الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطاب المغلق - من أنماط التفكير لدى العقل السياسي العربي

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2011 / 10 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حين يقوم الأب أو المعلم أو أي سلطة صغر شأنها أم عظم بالادعاء باحتكار الصواب، وامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يتجادل عليها اثنان، باعتبار أنهم أصحاب الخبرة والمعرفة فإنهم بذلك يؤسسون لخطاب مغلق، أي لخطاب القائم من طرف واحد، حيث يغيب تماماً أو يُغيّب الطرف الآخر، فلا يحسب له حساب ولا يؤخذ له برأي.
الخطاب الإسلاموي المعاصر، هو كغيره من الخطابات المغلقة الديكتاتورية التي ابتلي بها مجتمعنا وعانى منها الكثير، وأصحاب هذا الخطاب يلتجئون خلف نصوص مقدسة ويحتمون بها، وينتحلون لأنفسهم الحق بأن يكونوا مفسريها الوحيدون، أي أنهم يعملون على مصادرة كل معاني الإسلام لصالحهم، بأن يجعلوا من أنفسهم مفسريه والقيمين عليه ، ويَشْرَعون بتنشيب أسلحتهم من فوق هذه النصوص وتصويبها على رقاب الآخرين، فالاحتماء خلف نصوص جاهزة محفوظة وتحظى باحترام الأغلبية، هو أسهل بكثير من اجتراح أفكار جديدة قد تكون مثاراً للجدل وموضعا للنقد، وأسلم بكثير من عملية البحث والتقصي، لما في ذلك من صعوبات ومغامرة غير مضمونة النتائج.
ولم يدرك هؤلاء بأن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، إلا في الفكر المثالي المترف، وأن تطور أدوات المعرفة قد جرد الحقيقة المطلقة من ثوبها الزائف، وأنزلها من السماء إلى الأرض، وأزال قناعها ليظهر وجهها الأصيل، وأخضع كل النصوص لمحاكمة عنيفة، ونقد لا يرحم، بعد أن نزع عنها هالة القداسة، ولتبدو كما هي، لا كما نتمنى رؤيتها: محدودة، نسبية، قابلة للتطوير والنفي والاستبدال.
وفي عصرنا الراهن عصر المتغيرات والانقلابات المدهشة، يتوجب علينا أن لا نقبع في نسيج من الأوهام ظانين بأننا على قمة الصواب وفي كبد الحقيقة، بل أن نمتلك وسائل البحث العلمي وفق مبدأ التجربة والبرهان، وبعقلية نقدية بناءة، وذهن مفتوح، نجوب في فضاءات المعرفة والاستكشاف، بدون تحجر أو تصلب.
والإسلامويون من ممثلي الإسلام السياسي وهم يؤسسون لخطابهم الديني وفي سبيل إثبات حضورهم فإن أول ما يقومون به هو حمل المصاحف على أسنة الرماح، كما فعل أصحاب معاوية، والادعاء بأنهم ظل الله الممدود على الأرض، والأوصياء على عقول الناس، والقائمين على الإسلام الحافظين له والممثلين لنهجه الصحيح، وخلف هذه الدعاوي يواصلون جهودهم للظفر بالسلطة، والنيل من خصومهم وتكفيرهم، ثم يختفون تحتها لممارسة النـزوات والشهوات، ظانين بأنهم في المكان الأبعد عن الشبهات، حيث لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه مرددين صيحتهم الشهيرة "لا اجتهاد في النص"، فإذا مُنع الاجتهاد في النص، فأين يكون إذن ؟!
وهذا يؤكد على أهمية مراجعة هذا الخطاب، وإعادة قراءته على أسس هادئة موضوعية، خاصة وأنه قد دأب في العقود الأخيرة على ممارسة نهج غريب لإثبات تفوقه وتأكيد حضوره ونسفه للآخر من خلال آليات عديدة : فهو أولاً يبدأ بتكفير الآخر، وتخوينه وإخراجه من دار الإسلام، لمجرد الاختلاف معه في وجهات النظر، ثم لا يكف عن توجيه أية اتهامات أخرى قد تفيده في معركته الجدلية، فيبدأ النقاش بذهنية مغلقة وأفق ضيق، حاملاً وجهة نظر مسبقة، من خلال طرح المأثورات المحفوظة عن ظهر قلب، وترديدها في كل مناسبة، والتعامل بقوالب فكرية جامدة تحيطها هالة من القداسة، ولن يتورع عن الخروج عن أدب الحوار وتقاليد الإسلام الأصيلة في الجدل، والتي أمر بها الله سبحانه حين قال سبحانه: {وَجادِلُوهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنْ}، وسرعان ما يثور ويزمجر معتقداً بأن عرش السماء قد اهتز من هول ما يقوله الخصم من كفر وإلحاد ووقاحة ما بعدها وقاحة، وإذا ما صبر على نفسه واستمع لمحُاوره، فإنه حتماً لن يكون بعقل صافي وذهن مفتوح، بل ينتظره لإكمال جملته ليبدأ بعدها بترديد ما تم حفظه من قبل، وكأنه لم يسمع شيئاً أو كمن يحاور نفسه.
وأخطر ما قد يمارسه أصحاب هذا النهج المستفَز على الدوام، هو ما يعرف بالقراءة الانتقائية لخطاب الطرف الآخر، فيأخذ منه ما يريد ويترك ما يريد، وينتزع الجمل من سياقاتها ويشوهها ويشوه دلالاتها ، ويقوّلها ما لم تقله وينسب إليها ما هو موجود أصلاً في ذهنه من أحكام صادرة ضد هذا الخصم أو ذاك، على مبدأ {وَيْلٌ لِلْمُصَلّينْ}، وسيضطر حينها لتقمص دور المظلوم الباحث عن الحق، وسيضع الغرب جميعهم في سلة واحدة، ويصوره على أنه معادي للإسلام وحاقد عليه، معتمداً في ذلك على المبدأ الفاشي "من كان معي فهو صديقي، أما من هو ضدي فهو عدوي".
وهذا هو التعصب والغلو بعينه، فمشكلة هذه العقلية المتطرفة أنها تؤمن بالفكرة إيماناً مطلقاً، مع استحالة أي إمكانية لتغييرها أو تطويرها، على اعتبار أنها مقدسة ونهائية ومنـزلة من السماء، وأنها عقلية متصلبة وعنيدة في أعماقها لأن الأمر يتعلق بقراءة معينة للإسلام مندفعة إلى حدها الأقصى، فتتعمق بالدين إلى حد أنها تخرج منه مثلما يخرج السهم من الرمية، وبذلك فإن هذا الغلو الديني والتعصب الأعمى سيقود في نهاية المطاف إلى عدم فهم الدين فهماً صحيحاً، أو تمثّل روحه أو إدراك أي شيء منه، أي إلى عبور الإسلام دون أن تأخذ منه شيئاً.
والغلو والتطرف ظاهرة موجودة تاريخيا منذ القدم، ولم يكتب لها النجاح ولم تحظى بشرف التغيير إلا في فترات استثنائية قصيرة كانت سرعان ما تنقضي وتزول، والخوارج هم التعبير الصارخ عن هذه الظاهرة في صدر الإسـلام، وفي حربهم ضد جيش علي بن أبي طالب كانوا يرددون صرختهم الحربية "الرواح ، الرواح إلى الجنة" .
ومن الملفت للنظر أن هذه الظاهرة تبرز أكثر في المجتمعات البدائية، وتقل حدتها كلما تعمقت الحياة المدنية وأرست دعائمها، وقد استغلت السلطة هذه الظاهرة في مختلف العصور أبشع استغلال، فكانت الكنيسة إبان الحروب الصليبية تُنشيء دوراً لطباعة صكوك الغفران، أما إيران فقد بنت أثناء حربها ضد العراق معامل لإنتاج مفاتيح الجنة، والجماعات الإسلامية المتطرفة تشحن أعضائها - المكبوتين أصلاً - بالتعصب والغلو وتعودهم على الطاعة العمياء، وتدفع بهم إلى القتل والتخريب والانتحار، وتبني لهم قصوراً في الجنة.
إن الخطاب المغلق سيُنشيء جيلاً مقلداً بذهنية مغلقة متعصبة، وهذه الذهنية من فرط أنانيتها لن ترى إلا نفسها وستتجاهل وجود الآخرين، وتنكر عليهم حقهم في الاجتهاد وحرية الرأي، وستعمل بكل قوتها على نفيهم وتسفيه أفكارهم وإقصائهم، وهي بلا شك ستوفر المناخ الملائم لبروز الجماعات المسلحة المتطرفة المعادية للمجتمع الرافضة لتطوره، بل هي التي وفرت المناخ والظروف لبروز الأنظمة الديكتاتورية التي ملئت البلاد بالسجون والمقهورين، لتبقى تفرخ على الدوام شخصيات مضطربة قلقة يتعايش فيها الخنوع والاستبداد جنباً إلى جنب: الخنوع أمام القوي الظالم والمستبد، والتعالي أمام الضعيف والفقير.
إن الخطاب المغلق مهما كان نوعه إسلامياً أم علمانياً، ثورياً أم محافظاً .. لن يفسح المجال أمام التقدم والتجديد، وسينتج أجيالاً مشوهة ومشوشة ومتوترة بحيث تبقى تنتظر الوقت الملائم للانتقام وتفريغ شحنات القهر والكبت، وحتى تتاح لها تلك الفرصة ستبقى تعاني من الازدواج والانفصام والكذب والنفاق، لأنها لم تتعلم في يوم من الأيام كيف تحترم الآخر وتتقبل النقد وتحتمل الرأي المخالف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الصديق العني عبد الغني المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2011 / 10 / 2 - 12:36 )
شكر وتقدير
الغلق يعني طمر الصح والخطاء...الغلق يعني منع الاحتكاك والمناقشه والتحاور
نعم ينتظر ولا يجيب لياخذ ما يريد لان سقفة واطيء وما فوق السقف هو المغلق المحرم
عندما يقول جادلهم يعني انفتح عليهم وتواصل معهم وناقش المطروح بادب ودقه وعلم وانتباة لكنهم يحرفون حتى المقدس لانهم يريدون اغلاقه وهو يصرخ ناقشهم جادلهم بالتي هي احسن
ولو تعود لكل خزين اللغه لن تجد قول اوضح وافصح وادق من جادلهم بالتي هي احسن
الغلو والتطرف سلاح المفلسين
لو حضرتم جنابكم نقاش بين اثنين ورايت احدهم هادي وملتزم ويطرح طرح علمي والاخر يتهور ويعرب ويكفر ماذا سيكون حكمكم على الاثنين
تقبل تحياتي وهي لقطة اخرى ذكيه وجميله تثيرها كما السابقات ننتظر منكم ايها الكريم المزيد لنستزيد


2 - احسنت
سنان اسماعيل ( 2011 / 10 / 5 - 14:28 )
شكراً لكاتب المقال الرائع الذي اوجز بهِ جملة من مشاكل الخطاب الاجتماعي العربي وليس السياسي فقط .

اخر الافلام

.. غموض يحيط بمصير هاشم صفي الدين بعد غارة بيروت.. ما هو السينا


.. مصادر طبية: 29 شهيدا في يوم واحد جراء القصف الإسرائيلي على ق




.. خليل العناني: المنطقة العربية في حالة اشتعال بسبب الإدارة ال


.. وزير لبناني يخشى -غزة ثانية- بعد القصف الإسرائيلي العنيف




.. بايدن يحضّ إسرائيل على عدم ضرب المنشآت النفطية الإيرانية