذه المهمة التي تنتظرني . سأعيش وأحيى من أجل هذا الإدراك وهذه الحقيقة. إن تكويني الذهني النفسي نظري في جوهره . إني مجرد ذهن يدب على الأرض (يمشي) لا أكثر ولا أقل. لذلك لا أجرؤ على أكثر من ذلك. حبذا لو كان الوضع يسمح بتجسيد هذا الإدراك عمليا وحياتيا وسياسيا.لكنه لا يسمح بذلك. وعليه ، فلا سبيل إلا للفعل النظري . وهي مهمة نبيلة جليلة تستلزم بذل جهود جبارة، على أي حال.
هذا ما قررته آنذاك، وهذا ما سرت عليه مذّاك. ألا يفسر الكثير من سلوكي وترتيباتي وأوضاعي ؟ أأأالهندوسي للوعي البحث ، وشكلت جدولاً يبين أوجه التماثل بين الطرفين 0 وحين تسنى لي أن أقرأ
2010
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - سيرة
نايا
(
2011 / 10 / 1 - 10:55
)
سيرة الصيرورة الإنسانية المتمثلة بشخص القدير هشام غصيب... شكرا على فتح صفحاتها، لي وللآخرين، للتعرف عليها عن قرب ...٠
2 - كلكامش
Almousawi A. S
(
2011 / 10 / 1 - 14:03
)
سيرة حافلة وغنية
نشكرك فانت لست لذاتك بل لنا جميعا
وانت قريب ايضا فما يهزك ويقلقك هو مسار للبشرية واعية لذلك ام غافلة
اجمل ما فيك سيدي هو عزفك الرائع لمسائل غاية في الظخامة والتعقيد
فسر سيدي وصارع ولا يعقيك حزن على صديق ولا تبخل علينا بسر الخلود
3 - ازمة الكتابة هي ازمة الاسئلة الكبرى
باسل
(
2011 / 10 / 1 - 18:38
)
أرى أن أزمة الكتابة هي أزمة غياب الاسئلة الكبرى ، البشرية على مفترق طرق ونحن مشغلون بالصغائر...
الامبريالية حولت الصراع لصراع بين الحضارات.. وبدلا من ان تكون الحرب هي حرب ضد استغلال الشركات والرأسمال أصبحت حرب ضد الارهاب.. وكأن الارهاب هو السبب وليس هو نتيجة ازمة التنمية وغطرسة قوى الرأسمال...
علينا اعادة صياغة الاسئلة الكبرى.. ولكن بدلا من السعي لمجابهة الاسئلة الكبرى بحلول كبرى تتخطى امكانات الحاضر أنا ارى مع سمير امين انه يمكن ايجاد حلول جزئية مختلطة ، جيوب تنمو ضمن النظام الرأسمالي تكون خليط رأسمالي اشتراكي
ولكن الدفاع عن حق الانسان في عيش رغيد وضد كافة انواع الاستغلال هي الاولوية..
اليوم الجماهير اثبتت انها ليست قطيع من الافراد تقاد بل هي تدرك معاني الحرية والعدالة وتفرض الاذلال والاستغلال.. وليس كما تصور انها رعاع عديمة الاخلاق..
هذا ما يدفع للأمل في الكتابة..
برأي أن الحرب ضد الدين والفكر اللاعقلاني هو حرب جانبية الآن مالم تضرب على المحرك الاساسي للاعقلانية وهو الربحية الرأسمالية...
4 - شكرًا
رشاد
(
2012 / 1 / 9 - 05:32
)
استمتعت بالقراءة جدًّا...
شكرًا!
5 - الفيلسوف
طارق
(
2012 / 1 / 9 - 21:57
)
لعل الجملة الوحيدة التي هبطت الي ذهني و انا اقرأ مقالكم الرائع هي نصيحة كانط لنا بألا نردد اقوال الفلاسفة كأنها قطع من الجبس , حقا ان الوجدانات الفلسفية و المشاكل الروحية و موقف الانسان من العالم و الذات و الموضوع و الماضي هي اصل التفلسف , حين اراد افلاطون ان يبين لنا سبب التفلسف رده الي الدهشة الاليمة و لم يرده الي قراءة طاليس.
ان الفيلسوف يبدأ من موقف ذاتي في شكله لكن في مضمونه هو كل ما تنوء به هذه الذات من احمال ترجع لكونها متخارجة غير مغلقة على ذاتها,و هذا التخارج ليس الي موضوع يقف مجابها للذات بل الي ذوات اخرى ربما وقفت نفس الموقف الحضاري و مرت نفس الوجدانات هكذا وجدت لشكك شبيها عند هيوم و ظاهريتك وجدت لها شبيها عند سارتر و هوسرل و ربما مشكلتك بين الوعي المسياني و بين الماركسية و تأكيد الابداع و الخلق يوجد شبيهها عند ماركس و نيتشة.
ببساطة ليس لفلاسفة اناس غريبوا الاطوار يعيشون في عالم اخر بل هم بشر يعيشون توترا ذاتيا هكذا شكله لكن مضمونه الالتزام الحضار و الانساني...انهم يظنون الفيلسوف في صومعته نرجسيا انانيا كسلانا في حين هو بؤرة تجتمع فيها مشاكل البشر في كل عصر و مصر
6 - يبدو
عماد
(
2018 / 1 / 9 - 20:06
)
ان عظمة الكاتب تتجلى جليا في عظمة سيرته هذه.... يستحق اعادة القراءة مرات و مرات.
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز